تأملات واقتراحات حول التكوين بمؤسسات الدراسات الإسلامية
إبراهيم حركات
واقع الدراسات الإسلامية
إن هذا الموضوع أوسع وأعمق من أن يتناول في فقرة أو بضع فقرات، ولذلك لا مناص من الاقتصار على عدد من النقط الأساسية:
1 – مفهوم الدراسات الإسلامية:
هذه الدراسات هي أوسع من مجرد العلوم الإسلامية، فهناك أيضا فنون إسلامية، وأنماط من الحضارة الإسلامية، وأوضاع اجتماعية ترتبط بالمجتمع المسلم محليا أو في نطاق واسع، إلى آخر ما يمكن أن تشمله الدراسات الإسلامية، ولذلك كان منطوق الدراسات الإسلامية أكثر ملاءمة حتى ترتبط المعارف الإسلامية التقليدية بما جد من أوضاع، وبما يفتح عقلية المثقف المسلم بوجه عام.
2 – تدريس العلوم الإسلامية حلقات مترابطة:
تبدأ المعرفة الإسلامية انطلاقا من المؤسسة الابتدائية، حيث لا يخصص لهذه المعرفة سوى حصة أسبوعية واحدة، تستمر كذلك تقريبا في المرحلتين الإعدادية والثانوية، فيما عدا تخصص الدراسات الإسلامية، ومع ذلك يمكن القول إن المواد الأخرى خصوصا العربية والتاريخ لها أيضا قابلية لاستيعاب المعرفة الإسلامية بشكل ينبغي أن لا يحد من التفتح الإنساني الذي لا مفر منه للتطور، فضلا عن استجابته لمفهوم النصوص القرآنية العديدة: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا).
ولا حاجة إلى التأكيد بأن المعرفة الإسلامية في مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي بحاجة إلى إعادة نظر جذرية في محتواها وطرق تبليغها وعملية تكوين المختصين بها وحتى اختيارهم.
فالمعرفة الإسلامية إذا كانت تحتاج إلى مؤلفات واضحة سهلة الاستيعاب فهي تحتاج في عصرنا أيضا إلى أن يعاد إليها اعتبارها كعملية تربوية، وأن تتحول في تخصص الدراسات الإسلامية إلى مادة حية تجمع بين الوسائل السمعية والبصرية واكتساب الخبرة والأعمال التطبيقية المكثفة، وكل هذا قبل المرحلة الجامعية.
3 – المرحلة الجامعية:
ينبغي النظر في هذه المرحلة إلى الدراسات الإسلامية من عدة زوايا:
• من حيث المادة العلمية.
• من حيث طرق التبليغ.
• من حيث الإشعاع المعرفي.
• من حيث الهدف.
أ – من حيث المادة العلمية:
يبدو أن هامشا واسعا ترك لكتب التراث من جهة، وأن المناهج المقررة لم تضع في الحسبان المشكلات الفقهية والاجتماعية الطارئ بعضها منذ زمن طويل، كالمعاملات المصرفية، ونظام الشركات، وبعضها حديث نسبيا كقضايا الشغل وفقا للمدونات العصرية.
وبادئ ذي بدء، فإن القطيعة مع كتب التراث ليست واردة في ذهن أي مصلح أو داع إلى الإصلاح، فالاعتماد على النص التراثي في علوم أو مواد معينة، من شأنه إذا أحسن اختياره أن يدفع بالطالب إلى البحث والتنقيب، ويضعه أمام أفكار ووجهات نظر قد تتعارض أو تتقارب، ويحمل الأستاذ على صياغة القواعد والأحكام والآراء المعقدة، بأسلوب صحيح، غير أن كتب التراث ليست كلها من القيمة العلمية والبيداغوجية بحيث تصلح دائما كمقررات رسمية. كما أن حاجة الطلاب إلى مواد إضافية ووسائل عمل حديثة يتطلبها العصر تجعل من المستحيل استيعاب كتب ضخمة ومتعددة في عصر السرعة والتطورات المتتالية التي نعيشها، فما العمل والحالة هذه؟ إن تقرير كتب ضخمة لدراستها كاملة غير ممكن عمليا في حدود الزمن المقرر رسميا.
وعلى ذلك، فالنصوص الكاملة ذات الحجم الصغير بإضافة نصوص يحسن اختيارها كل سنتين، من المؤلفات الكبرى، على أساس أن تدرس بعناية وعمق، يترك مجالا محترما للتراث، ويفتح مجالا لمواد أو موضوعات علمية تكميلية وأساسية مع ارتباطها بمجال التخصص.
