تاريخ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بين المصادر الإسلاميَّة والفرضيات الإسرائيليَّة 3من 5
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
هيكل أورشليم في المسيحيَّة
تكرَّرت الإشارة إلى هيكل أورشليم في العهد الجديد، وكان وجوده ماديًّا، حيث جرت فيه العديد من الأحداث الهامَّة، وكذلك كان وجوده عقائديًّا، بأن يُفهم فداء يسوع المسيح للبشريَّة بصلْبه في سياق نظام التَّضحية وتقديم القرابين المنصوص عليه في العهد القديم، والَّذي كان هيكل أورشليم مركزه. ومن نماذج الوجود المادّي للهيكل في العهد الجديد سرْد إنجيل لوقا قصَّة ظهور ملاك الرَّبّ للكاهن زكريَّا، زوج خالة مريم العذراء، ليبشّره بقدوم ابن له “فَبَيْنَمَا هُوَ يَكْهَنُ فِي نَوْبَةِ فِرْقَتِهِ أَمَامَ اللهِ. حَسَبَ عَادَةِ الْكَهَنُوتِ، أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُبَخِّرَ. وَكَانَ كُلُّ جُمْهُورِ الشَّعْبِ يُصَلُّونَ خَارِجًا وَقْتَ الْبَخُورِ. فَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عَنْ يَمِينِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ” (إنجيل لوقا: إصحاح 1، آيات 8-11). وهناك نموذج آخر للوجود المادّي للهيكل، في إشارة إنجيل يوحنَّا إلى واقعة تعنيف يسوع للتُّجَّار والصَّيارفة الَّذين حوَّلوا ساحة الهيكل إلى سوق تجاري “وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيبًا، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَرًا وَغَنَمًا وَحَمَامًا، وَالصَّيَارِفَ جُلُوسًا. فَصَنَعَ سَوْطًا مِنْ حِبَال وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ، اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ، وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: «ارْفَعُوا هذِهِ مِنْ ههُنَا! لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ!»” (إنجيل يوحنَّا: إصحاح 2، آيات 13-16).
غير أنَّ أكثر إشارة إلى هيكل الرَّبّ يجدر ذكْرها في العهد الجديد هي الدَّالَّة على الوجود العقائدي للهيكل، والخاصَّة باعتبار يسوع المسيح قربانًا بشريًّا لتخليص البشر أجمعين من آثامهم. يبرز في إشارة بولس الرَّسول إلى يسوع بوصفه “الكاهن الأكبر” للهيكل إلى الأبد بما قدَّمه تضحية من شأنها التَّكفير عن الآثام، كما أنَّ في ممارسة الشَّعائر الدّينيَّة في الهيكل بقيادة الكاهن الأكبر تكفير “أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنَّكَ: «كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ»” (رسالة بول الرَّسول إلى العبرانيين: إصحاح 7، آية 17). يعتبر بولس الرَّسول أنَّ يسوع، المنحدر من سبط يهوذا، قد استحدث كهنوتًا جديدًا يحلُّ محلّ الكهنوت المتوارث عن كهنة سبط لاوي “فَلَوْ كَانَ بِالْكَهَنُوتِ الّلاَوِيِّ كَمَالٌ إِذِ الشَّعْبُ أَخَذَ النَّامُوسَ عَلَيْهِ مَاذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ بَعْدُ إِلَى أَنْ يَقُومَ كَاهِنٌ آخَرُ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ؟” (رسالة بول الرَّسول إلى العبرانيين: إصحاح 7، آية 11). ويعيد بولس الرَّسول التَّأكيد على أنَّ دماء يسوع حقَّقت الخلاص لأتباعه، وأهَّلتهم إلى دخول قُدس الأقداس في هيكل الرَّبّ، الَّذي أصبح يسوع بمثابة كاهنه الأكبر “فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ. طَرِيقًا كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثًا حَيًّا، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ. وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ” (رسالة بول الرَّسول إلى العبرانيين: إصحاح 10، آيات 19-21).
