بين هيئة عالية للإفتاء.. ولجنة وزارية للفتوى
بقلم محمد المأمون مصطفى القامسي الحسني
اختلفت الآراء، وتعدّدت الملاحظات، بشأن ” الفتاوى” الّتي ظهرت الحاجة إلى استصدارها، في الآونة الأخيرة، عندما حلّت “جائحة الكورونا” ببلادنا، وانتشرت في العالم من حولنا. فقد رأينا البعض يخالفون هذه الفتاوى، فيما انتهت إليه؛ مع العلم أنّها مؤصّلة، وصدرت عن نخبة من الفقهاء المشهود لهم بالعلم والورع. وانصبّت جلّ الانتقادات على الإطار الّذي اختارته وزارة الشؤون الدينية والأوقاف لإصدار الفتوى؛ ألا وهو:”اللجنة الوزارية للفتوى “. فهذا العنوان يجعلها، في نظر الملاحظين، تكتسي “طابع الإدارة الرسميّ “؛ والأحرى في تقديرهم أن تتحلّى الفتوى بالاستقلالية، وتكتسي “طابع العلم الشرعيّ “.
هكذا يرى النّاس واقع الفتوى في بلادنا؛ في ظلّ فراغ سببه غياب ” هيئة “، مضى على تقديم مشروعها عشرون عاما؛ ومازال حبيس الأدراج. ويرى البعض أنّ الفراغ، في مجال الفتوى، ناجم عن تقصير المجلس الإسلامي الأعلى، منذ عهدته الأولى، في دراسة النوازل والمسائل المستجدّة؛ وإصدار الرأي الشرعيّ بشأنها؛ مع أنّها من صميم المهام الّتي أُنشئ من أجلها. ويبدو أنّ الوزارة تبحث عن البديل؛ فوجدته في ” لجنة وزارية ” تصدر الفتوى، ثم تحيلها إلى المجلس الإسلاميّ الأعلى ليصادق عليها.
إنّ رؤيتي اليوم إلى موضوع “الفتوى”، وواقعها في بلادنا، هي رؤيتي ذاتها التي كتبتُ عنها، منذ تولّيتُ إدارة التوجيه الديني، في وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، سنة 1972م؛ وتحدّثت بشأنها إلى أولياء الأمور، في مناسبات مختلفة. وسأتناول، في بحث لاحق، بإذن الله، محطّات لها أهمّيتها ودلالتها؛ تتّصل كلّها بموضوع الفتوى؛ وأكتفي بذكر بعضها، في الورقة المصاحبة؛ راجيا أن يكون التاريخ شاهدا لنا، لا شاهدا علينا؛ وتكون أعمالنا، إن شاء الله، حجّة لنا، لا حجّة علينا.
في البحث المشار إليه، تحدّثتُ عن لقاء جمعني ببعض أولياء الأمور، في مطلع عام 2004م. وخلال اللقاء، طلبوا رأيي في موضوع ” مفتي الجزائر”، ومشروع دار الإفتاء. وبدا لي من حديثهم أنّ ما كان يشغلهم في هذا الملفّ أمران:
أوّلهـمـا: “شخصية المفتي” الذي يتولّى هذا المنصب، والمعايير الّتي تُشترط في اختياره، ومن أهمّها أن يحظى بالقبول لدى المجتمع، بمكوّناته ومؤسّساته الدّينية، وهيئاته العلمية.
ثانيهما: “الخشية من تضارب الصلاحيات”، بين الهيئة المراد إنشاؤها وبين المجلس الإسلاميّ الأعلى.
وكان رأيي الّذي أبديته في هذا اللقاء: أنّ قضية الصلاحيات يفصل فيها النصّ القانوني المؤسّس لكلتا الهيئتين؛ وينبغي أن نتوخّى فيهما الوضوحَ والدقّة، في تحديد صلاحيات كلّ من المؤسّستين، وبيان مجالات التعاون والتكامل بينهما.
أمّا عن قيادة الهيئة، فقد أبديتُ تصوّري لطريقة اختيار أعضائها، بما فيها صيغة الانتخاب لمن يرأسها؛ وذلك ضمانا لمصداقيتها واستقلاليتها. وبذلك نتجاوز إشكاليتين: من يصلح لمنصب المفتي، ومن أيّ فئة يُختار. ومن يرضى عنه ويقبله جلّ الناس. وقد وثّقتُ هذا التصوّر في رسالة بعثتها إليهم، بعد لقاء جمعني بهم، مرة أخرى، خلال عام 2013م.
في هذا اللقاء تناولنا موضوع المجلس الإسلاميّ الأعلى، ومشروع هيئة الإفتاء. وكان ممّا تناوله حديثنا النظرُ في الاستغناء عن مشروع الهيئة، وإعطاء المجلس الإسلاميّ الأعلى كافّة الصلاحيات التي تضمّنها مشروعها، تحاشيا للازدواجية، وتلافيًا لتضارب الصلاحيات. فوضّحتُ لهم ما كنتُ أبديتُه من قبل في هذا الموضوع؛ كما هو مبيّن أعلاه؛ وألححتُ على توخّي الدقّة والوضوح في بيان الصلاحيات الّتي تحدّدها النصوص التأسيسية، والمراسيم التنظيمية؛ مهما تكن الصيغة الّتي ستُختار؛ مؤكّدا ضرورة التعجيل بحسم الاختيار. ودعوتُ، على وجه الخصوص، إلى الحرص على توافر الشروط الموضوعية فيمن يُختارون لهذه المهمّة؛ وفي طليعتها الصدقية والاستقلالية، والكفاءة العلمية؛ وأن يكونوا من المشهود لهم بالاستقامة والاعتدال، والسمعة الطيّبة في الأوساط الاجتماعية؛ فضلاً عن تفقّههم في الدين، ومعرفتهم بمقاصد رسالته.كما ينبغي أن تكون لهم معرفة واسعة بقضايا العصر ومستجدّات الحياة؛ وأن يكونوا من الملتزمين بمرجعيتنا الدينية وثوابتنا الوطنية.