وإذا كانت مؤسسات التخصص العالي في الدراسات الإسلامية كدار الحديث الحسنية وسلك التخصص العالي بالقرويين تستقبل منذ سنوات طلابا معظمهم وافدون من التعليم الثانوي الأصيل، وبالتالي فهم على معرفة ببعض اللغات الأجنبية، فإن هذا يزكي ضرورة إعطاء لغة أو لغتين أجنبيتين ما يثري معارفهم في اللغات الأجنبية، ثم عطاءهم في البحث والمقارنة بين النظريات والتوجيهات الإسلامية من جهة، وما يقوله أو يراه الآخرون وتشريعاتهم من جهة أخرى.
إن العلوم الإسلامية وما لحقها من أدوات معرفية وعلوم مكملة، عرف بعضها أوضاعا وتطورات خلال القرون الماضية منذ صدر الإسلام، وبعضها نما واتسع ثم تقلص حجما وطريقة. والذين اجتهدوا لتدوين هذه العلوم والمعارف أو تشذيبها أو حتى اختصارها يلتقون كلهم في رحاب الصالح العام أو صالح الطرف الذي يريد أن يستفيد من عملهم بصرف النظر عن وجهة نظر الآخرين. وهكذا فبعد صحيحي البخاري ومسلم ظلت المصنفات الأخرى في موضوعهما عالة عليهما أو تتحلق حولهما في الغالب.
وتفسير القرآن الكريم بعد أن بدأ مبسطا في عصر الصحابة، ومعززا بالأحاديث النبوية التي يروونها، ازداد تفصيلا على يد الطبري، ثم تداولته المذاهب والنحل كل بمنظوره أو حسب أهوائه. وفيما بين ذلك خاض فيه من خاض، من حيث اللغة والبيان أو بحسب القراءات، أو بالرجوع إلى التأويل بطريق الحديث النبوي، ثم ظهر في العصر الحديث من استفاض في شرح الآيات الكونية خصوصا الجوهري الطنطاوي، إلى أن انتشر في القرن الماضي تفسيران يترك كل منهما هامشا واسعا للقضايا الإسلامية من خلال عدد من آيات القرآن الكريم، وتأثرا في ذلك بنظرة الإمام محمد عبده التجديدية، وهما التفسيران الذي أنجز أحدهما الشيخ رشيد رضا، والثاني سيد قطب.
وعلوم البلاغة بدأ تقعيدها في القرن الثالث ولم تستكمل إلا في الثامن، بينما أبدع العالم النحوي الكبير سيبويه في القرن الثاني دقائق النحو العربي في مبانيه ومعانيه، وربطه ربطا محكما باللغة. ولم يكد يدخل القرن الخامس حتى بدأ فصل اللغة عن النحو. وخلال القرن الثامن كان على ابن آجروم الصنهاجي أن يضع أصغر مجموع لقواعد النحو حتى ييسره على المبتدئين، لا في المغرب فحسب، بل حيث تدرس العربية في العالم الإسلامي.
وأثيرت قضايا الإيمان والصفات منذ القرن الثاني، فنشأ علم الكلام الذي غذاه المعتزلة بأفكارهم خصوصا خلال القرنين الثالث والرابع، ثم تقلص هذا العلم أو على الأقل أصبح يعرف بعلم الاعتقاد على يد الأشاعرة ليصبح في مرحلة متأخرة مجرد توحيد يكتب فيه السنوسي في القرن التاسع متنه المشهور.
وهذه التطورات تراوحت بين التوسع والتقلص، وبين التجديد والجمود، وهو ما حصل في علوم إسلامية أخرى كالفقه والأصول، فباستثناء النوازل فيما يخص المذهب المالكي بالمغرب، وما كتبه ابن رشد في الخلاف العالي أو في مسائل المذهب، لم يطرأ جديد يذكر على المادة الفقهية منذ كتبت مدونة سحنون.
ونتيجة لما تقدم، ينبغي:
أولا – توسيع إطار المعرفة الفقهية بإدخال ما جد من قضايا.
ثانيا – إغناء فقه الحديث بصيغ أكثر تيسيرا.
ثالثا – إعطاء الأصول والخلاف العالي حقهما في المادة العلمية، فهما خير ميدان لمعرفة طرق الاستنباط والتأويل، استنادا إلى القرآن الكريم والحديث النبوي.