من الطُّقوس اليهوديَّة الَّتي تنصُّ عليها الشَّريعة ويلزم اتّباعها قبل دخول الهيكل التَّطهُّر بماء الخطيئة، بخلط ماء عذب برماد بقرة حمراء، ويرى بولس الرَّسول أنَّ يسوع أهَّل أتباعه لدخول الهيكل بأن طهَّرتهم دماؤه إلى الأبد: “لَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُول، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيًّا. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى الْمُنَجَّسِينَ، يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ الْجَسَدِ. فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ للهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ!” (رسالة بول الرَّسول إلى العبرانيين: إصحاح 9، آيات 12-14). أصبح يسوع المسيح، المصلوب في عيد الفصح، بمثابة نموذج لضحيَّة العيد، المذكورة في سفر الخروج “تَكُونُ لَكُمْ شَاةً صَحِيحَةً ذَكَرًا ابْنَ سَنَةٍ، تَأْخُذُونَهُ مِنَ الْخِرْفَانِ أَوْ مِنَ الْمَوَاعِزِ” (سفر الخروج: إصحاح 12، آية 5). دخل يسوع الهيكل بذلك باعتباره ضحيَّة عيد الفصح ليُذبح وتطهّر دماؤه أتباعه؛ فيصبح بذلك الكاهن الأكبر الَّذي خلَّصهم من خطاياهم.
يُشار إلى هيكل الرَّبّ في زمن الرُّسُل والمسيحيين الأوائل باعتباره مكان الصَّلاة والعبادة “وَصَعِدَ بُطْرُسُ وَيُوحَنَّا مَعًا إِلَى الْهَيْكَلِ فِي سَاعَةِ الصَّلاَةِ التَّاسِعَةِ. وَكَانَ رَجُلٌ أَعْرَجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يُحْمَلُ، كَانُوا يَضَعُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ بَابِ الْهَيْكَلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ «الْجَمِيلُ» لِيَسْأَلَ صَدَقَةً مِنَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْهَيْكَلَ. فَهذَا لَمَّا رَأَى بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا مُزْمِعَيْنِ أَنْ يَدْخُلاَ الْهَيْكَلَ، سَأَلَ لِيَأْخُذَ صَدَقَةً” (سفر أعمال الرُّسُل: إصحاح 3، آيات 1-3). ومع خروج الرُّسُل من حدود الأرض المقدَّسة لنشْر إنجيل الرَّبّ وعرضه على الأغيار، انصرف التَّركيز عن الهيكل، وقلَّت الإشارة إليه، حيث لم يُشر إلى أحداث وقعت فيه خلال السنوات القليلة الَّتي سبقت دماره عام 70 ميلاديًّا. مُنع اليهود من دخول أورشليم بعد دمار الهيكل، الَّذي استغلَّ الرومان حجارته في بناء معالم أثريَّة تخصُّهم، وسعوا إلى فرْض عقيدتهم الدّينيَّة على أهل الأرض المقدَّسة ومَن بقي من بني إسرائيل في أورشليم، ممَّن سخطوا من ذلك التَّصرُّف، واستمرُّوا في زيارة جبل الهيكل، أملًا في إعادة بناء هيكل أورشليم. خرج اليهود في ثورة ضدَّ الحُكم الرُّوماني عام 135م، عُرفت بثورة شمعون بار كوخبا، لكنَّ الرُّومان أخمدوها، واستأصلوا شأفة من بقي من اليهود في أورشليم، الَّتي أعادوا تسميتها وأطلقوا عليها إيليا كابيتولينا (Aelia Capitolina)، ثمَّ شيَّدوا مكان الهيكل معبد جوبيتر كابيتولينوس (Jupiter Capitolinus).
