بُشرى المُسافرين وسلوى المُغتربين
بقلم محمد عبد الرحمن صادق
إن مفارقة الأهل والأحباب من أصعب الأمور على النفس؛ ذلك للارتباط الفطري للإنسان بمسقط رأسه وبذكريات طفولته التي تترك بصمتها على شخصيته طوال حياته، بيد أن الإنسان قلما يقضي كل حياته في مكان واحد، فتراه يسافر هنا وهناك لسبب أو لآخر -اختيارياً أو إجبارياً- ولكن ما إن يسافر حتى تراه يشعر بلوعة الحنين إلى الوطن.
كلما طال بعد الإنسان عن وطنه كلما زاد الحنين الذي يُنغص عليه كل حياته مهما امتلك من ملذات الدنيا ، إلى أن يعود لوطنه، وقد عُرِف عن العرب قديماً أنهم كانوا إذا سافروا حملوا معهم من تراب الوطن ليشموا رائحته وليأنسوا به وليهوِّن عليهم غربتهم بل وليتداووا به في بعض الأحيان.
إن أصعب شيء على نفس الإنسان هو أن تسلخه من وطنه الذي نشأ فيه، أو أن تقتلعه من أصوله وجذوره التي ينتمي إليها، أو أن تجرده وتحرمه من تراب أرضه الذي سيُواريه بعد موته، كما أن أشد العقوبات على النفس هي: التغريب، النفي، التهجير، الإجلاء… إلى غير ذلك من العقوبات التي تحرم المرء من وطنه وأهله وذويه.
يقول الرافعي القزويني: “ولولا نزوع النَّفس، إلى مسقط الرَّأس، ودائرة الميلاد، لم ينزل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ} [القصص:85].
ويقول الإمام الغزالي رحمه الله: “والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفراً مُستوحَشاً، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص”.
وجاء في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- الذي أخرجه البخاري، أنها قالت: “لَمَّا قَدِمَ رَسولُ اللَّهِ – ﷺ – المَدِينَةَ، وُعِكَ أبو بَكْرٍ، وبِلالٌ… إلى أن ذكرت أن بلال -رضي الله عنه- قال: “اللَّهُمَّ العَنْ شيبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ كما أخْرَجُونَا مِن أرْضِنَا إلى أرْضِ الوَبَاء”ِ.
أولاً/ بواعث السَّفر وحُكمه
وإذا البلاد تغيّرت عن حالها * فدع المقام وبادر التحويلا
ليس المقام عليك فرضاً واجباً * في بلدة تدع العزيز ذليلا
إن الباعث إلى السفر هو الذي يُبيِّن حُكمه الشرعي، فإذا كان السفر لغرض شرعي كأداء فريضة الحج ومناسك العمرة أو لتحصيل العلم أو للجهاد في سبيل الله أو لطلب الرزق أو لزيارة الإخوان أو للهروب من ظلم مانع من أداء شعائر الدين -كما أمر الله ورسوله- وكل ما من شأنه النفع والفائدة والأجر، فهو مُباح.
أما إذا كان الغرض من السفر هو الذهاب إلى أماكن الفسق والفجور، ومُناصرة الظلم والظالمين، ورحلات العري والخلاعة والمُجون، وكل ما يقع في هذا الباب فهو حرام شرعاً وفاعله على خطر كبير.
وأحياناً يكون الخروج من الوطن والبُعد عنه هو الخيارَ الأمثل، بل يكون واجباً شرعيّاً؛ حِفظاً للدين وحفاظاً على النفس . قال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً} [النساء:75].
ثانياً/ فوائد السفر
إن السفر ليس بالشر المُطلق فكما أن للسفر مساوئ وعيوباً، إلا أن له فوائد جمَّة ومنافع عديدة، للحد الذي يجعل كمال النضج وتمام الفكر واتزان الشخصية لا يكون إلا بالسفر.
قال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء:100].
يقول الإمام الرازي – رحمه الله – في تفسيره: “ومن يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سبباً ليرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية؛ وذلك لأن من فارق وذهب إلى بلدة أجنبية فإذ استقام أمره في تلك البلدة الأجنبية، ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك…”.
كما يقول أيضاً: “… وإنما قدَّم في الآية ذِكر رغم الأعداء على ذكر سِعة العيش؛ لأن ابتهاج الإنسان الذي يُهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم عليه بدولته من حيث إنها تصير سبباً لرغم أنوف الأعداء، أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث إنها صارت سبباً لسعة العيش عليه”.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي – ﷺ – قال: “سافروا تصِحُّوا، واغزوا تستَغنوا” [الجامع الصغير]، وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – قال: “ماتَ رجلٌ بالمدينةِ مِمَّن وُلِدَ بِها، فصلَّى عليهِ رسولُ اللَّهِ ﷺ ثمَّ قالَ يا ليتَهُ ماتَ بغيرِ مولدِهِ قالوا ولمَ ذاكَ يا رسولَ اللَّهِ قالَ إنَّ الرَّجلَ إذا ماتَ بغيرِ مولدِهِ قيسَ لَه من مولدِهِ إلى منقطَعِ أثرِهِ في الجنَّةِ” (رواه النسائي).
