بقلم الشيخ د. محمد الهبدان
لقد كان سلفنا الصالح قمماً في الاقتداء ، ونبراساً في التأسي والاهتداء بهدي رب الأرض والسماء ، ففي كل صغيرة وكبيرة من أمور حياتهم ، وشؤون عيشهم ، يتحرّون سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ويتلمسون منهاج رسولهم ، فنالوا بذلك وسام خير القرون ، وفازوا بصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحققوا بهذا الاتباع الإنجازات الباهرة ، والانتصارات الرائعة .
لذا كان علينا – أحبتنا الكرام – أن نقرأ سيرهم ، ونتلمس أخبارهم ، حتى نسير سيرهم ونبلغ المجد الذي بلغوه ، والخير الذي سطروه. وسير هؤلاء العظماء متنوعة ..
لكننا سنتطرق لما يخصنا في هذه الأيام فنتعرف على أحوالهم في الصيام ..وأحوالهم من أحسن الأحوال ، فما كانت وجوههم تكفهر لبلوغ شهر الصيام ، وما كانت نفوسهم تنقبض لإدراك شهر الصيام ..وما كانوا يتضايقون لعبادة الصيام ، لأن السنة كلها عندهم صيام! نعم .. لقد أدركوا فضل الصيام وما له من الأجر الكبير من المليك العلام فهو القائل كما في الحديث القدسي : ” كل عمل بن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ” رواه البخاري ..فلماذا لا يفرحون بالصيام والله يقول : إنه لي وأنا أجزي به ” فأي تكريم كهذا ؟ وأي شرف مثل هذا ؟ ولهذا أصبحوا يتنافسون في عبادة الصيام ..والمداومة عليه طوال العام ..سوى ما حرم عليهم الكريم العلام ..فهذا ابن عمرو رضي الله عنهما يقول :” أنكحني أبي امرأة ذات حسب فكان يتعاهد كَنّته ـ وهي زوجة الولد ـ فيسألها عن بعلها فتقول: نعم الرجل من رجل ، لم يطأ لنا فراشا ولم يفتش لنا كنفا مذ أتيناه ، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:” القني به ” فلقيته بعد ، فقال : كيف تصوم ؟ قلت : كل يوم ..قال : وكيف تختم ؟ قلت ..كل ليلة ..قال : ” صم في كل شهر ثلاثة واقرأ القرآن في كل شهر ” قال : قلت أطيق أكثر من ذلك.. قال :” صم ثلاثة أيام في الجمعة” قلت : أطيق أكثر من ذلك ..قال :” أفطر يومين وصم يوما ” قال : قلت : أطيق أكثر من ذلك ..قال : ” صم أفضل الصوم صوم داود صيام يوم وإفطار يوم واقرأ في كل سبع ليال مرة ” فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك أني كبرت وضعفت فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياما وأحصى وصام أياما مثلهن كراهية أن يترك شيئا فارق النبي صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري ..
ولقد حدث عنه مولاه نافع ..فقال : كان ابن عمر لا يصوم في السفر ، ولا يكاد يفطر في الحظر ..
و آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وبين أبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال : ما شأنك متبذلة ..قالت : إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ..قال ..فلما جاء أبو الدرداء ..قرّب إليه طعاما فقال :كل فإني صائم ..قال ..ما أنا بآكل حتى تأكل ..قال : فأكل ..فلما كان الليل ..ذهب أبو الدرداء ليقوم ..فقال له سلمان : نم فنام ثم ذهب يقوم ..فقال له : نم فنام ..فلما كان ثم الصبح قال له سلمان : قم الآن فقاما فصليا ..فقال: إن لنفسك عليك حقا ، ولربك عليك حقا ، ولضيفك عليك حقا ، وإن لأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه ..فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك فقال له: “صدق سلمان ” رواه الترمذي وصححه.