يعتبر لاندكويست أنَّ أهمَّ حدث يتعلَّق بالهيكل في تاريخ المسيحيَّة هو اعتناق الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأوَّل المسيحيَّة واتّخاذها دينًا رسميًّا للإمبراطوريَّة البيزنطيَّة عام 312م. بعد إقرار مجمع نيقية عام 325م بألوهيَّة يسوع المسيح، أمَر قسطنطين الأوَّل بهدم معبد جوبيتر كابيتولينوس الَّذي بُني على حطام هيكل أورشليم. وباقتراح من هيلانة، والدة قسطنطين الأوَّل الَّتي اعتنقت المسيحيَّة ويُقال أنَّها هي الَّتي أقنعته باعتناقها، شُيّدت كنيسة القيامة بالقرب من المنتدى الرُّوماني، جنوب غربي القُدس، وعلى بُعد 400 متر من جبل الهيكل. حملت الكنيسة ما للهيكل من رمزيَّة، من حيث اعتباره سُرَّة للعالم؛ ومن ثمَّ أصبحت القُدس من جديد مركزًا للعالم، لدرجة أنَّ بعض المؤرّخين رأوا أنَّ عهد قسطنطين الأوَّل أعاد للمدينة مجد حُكم سليمان. وينتقل الباحث إلى مسألة تأثُّر العمارة المسيحيَّة بما ورد في الكتاب المقدَّس عن المدينة السَّماويَّة (Celestial City)، في وصْف هيكل سليمان، وفيما جاء في سفر حزقيال، وفي سفر الرُّؤيا، وصارت الكنائس تُصمَّم بوصفها تجسيدًا أرضيًّا لتلك المدينة. ترَك نموذج مدينة أورشليم السَّماويَّة أثره على العمارة القوطيَّة، وهي العمارة السَّائدة في أوروبا في القرون الوسطى العليا والمتأخّرة، وصارت القبَّة السَّماويَّة من أهمّ معالم الكنائس الَّتي بُنيت بعد عام 1144م، أي بعد بناء كاتدرائيَّة سان دوني في باريس، نمطًا متكرّرًا عند بناء الكنائس الجديدة.
قبَّة كاتدرائيَّة سان دوني-فرنسا
وترجع تسمية “مدينة أورشليم السَّماويَّة” إلى ما ورد في رؤيا يوحنَّا اللاهوتي عن رؤية المدينة المقدَّسة نازلة من السَّماء، وقد اتَّخذها الرُّبُّ مسكنًا له: ” ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ. وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا. وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا: «هُوَ ذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهًا لَهُمْ” (سفر رؤيا يوحنَّا اللاهوتي: إصحاح 21، آيات 1-3). من هنا، أدخل طراز العمارة القوطيَّة فكرة “بوَّابة السَّماء” على تصميم الكاتدرائيَّات.
قبَّة كاتدرائيَّة كانتربيري-إنجلترا
أدخل تصميم بعض الكنائس فكرة استخدام قبَّة وجدران زجاجيَّة تسمح بدخول “النُّور الإلهي” إلى القاعات.
قبَّة كنيسة سانت تشابيل-فرنس
المفهوم الإسلامي عن هيكل أورشليم/بيت المقدس