وقلتُ بشأن قيادة الهيئة، في حال إقرارها: إنّ أنجع أسلوب أراه مناسبا لها يتمثّل في اختيار رئيس الهيئة من بين أعضائها، عن طريق الانتخاب، لمدّة محدّدة، قابلة للتّجديد لعهدة واحدة؛ ثم يكونُ التداول على الرئاسة، وفق أحكام النظام التأسّيسي، الّذي تنشأ الهيئة بموجبه. وقد وثّقتُ اقتراحاتي في رسالة وجّهتها إلى كلّ من السّادة: رئيس الجمهورية، والوزير الأوّل، ووزير الشؤون الدينية والأوقاف، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى.
وها نحن اليوم في بداية الفصل الثاني من عام 2020م؛ وقد مضى على تقديم مشروع “هيئة الإفتاء” عشرون (20)عاما؛ ومرّ على تأسيس المجلس الإسلاميّ الأعلى اثنان وعشرون (22) عاما وثلاثة شهور. وواقع الفتوى في بلادنا، كما نعيشه ونراه؛ لا سيما في الظروف الراهنة.
فإلى متى يستمرّ هذا الوضع المختلّ؛ ومعه التردّد في حسم الأمور، بين الإبقاء على مشروع هيئة الإفتاء، الذي ظلّ يراوح مكانه بين التأجيل والإلغاء، وبين الاستغناء عنه والاكتفاء بالمجلس الإسلاميّ الأعلى، بعد توسيع صلاحياته، وإعادة النظر في نصّه التأسيسيّ، الذي حدّد كيفية التكفّل بمهامّه؛ وجاء في محتواه العام، لينزل بمكانة المجلس المعنوية، ويقع في تناقض مع الدستور. وقد جُعل هذا المجلس هيئة دستورية، كما صرّح أولياء الأمور، من أجل أن يكتسب قيمته، ويكون له نفوذه الدينيّ والأدبي، وتأثيره الإيجابي. لكنّ الذي حصل هو العكس، بمقتضى المرسومين: الأوّل والمعدّل؛ وكلاهما يجعل المجلس، إلى وقتنا الراهن، أبعد ما يكون من أهداف رسالته.
وقد كنتُ وجّهتُ رسالة إلى زملائي أعضاء المجلس، بتاريخ الفاتح من صفر 1438ه، الموافق للفاتح نوفمبر 2016م؛ أبديتُ فيها رؤيتي لرسالة المجلس، كما أفهمها، مشفوعة بملاحظات سجّلتها، وأنا أواكب مسيرته، منذ بداية عهدته. ومما قلته في رسالتي تلك:
«..إنّ مسؤولية المجلس الإسلاميّ الأعلى ربّانية، وأعماله أمانة الله بين أيدي أعضائه، وبين أيدي من بأيديهم تمكين هؤلاء الأعضاء من تحمّل المسؤولية، وأداء الأمانة. ولا يتحقّق ذلك، في تقديري، إلاّ بإصلاح وضعية المجلس، وإعادة النظر في نصوصه التّأسيسية ومراسيمه التنظيمية، بما يتلاءم مع مهامّه العلمية، ومكانته الدستورية..».
وإذا تبيّن اليوم أنّ “صيغة المجلس”، كما طرحت قبل سبع سنوات، هي الصيغة المثلى، والإطار الملائم لمرجعية الفتوى؛ فإني أقترح ما يأتي:
– المبادرة إلى اقتراح موادّ دستورية، تدرجُ في مشروع الدستور الجديد، ضمن الأحكام المتعلّقة بالمجلس الإسلاميّ الأعلى، لمزيد من البيان لصلاحياته؛ ولا سيما في مجال الفتوى.
– الإعداد من الآن لمشروع مرسوم يعتبر المجلس الإسلاميّ الأعلى المرجعية العليا للفتوى؛ ويحدّد صلاحياته بوضوح، ويفصّلها بدقّة؛ بالرجوع إلى ما ورد في نصّ ” مشروع دار الإفتاء “.
وفي ختام هذه الورقة، أورد كلمات ضمّنتها رسالتي المشار إليها أعلاه؛ وقلت فيها: «.. إنّني لا أريد من وجودي في هذه الهيئة، ولا في غيرها، سوى خدمة الجزائر، بخدمة دينها؛ ولا أنشد من وراء ذلك إلاّ رضا الله عزّ وجلّ ورضا الأمّة.وإذا جاز للإنسان أن يتهاون في حقوق نفسه، فإنه لا يجوز له أن يتهاون في حقوق الله وحقوق الأمّة والوطن..».
(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)