لقد شغلهم حب الصيام ..عن مضاجعة النساء على الفرش ..نعم لقد أدركوا أن من أظمأ نفسه في هذه الحياة ..فلن يظمأ في الآخرة في دار القرار بإذن الواحد القهار ..لقد أدركوا أن الصائمين يدخلون من باب خاص إلى جنات النعيم ..يسمى باب الريان .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” للصائمين باب في الجنة يقال له : الريان ..لا يدخل منه أحد غيرهم ..فإذا دخل آخرهم ..أغلق ..من دخل شرب ..ومن شرب لم يظمأ أبدا ” رواه ابن خزيمة .. ولماذا لا يصومون ..وصوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلجل في آذانهم :” من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا ” رواه البخاري ..ولماذا لا يعشقون الصيام ونبيهم قد أعلمهم :” إن في الجنة غرفة ..يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ..أعدها الله لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلى والناس نيام ” رواه أحمد وحسنه الألباني ..الغرفات معدة للصائمين يا أخي ..وما أدراك ما الغرفات ؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري لبعدهم في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم ” رواه البخاري ومسلم لبعدهم ورفعتهم وصفاء لونهم وخلوص نورهم ..يقول الله تعالى :{ كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } قال مجاهد : نزلت في الصائمين ..من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله يرجو ما عنده ..عوض ذلك في الجنة ..من ترك شيئا لله عوضه الله عنه خيراً مما تركه ..فكيف بمن قلصت شفاهه عطشا ..قال يعقوب بن يوسف الحنفي : بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة : يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قصلت شفاهكم عن الأشربة ، وغارت أعينكم ، وجفت بطونكم ، كونوا اليوم في نعيمكم ، وتعاطوا الكأس فيما بينكم ..وقال الحسن : تقول الحوراء لوليّ الله وهو متكئ معها على نهر العسل تعاطيه الكأس : إن الله نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين وأنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش فباهي بك الملائكة وقال : انظروا إلى عبدي ترك زوجته وشهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي رغبة فيما عندي اشهدوا أني قد غفرت له فغفر لك يومئذ وزوجنيك [1] .
فيا قوم ألا خاطب في الصوم إلى الرحمن ، ألا راغب فيما أعده الله للطائعين في الجنان ، ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم مع أنه ليس الخبر كالعيان .
من يرد ملك الجنان فليدع عنه التـواني
وليقم في ظلمة الليل إلى نور القــرآن
وليصل صوماً بصوم إن هذا العيش فاني
إنما العيش جوار الله في دار الأمان
لذلك كان السلف رحمه الله يتحسرون لفراق الحياة …لا حباً بأشجارها وأنهارها ..ولا شوقاً إلى نسائها وبهرجها ..ولكن لظمأ الهواجر ..وقيام الليل .. لما حضرت معاذا الوفاة قال ..انظروا أصبحنا ؟..فأتي فقيل : لم تصبح ..فكرر ذلك مراراً .. حتى أتى في بعض ذلك ..فقيل له : قد أصبحت قال ..أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار.. مرحبا بالموت ..مرحبا زائرا مغيب حبيب ..جاء على فاقة ..اللهم إني قد كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك ..اللهم أن كنت تعلم أنى لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار ..ولا لغرس الشجر.. ولكن لظمأ الهواجر ..ومكابدة الساعات ..ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر [2]..فيا لله من هذه القلوب .. التي أصبح حرمان النفس من الطعام والشراب ..أشهى إليها من جري الأنهار ..وغرس الأشجار .. ولما حضر الموت عامر بن قيس ..جعل يبكي ..فقيل له ما يبكيك ؟قال : ما أبكي جزعا من الموت ..ولا حرصا على الدنيا ..ولكن أبكي على ظمأ الهواجر ..وعلى قيام الليل في الشتاء ..وعن عبيد الله بن محمد التيمي حدثني بعض أشياخنا أن رجلا من عامة هذه الأمة حضرته الوفاة فجزع جزعا شديدا وبكى بكاء كثيرا ..فقيل له في ذلك فقال:ما أبكي إلا على أن يصوم الصائمون لله ولست فيهم .. ويصلي المصلون ولست فيهم..ويذكره الذاكرون ولست فيهم..فذاك الذي أبكاني [3]..وقال أبو بكر النيسابوري : حضرت إبراهيم بن هانئ عند وفاته فجعل يقول لابنه إسحاق : يا أبا إسحاق ارفع الستر ..قال : يا أبت الستر مرفوع ..قال : أنا عطشان فجاءه بماء ..فقال : غابت الشمس ؟ قال : لا ..فرده ..ثم قال : لمثل هذا فليعمل العاملون ثم خرجت روحه [4].. أرأيتم كيف اشتياقهم لفعل الطاعات ..وتهافتهم لعمل الخيرات ..لقد فارقوا الملذات ..وهجروا المباحات ..وما حصل منهم ذلك إلا لأنهم ذاقوا طعم الإيمان ..فبكوا لفراق الحياة ..لا حباً فيها ..ولكن لفوات تلك الأعمال ..فلا إله إلا الله ..من لم يدخل جنة الدنيا لم يدخل جنة الآخرة .. يقول بعض العارفين : إنه ليمر بالقلب أوقات أقول : إن كان أهل الجنة في مثل هذا ..إنهم لفي عيش طيب ..ويقول بعض المحبين : مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها ..قالوا: وما أطيب ما فيها ..قال : محبة الله والأنس به ..والشوق إلى لقائه.. والإقبال عليه .. والإعراض عما سواه [5] ..