يدَّعي لاندكويست أنَّ التُّراث الدّيني اليهودي-المسيحي ترك أثرًا واضحًا على الخلفيَّة الثَّقافيَّة لسُكَّان شبه الجزيرة العربيَّة قبل بعثة النَّبي مُحمَّد (ﷺ)، مؤكّدًا أنَّ شهرة أنبياء الكتاب المقدَّس، وكذلك شهرة هيكل سليمان، قد اخترقت تلك البقعة. يضيف الباحث أنَّ معرفة العرب بالهيكل يثبتها ذكْره في بعض المصادر الإسلاميَّة غير القرآن الكريم في صدر الإسلام، زاعمًا أنَّ الهيكل كان مقدَّسًا لدى العرب حينها. عرف العرب أورشليم باسم مدينة بيت المقدس، نسبة إلى دار العبادة الَّذي يقع بداخلها، والمفترَض أنَّه هيكل أورشليم، ولكن لم يُذكر اسم الهيكل أو المدينة صراحةً في القرآن الكريم. أشار القرآن إلى بيت المقدس (בית המקדש) باسم الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، في قوله تعالى “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ” (سورة الإسراء: الآية 1). من الأمور المثيرة للانتباه أنَّ الله تعالى قد أشار إلى بيته الَّذي يأوي الكعبة المشرَّفة، قبلة المسلمين، في فترة ما قبل بعثة النَّبي مُحمَّد (ﷺ) باسم البيت المُحرَّم، كما جاء على لسان نبيّنا إبراهيم (عليه السَّلام) “رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” (سورة إبراهيم: الآية 37). فهل كما كان المسجد الحرام يُعرف باسم البيت المُحرَّم، كان اسم الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى البيت المُقدَّس، ثمَّ تحوَّر بحسب لهجة سُكَّان منطقة الشَّام إلى بيت المقدِس، كما يشير هذا النَّصُّ في العهد القديم إِنَّكَ قَدِ اخْتَرْتَنِي لِشَعْبِكَ مَلِكًا، وَلِبَنِيكَ وَبَنَاتِكَ قَاضِيًا. وَأَمَرْتَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَيْكَلًا فِي جَبَلِ قُدْسِكَ، وَمَذْبَحًا فِي مَدِينَةِ سُكْنَاكَ عَلَى مِثَالِ الْمَسْكَنِ الْمُقَدَّسِ الَّذِي هَيَّأَتَهُ مُنْذُ الْبَدْءِ” (سفر الحكمة: إصحاح 9، آيتان 7-8)؟
مكانة الصَّخرة المشرَّفة في الإسلام
الصَّخرة المشرَّفة وفوقها القبَّة الذَّهبيَّة في مُصلَّى قبَّة الصَّخرة-الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى بالقُدس الشَّريف
يفترض الباحث أنَّ مكَّة المكرَّمة والكعبَّة المشرَّفة يمثّلان في الإسلام ما تمثّله أورشليم والصَّخرة المشرَّفة في اليهوديَّة والمسيحيَّة: “المدينة الكونيَّة والمعبد؛ سُرَّة الأرض؛ نقطة التقاء السَّماء والأرض؛ الحرَم السَّماوي المنقول إلى الأرض؛ مكان الخلْق الأوَّل؛ ومسكن آدم وحوَّاء” (ص184). يضيف الباحث أنَّ المسلمين نقلوا إلى مكَّة والكعبة الكثير من الرُّموز الَّتي تخصُّ أورشليم وهيكلها، وبخاصَّة الأساطير المرتبطة بتعظيم الصَّخرة المشرَّفة في اليهوديَّة في صورة الكعبة، واعتبار أنَّ مكَّة خُلقت قبل كلّ شيء، وأنَّ معبدًا سماويًّا يقع فوقها. يذكر أبو بكر الواسطي، وهو مؤرّخ إسلامي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، في كتابه فضائل بيت المقدس، أنَّ هضبة موريا هي ثاني خُلق على الأرض بعد مكَّة، وأنَّ الله تنزَّل إلى ذلك الموقع بعد الخلْق، وأنَّ ذلك الموقع شهد معجزات النَّبيين داود وسليمان، وأنَّه موقع بناء بيت المقدس، وأنَّه المكان الَّذي صلَّى فيه النَّبيُّ (ﷺ)إمامًا بالأنبياء والرُّسُل ليلة الإسراء والمعراج، كما ذَكر في سُنَّته المطهَّرة.