رابعا – النظر إلى المعرفة الإسلامية على أنها إثراء مستمر، وتجديد متواصل للقواعد والأحكام بطريق الاجتهاد والبث في القضايا الطارئة على النطاق الوطني إلى حين أن تفكر الأطراف المعنية في إحداث مجمع إسلامي للشرعيات، يرتبط بمنظمة المؤتمر الإسلامي، ويبدأ قبل كل شيء بالنظر في القضايا المعاصرة وإصدار أحكام موحدة بشأنها، قبل مراجعة الخلافات المذهبية القديمة والتقريب بين المذاهب بشأنها.
ب – من حيث طرق التبليغ :
إن الطرق التي كانت متبعة في تبليغ المعرفة الإسلامية إلى حلقات الدرس هي:
أولا – شرح نصوص وإعادة شرحها بالاعتماد على نصوص وشروح مكتوبة، وهذه الطريقة كانت أغلب في أكثر مجالس العلم المغاربية.
ثانيا – طريقة التقرير التي يفصل فيها الأستاذ المادة بشكل مباشر، حتى ولو كان هناك كتاب مقرر، وهذه كانت الطريقة الغالبة بالمشرق.
ثالثا – الحوار يجري مع الطالب والحاضرين إما خلال الدرس أو في نهايته وهو الأكثر.
إن فرض طريقة معينة على الأستاذ الجامعي الآن تتعارض في الواقع مع حرية الأستاذ في اختيار منهجه، وهو عرف دولي قديم ومستمر، لكن إذا كان الاعتماد بشكل مباشر على النصوص واتخاذ الشروح الرئيسية مصادر للاستئناس والتوسع، فربما كان اختيارا أنسب، على أن يترك هامش كاف للمحاضرات المباشرة، وفي كل الأحوال يتعاون الطلاب على إعداد العروض والبحوث خارج بحوث الشهادات المقررة، كما أن دورهم في الحوار والتعليق يزيد المحاضرات قيمة بيداغوجية وينشط أذهان الطلاب للفهم والاستيعاب.
غير أن الأخذ بالوسائل الحديثة خصوصا الحاسوب والإنترنت ينبغي أن يكون لهما دور في تجميع المعلومات وتوسيعها وترتيبها، وفي الكشف عن المصادر والأبحاث في جهات العالم الإسلامي، وفي التواصل مع المختصين ومراكز البحث.
ج – من حيث الإشعاع المعرفي :
إن الإشعاع المعرفي لطلاب التخصص الوافدين من الخارج هو جزء قيم من الإشعاع الواسع الذي يمكن أن تتولاه دار الحديث الحسنية، بل إن هذا ما يتم فعلا الآن، من حيث قيام هؤلاء الطلاب في بلدانهم بعد إنهاء دراستهم، بالتدريس وأعمال البحث والمسؤوليات والوظائف التي يختارونها أو يتولونها، كما أن طلاب المغرب يقومون بمهمات مماثلة ومتنوعة في بلادهم.
على أن الإشعاع المعرفي يتم أيضا عن طريق الأبحاث الرصينة التي تنشر أو يمكن أن تنشر، وعن طريق الندوات المحلية والدولية الإسلامية، وبتبادل المحاضرين والزيارات العلمية وتبادل أفواج ولو محددة من الطلاب، يطلعون على سير الدراسات الإسلامية ويتواصلون مع زملائهم طردا وعكسا، كما أن التلفزة يمكنها أن تقوم بدور فعال في عقد الحوارات الإسلامية في موضوعات جادة وذات أولوية.
وإذا أمكن المزيد من المنح لصالح الطلاب الوافدين، خصوصا من الجهات المهمة التي لم تستفد من هذه المنح، أو التي استفادت بقلة، فإن هذا يزيد من أهمية الإشعاع المعرفي ويوسع دائرة التواصل العلمي.
د – من حيث الهدف :
إن هدف تكوين طلاب الدراسات الإسلامية متعدد الوجوه:
أولا- الحصول على تكوين علمي جيد.
ثانيا- الإعداد إما بشكل مباشر أو غير مباشر لخوض غمار الحياة العملية بأفضل الطرق الممكنة.
ثالثا- إعداد باحثين من مستوى عال.
رابعا- الإسهام في الإشعاع العلمي بمختلف الوسائل، وهذا ما سبق توضيحه.
فالتكوين العلمي الجيد هو حق كل طالب مهما كان توجهه بعد التخرج.