ولم يكن صيام السلف رحمه الله عن الطعام والشراب فحسب ..وأطلقوا ألسنتهم بالغيبة والنميمة والكذب والبهتان ..والتندر بالناس والاستهزاء بهم ..ولم يكن صيامهم كسل ونوم ..وسهر بالليل إلى قبيل الفجر ..كلا ..لم يكن من ذلك شيء ..بل كانوا يحافظون على صيامهم ..عن كل ما يخدشه ..فهم صاموا نهاره فأحسنوا الصيام ..وقاموا ليله فأحسنوا القيام ..وبين هذا وذاك تلاوة للقرآن ، وذكر واستغفار ، وندم وبكاء ، وخوف ورجاء ، أولئك هم الذين انتفعوا برمضان حق الانتفاع ..يقول ابن رجب رحمه الله : ( كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها ) وكان التابعي الجليل قتادة رحمه الله يختم القرآن في كل سبع ليال مرة ، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة ، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة ، وكان الإمام الزهري إذا دخل رمضان قال : إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام ..أما عن قيامهم بالأسحار ، ومناجاتهم للواحد الغفار ..فيقول السائب بن يزيد أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما بالناس بإحدى عشر ركعة ، قال : وقد كان القارئ يقرأ بالمئين ، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام ، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر ” خشية أن يفوتنا الفلاح ـ أي السحور ـ . [6]
وكان كثير من السلف يواسون من إفطارهم أو يؤثرون به فكان ابن عمر يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين ، فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة ، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه للسائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة فيصبح صائماً ولم يأكل شيئا ، وكان يتصدق بالسكر ويقول :” سمعت الله يقول :{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } والله يعلم أني أحب السكر ..وكان الحسن يُطعم إخوانه وهو صائم تطوعاً ويجلس يروحهم وهم يأكلون ..وكان ابن المبارك يطعم إخوانه في السفر الألوان من الحلواء وغيرها وهو صائم ..سلام الله على تلك الأرواح ، رحمة الله على تلك النفوس ، لم يبق منهم إلا أخبار وآثار ، كم بين من يمنع الحق الواجب عليه وبين أهل الإيثار
لا تقعدن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
ولقد كانوا يحفظون صيامهم عن قبيح الكلام ، فلا سباب ولا خصام ..ولا غيبة ولا بهتان، بل امتثلوا هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم في قوله : ” الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه ..فليقل : إني صائم ” رواه البخاري .
وحفظ اللسان يكون في سائر الأحوال ويتأكد في حال الصيام .. لأن الذي استطاع أن يمنع نفسه من الطعام والشراب والشهوة ..لماذا يعجز عن كف لسانه عن السب و الشتائم ، ويحفظ لسانه عن سيء الكلام.
ومن اهتمام السلف بالصيام ..كانوا يمرنون أطفالهم عليه ..ويسلونهم باللعب حتى ليشعروا بطول النهار .. فأخرج البخاري ومسلم عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم ..ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناهم إياه ، حتى يكون عند الإفطار ..رواه مسلم ..فهذا الموقف يكشف لنا حال السلف مع الصيام ..وكيف كانوا يربون أولادهم عليه ..وهذا الذي ينبغي أن نكون عليه بأن نربي أبناءنا على الصيام ..وألا يتسرب إلى قلوبنا تلك الحيلة ..ها هؤلاء صغار ..ألا ترحمهم ..
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
إذن هكذا كان حال السلف مع الصيام ..ما كانوا يضيعون أوقاتهم باللعب ..وما كانوا يقضون صيامهم بالنوم ..نعم هم ينامون لكن ليس كما ننام ..نحن ننام الكثير من الوقت في النهار ..ونسهر في الليل ..ولكن هم على العكس من ذلك ..فأين نحن من أخلاق السلف ؟ وأين نحن من هذه الصور الرائعة ؟!!
——————————————————————–
[1] ـ لطائف المعارف ص 177
[2] ـ الزهد لابن أبي عاصم (1/11) .
[3] ـ شعب الإيمان (3 / 414) .
[4] ـ تاريخ بغداد (6/206) .
[5] ـ مدارج السالكين (1/454) .
[6] ـ رواه مالك وصححه الألباني .