ينقلنا الحديث عن ليلة الإسراء والمعراج إلى الإشارة إلى أنَّ صلاة نبيّنا مُحمَّد (ﷺ) إمامًا بسائر أنبياء الله تلك اللية يمثّل، كما يفترض لاندكويست، أهمُّ دور لعبته أورشليم وهيكلها في الإسلام، وهو يأتي بعد اتّخاذ الْمَسْجِد الْأَقْصَى ، أو بيت المقدس كما كان اسمه، قبلةً للمسلمين، قبل تحويل القبلة إلى المسجد الحرام في 17 رجب عام 2 هجريًّا، مصداقًا لقوله تعالى “قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ” (سورة البقرة: الآية 144). أمَّا عن سبب تحويل القبلة إلى المسجد الحرام فقد كان اتّخاذ يهود المدينة المنوَّرة بيت المقدس قبلةً لهم، وبما أنَّهم كانوا يخالفون المسلمين في العقيدة، ورفضوا دخول الإسلام، فكان من المنطقي مخالفة المسلمين لهم في اتّجاه القبلة، خاصَّة وأنَّ بعض اليهود أشاعوا أنَّ النَّبيَّ (ﷺ)، باتّباع قبلتهم، كان يتقرَّب إليهم ويشهد بتفوُّقهم العقائدي على رسالته. غير أنَّ الحقيقة هي أنَّ اليهود قد ضلُّوا عن القبلة الأصليَّة، وهي المسجد الحرام، أو بيت الله المُحرَّم، وأضاعوا صلاة الجمعة، وحرَّفوا صحيح شعائر الدّين، كما ينقل الإمام أحمد في المُسند (6/134-135)، عن أمّ المؤمنين عائشة، عن النَّبيَّ (ﷺ) “إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمِينَ”. يُذكر في السّياق ذاته أنَّ العرب كانوا قد دنَّسوا الكعبة المشرَّفة بالأصنام، وصل عددها إلى 360 صنمًا، بعد أحياء العرب، وكان في الاتّجاه إلى الكعبة وهي في تلك الحالة ما يؤذي مشاعر المسلمين ويثير الفتنة باتّباعهم قبلة المشركين حينها. ويروي الإمام البخاري في صحيحه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ (ﷺ) مَكَّةَ، وَحَوْلَ البَيْتِ سِتُّونَ وَثَلاَثُ مِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: {جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، {جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}”. أمَّا بعد خروج المسلمين من مكَّة، فقد صار المسجد الحرام مجرَّد اتّجاه تُحوَّل إليه الصَّلاة، من جديد تجنُّبًا للفتنة باتّباع قبلة اليهود المخالفين لصحيح الإسلام في عقيدتهم.
في إشارة جديدة إلى احتفاظ الإسلام بما للصَّخرة المشرَّفة من رمزيَّة في اليهوديَّة والمسيحيَّة، يذكر لاندكويست عن معراج النَّبي (ﷺ) إلى السماء من بيت المقدس. ما يُفهم من حديث النَّبي(ﷺ)، الوارد في صحيح مُسلم (162) عن أنس (رضي الله عنه) “أُتِيتُ بالبُراقِ، وهو دابَّةٌ أبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الحِمارِ، ودُونَ البَغْلِ، يَضَعُ حافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قالَ: فَرَكِبْتُهُ حتَّى أتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، قالَ: فَرَبَطْتُهُ بالحَلْقَةِ الَّتي يَرْبِطُ به الأنْبِياءُ، قالَ ثُمَّ دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فيه رَكْعَتَيْنِ…”، أنَّ الأنبياء السَّابقين كان يُعرج بهم إلى السماء من تلك البقعة، وفي هذا ما يثبت عن الْمَسْجِد الْأَقْصَى مفهوم “المعبد السَّماوي”، الَّذي كوَّنه عنه أهل الكتاب من قبل، والَّذي يُعتقد أنَّه يقع فوق المعبد الأرضي، أي المسجد. يضيف الباحث أنَّ الصَّخرة المشرَّفة كانت موقع العروج بالنَّبيّ(ﷺ)، مشيرًا إلى ما يُروى عن وجود آثار قدميه (ﷺ) على الصَّخرة، ما كذَّبه الشَّيخ أحمد العجمي المصري في رسالته “تنزيه المصطفى المختار عمَّا لم يثبت من الآثار”، مستندًا إلى أقوال ابن تيمية وان كثير، كما يشير عبد الغني النَّابلسي في كتابه الحضرة الأنسيَّة في الرّحلة القُدسيَّة (1990م). يشير الباحث إلى ما لم يثبت عن أنَّ الكهف الواقع أسفر الصَّخرة المشرَّفة تكوَّن بعد أن صعد الصَّخرة لتلقى قدمي النَّبي (ﷺ).