والإعداد للحياة العملية يرتبط أساسا بما يريده الطالب وما يستطيعه، وما يتوفر في سوق العمل. ولكن هذا لا يحط عن مؤسسة التكوين ثقل المسؤولية في تحقيق التوازن بين الأهداف المشار إليها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. وعلى سبيل المثال، لا يمكن لدار الحديث الحسنية أن توجه الطالب مباشرة إلى عمل يطمح إليه بعد تخرجه، ولكنها تستطيع أن ترفع من مستوى التكوين العلمي وأن تنفتح بالضرورة على بعض موضوعات الساعة، وأن تضيف اختصاصا جديدا أو أكثر دون أن تبتعد عن خصوصياتها. كما أن تشجيع الأبحاث الإسلامية بنشر أفضل ما يناقش من أطروحات، ومساهمة الأساتذة المهتمين وبعض الخريجين في الندوات العلمية الإسلامية داخل المغرب وخارجه، وربما فتح قسم أو شعبة للخلاف العالي، إلى غير ذلك مما سبقت الإشارة إلى بعضه، من شأنه أن يسهم في الدفع بالبحوث الإسلامية ويشجع بعض الطلاب على الاتجاه في ميدان البحث إذا كانت شواغلهم المهنية تسمح لهم بذلك، حيث لا يوجد مركز للبحوث الإسلامية بالمغرب، بل ولا في بلدان إسلامية أخرى كثيرة.
وضع البحث الإسلامي وتوجهه الجامعي
إن البحوث الإسلامية بالمغرب لم تخضع قط لدراسة شاملة ولا لإحصاءات دقيقة، ومن ثم، فالحسم في الحكم عليها أو لها بشكل منصف يظل غير ممكن بما يرضي دارس الموضوع والمتابع له. وإحداث مركز للإحصاءات والمتابعات الإسلامية أصبح ضرورة قصوى لخدمة الأساتذة والباحثين والطلاب وكل الأطراف التي تحتاج إلى مساعدته، بل يمكن أن يكون نموذجا لمراكز مماثلة في دول إسلامية أخرى.
على أن البحث الإسلامي بالمغرب لا يخرج عن نطاقات أربعة:
• ما تصدره مجلات متخصصة ترتبط غالبا بمؤسسات علمية وجامعية.
• ما يصدر من مؤلفات وتحقيق لبعض كتب التراث.
• ما ينبثق عن بعض الندوات من دراسات ومداخلات مدونة ومنشورة.
• أبحاث الأطروحات والرسائل.
وينبغي القول بأن ما ينشر من دوريات ومؤلفات ذات قيمة قليل من حيث الكم، لأن الدوريات غير منتظمة في الغالب، أما الدراسات والبحوث نفسها فتختلف قيمة وإفادة، لكن هناك تطورا متزايدا في طرافة الموضوعات وعمقها.
أما الأبحاث الجامعية فتتفاوت بين ضعف المستوى وتوسطه وارتقائه، ومن الإنصاف القول بأن الحكم يشمل أبحاث التخصصات الأخرى أيضا، أي التي ترتبط بغير الدراسات الإسلامية، مع فارق أساسي هو أن الجانب المنهجي وأدوات البحث المتنوعة لهما دور أكبر في التخصصات غير الدراسات الإسلامية.
كذلك من الإنصاف التأكيد بأن عددا من الأبحاث التي أنجزت كرسائل وأطروحات دولة في دار الحديث الحسنية ترتقي إلى أفضل مستوى، بينما بعضها الآخر يقل مستوى وقيمة، لكن الدكتوراه الجديدة، بصرف النظر عن المدركات العلمية لمن يحصلون عليها لا يمكن بحال أن تكون مؤهلا لدرجة الأستاذية في مستوى الإشراف على الأبحاث المرتبطة بالسلك الثالث، فضلا عن أن تجعل من صاحبها عالما بالمعنى الذي تتطلبه الدراسات الإسلامية.
ولا مجال للمقارنة مع عالمية القرويين القديمة وما يوازيها، لأن حملة هذه العالمية كانوا جميعا أو في أغلبيتهم الساحقة يقصرون دراستهم منذ نعومة أظفارهم على الدراسات الإسلامية وآلات المعرفة الإسلامية إلى حين حصولهم على العالمية، وإن حرموا من دراسة العلوم العصرية أو لقنوا بعضها بشكل هامشي وجزئي. وعلى ذلك وتداركا لانحدار المستوى العلمي فإن نظام الدكتوراه الجديد لا يخدم من الوجهة العلمية الأهداف التي توخاها تشريع إنشاء هذه المؤسسة التي يندر مثالها على صعيد العالم الإسلامي، حتى وإن كان قصد التشريعات الحديثة مراعاة توحيد الأنظمة والقدرات الاستيعابية لميزانية الدولة. فلا مناص، والحالة هذه، من التقريب بين هذين الاعتبارين وخصوصية الدراسات الإسلامية في أعلى مستويات تخصصها.
(المصدر: مجلة “الواضحة” العلمية المحكمة)