وجاء في كتاب “اللطائف والظرائف” للثعالبي رحمه الله: “قال أحد الحكماء: السفر أحد أسباب المعاش التي بها قوامه ونظامه؛ لأن الله تعالى لم يجمع منافع الدنيا في أرض بل فرقها وأحوج بعضها إلى بعض، ومن فضله أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علما، ويفيده فهما بقدرة الله وحكمته، ويدعوه إلى شكر نعمته، ويسمع العجائب ويكسب التجارب ويفتح المذاهب ويجلب المكاسب، ويشد الأبدان وينشط الكسلان ويُسلي الأحزان، ويطرد الأسقام ويُشهِّي الطعام، ويحط سَوْرة الكبر، ويبعث على طلب الذكر”.
ومما قاله الإمام الشافعي – رحمه الله – عن فوائد السفر:
تغرب عن الأوطان في طلب العُلا * وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
إزالة هم واكتساب معيشة * وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار غمٌّ وكربة * وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من حياته * بدار هوان بين واش وحاسد
وللسفر فوائد أخرى كثيرة نذكر منها بإيجاز شديد:
• الاعتبار بمصارع الظالمين، والبعد عن وضيع وسافل أفعالهم خشية نيل ما نالهم من غضب وسخط وعقاب.
• التفكر في كون الله تعالى وبديع صنعه.
• المسافر مًستجاب الدعوة.
عن أبي هريرة – رضي الله عنه -أن النبي- ﷺ – قال: “ثلاث دعواتٍ مستجاباتٌ دعوةُ المظلومِ ودعوةُ المسافرِ ودعوةُ الوَالِد على وَلدهِ” (سنن الترمذي)، وقال ابن رجب في “جامع العلوم والحكم”: “ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصولِ انكسارِ النفس بطول الغربة عن الأوطان، وتحملُ المشاقِّ والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء”.
• يُكتب للمسافر من الأعمال الصالحة ما كان يفعلها قبل سفره.
عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن النبي ﷺ قال: “إذا سافَر ابنُ آدَمَ أو مرِض كتَب اللهُ له مِن الأجرِ مثلَ ما كان يعمَلُ وهو مُقيمٌ صحيحٌ” (صحيح ابن حبان).
• التعبد لله تعالى بأحكامه الشرعية التي لم تشرع إلا في السفر.
ثالثاً/ عيوب السَّفر
إن السفر وإن كان له فوائد ومنافع كثيرة إلا أنه لا يخلو من العيوب، ويكفينا أن نتذكر حال النبي ﷺ وهو مهاجر من مكة إلى المدينة رغم أن سفره كان شرعياً وضرورياً، عن ابنِ عباسٍ -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: “ما أطيبَكِ مِن بلدةٍ وأحَبَّك إليَّ ولولا أنَّ قومي أخرَجوني منكِ ما سكَنْتُ غيرَكِ” (صحيح ابن حبان)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: “السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ، يَمْنَعُ أحَدَكُمْ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ونَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إلى أهْلِهِ” (صحيح البخاري).
قال الإمام النووي رحمه الله: “معناه: يمنعه كمالَها ولذيذَها؛ لِمَا فيه من المشقَّة والتعب، ومقاساة الحر والبرد، والسُّرَى والخوف، ومفارقة الأهل والأصحاب، وخشونة العيش”.
جاء في كتاب “المستطرف” للأبشيهي رحمه الله: “قيل لأعرابي: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزومِ الأوطان، والجلوس مع الإخوان، قيل له: ما الذِّلة؟ قال: التنقُّلُ في البلدان، والتنحِّي عن الأوطان”.
رابعاً/ نصيحتي للمسافر والمغترب
1. ضع في ذهنك أن الغربة وسيلة وليست غاية.
2. حدد هدفك من السفر، وقلل سقف الطموح بقدر المُستطاع، كي لا تتحول الغربة إلى غاية، أو تعيش في دوامة لا تنتهي.
3. حافظ على ثوابت أخلاقية، ومعتقداتك الدينية، ولا تذوب في مجتمع الغربة مهما طالت مدة السفر.
4. اربط نفسك وأسرتك بالوطن الأم من أهل وأصدقاء ومعارف وزملاء ، تواصل معهم وتفقد أحوالهم وشاركهم مناسباتهم، وضع في ذهن أسرتك أن الغربة وضع مؤقت؛ كي لا يصعب عليهم التكيف مع الوطن الأم بعد العودة والاستقرار.
5. اعمل في غربتك كأنك ستعيش فيها أبداً، وتعلق بوطنك كأنك ستسافر إليه غداً.
6. إذا كانت غربتك اضطرارية ولا سبيل آمن للعودة، حاول أن تتكيف مع الظروف الموجودة في البلدة التي تقيم بها -مع الالتزام بما سبق ذكره من نصائح- وجرِّب البدائل والتوازنات، وثق أن هذا هو قدر الله تعالى فتلقاه بطيب خاطر وبسعة صدر وبيقين أن الله تعالى بقدرته ومشيئته سيبدل حالك إلى أفضل حال.
7. ثق أن الله تعالى سيفتح لك من أبواب الخير ما تقر به عينك، وما يُرغِم به أنف عدوك، فلا تتعجل ولا تمل ولا تقنط ولكن كن على ثقة بتحقق الوعد، وأنه على الباغي تدور الدوائر.
أسأل الله تعالى أن يحفظ كل مسافر، وأن يرزق كل مغترب من واسع فضله، وأن يرد الجميع إلى أوطانهم سالمين غانمين مأجورين.
(المصدر: موقع بصائر)