جدير بالذّكر أنَّ السُّلَّم السَّماوي الَّذي يُروى عنه في رؤيا يعقوب (سفر التَّكوين: إصحاح 28، آية 12)، قد ورد في السُّنَّة النَّبويَّة ما يحاكي وصْفه، حيث يروي البيهقي في دلائل النُّبوَّة (390/2، 391)، عن أبي سعيد الخُدري، أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) قال “ثُمَّ دَخَلْتُ أَنَا وَجِبْرِيلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّيْتُ، ثمَّ أُتِيتُ بِالْمِعْرَاجِ“؛ وكذلك يذكر ابن هشام في السّيرة النَّبويَّة (403/1)، عن ابن إسحق، عن أبي سعيد الخُدري، أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) قال “لَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ، وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَمُدُّ إلَيْهِ مَيِّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إذَا حُضِرَ، فَأَصْعَدَنِي صَاحِبِي فِيهِ، حَتَّى انْتَهَى بِي إلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ“. والمقصود بالمعراج هو السُّلَّم الَّذي ارتقاه النَّبيُّ الكريم ليصعد إلى السَّماء، حيث أخذه السُّلَّم إلى أحد أبوابها؛ وفي ذلك ما يثبت أنَّ فوق الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى منفذٌ إلى السَّماوات العلا، ولكن بالطَّبع لا تتحقَّق معجزة العروج لأيّ شخص، إنَّما هي من معجزات الأنبياء؛ والدَّليل قوله (ﷺ) “فَأَصْعَدَنِي صَاحِبِي فِيهِ“، في إشارة إلى أمين الوحي جبريل (عليه السَّلام)، الَّذي صاحَب النَّبيَّ في رحلته، وتولَّى مهمَّة إصعاده للقاء ربّه.
يحاول لاندكويست من جديد التَّشكيك في صحَّة رحلة الإسراء والمعراج من خلال الإشارة إلى أنَّ قصَّة صعود اخنوخ، أحد الأنبياء الأوائل يُرجَّح أنَّه النَّبيَّ إدريس (عليه السَّلام)، إلى السَّماء كانت معروفة لدى العرب في الجاهليَّة، على الرَّغم من قلَّة المصادر المعروفة عن سيرة اخنوخ قبل اكتشاف مخطوطات البحر الميّت عام 1947م. تشير الدُّكتورة هدى درويش، أستاذ الدّراسات اليهوديَّة، في كتابها نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهوديَّة والإسلام (2008م)، إلى الاعتقاد السَّائد بأنَّ اخنوخ هو النَّبيّ إدريس، المذكور في القرآن الكريم المذكور مرَّتين: في قوله تعالى “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)” (سورة مريم: آيتان 56-57)، وفي قوله “وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ” (سورة الأنبياء: الآية 85). تضيف درويش أنَّ قلَّة المصادر الإسلاميَّة عن إدريس دفعت ابن كثير، كما يشير في البداية والنّهاية، إلى الاستناد إلى تفسير كعب الأحبار، وهو حبر يهودي أعلن دخوله الإسلام في زمن أمير المؤمنين عُمر بن الخطَّاب (رضي الله عنه وأرضاه) اعتُبر بذلك من التَّابعين، للآيتين 56 و57 من سورة مريم، امتثالًا لأمر النَّبيّ (ﷺ)، الوارد في صحيح البخاري (11/1) “بلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرجَ، ومن كذبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعدَهُ من النَّارِ “. يذكر كعب الأخبار أنَّ النَّبيَّ إدريس ارتقى إلى السَّماء الرَّابعة لتُقبض روحه هناك، لمَّا حان أجله. أمَّا عن رحلة اخنوخ السَّماويَّة، وهي مختلفة تمام الاختلاف، فلم تُعرف إلَّا بعد اكتشاف سفر اخنوخ بين مخطوطات البحر الميّت عام 1947م، والَّتي لم يُكشف عن محتواها للعامَّة إلَّا بعد أكثر من نصف قرن، والسّفر ليس من النُّصوص اليهوديَّة المقدَّسة، أي لا يعترف به اليهود.
(المصدر: رسالة بوست)