بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
هناك من يظن أن النصوص الشرعية مُقيِّدة لحركة الإنسان ويجب الانطلاق من المصالح والمقاصد لا النصوص..
وهناك من يرى أن فكرة المقاصد نفسها باب واسع للعلمانية وأنها شعار للإطاحة بنصوص الشريعة..
المقاصد بنت النصوص وليس هناك مقصد من خارج النصوص ومن ثم لا تعارض بينهما..
حينما نقول هذا المصطلح المكوَّن من مركب إضافي «مقاصد الشريعة»، فإنه لا يعني إلا شيئاً واحداً حصراً، هو أن لفظ المقاصد مضاف للشريعة، ولفظ الشريعة مضاف للمقاصد، فالمقاصد مستقاة من الشريعة ومأخوذة منها عبر مسالكها المعتبرة عند أهلها، والشريعة لا تُفهم إلا في ضوء هذه المقاصد؛ فمن جاءنا بمقصد نقول له: «من أين لك هذا؟ ومن أي النصوص أتيت به؟»، ومن فهم الشريعة بغير مقاصدها نقول له: «لقد عطلتَ الشريعة عن مسايرة الواقع واستيعاب مستجداته، وحَسَرْتَ سلطانها عن أن يُبسَطَ على الواقع بنوازله والحياةِ بتغيراتها».
هناك من يظن أن النصوص الشرعية مُقيِّدة لحركة الإنسان، ولا بد من الانطلاق من أرضية المصالح والمقاصد – في نظرهم طبعاً – لا من النصوص؛ كي نحقق مصالح الإنسان، ونعزز عمارة الحياة، ونقوم بحاجات الواقع، ونَفِي بمتطلبات العصر!
والواقع أن هؤلاء لم يفهموا الشريعة ولم يعرفوا مقاصدها حق المعرفة، ولم يدرسوها أو يشموا رائحتها؛ فالشريعة نزلت أصلاً لمصالح الناس في المعاش والمعاد جميعاً، كما أطبق على ذلك علماء الأمة على مر العصور، وما جاءت النصوص إلا لذلك، ولذلك فحسب، ومن طالع كتاب «القواعد الكبرى» للعز بن عبدالسلام، وغيره، يقف على هذا بكل وضوح؛ حيث أقام الشريعة كلها على مبدأ وحيد؛ هو «جلب المصالح ودفع المفاسد»، ومن تأمل التشريعات والأحكام والنصوص جميعاً لم يجد نصاً واحداً نزل إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة.
كما أن المقاصد ليست شيئاً خارجاً عن ماهية الشريعة، أو مستورداً من خارج نصوصها؛ وبناء على ذلك فإن المقاصد التي ستحررهم من النصوص –كما يرون– هي مقاصد وهمية لم تستثمر من مسالكها المعتبرة، وإنما جاءت من رغبتهم الجامحة في اتباع الهوى، والانسلاخ من التكليفات الشرعية، والمروق من النصوص كما يمرق السهم من الرمية.
الخوف من المقاصد
وهناك فريق آخر يرى أن فكرة المقاصد نفسها باب واسع للعلمانية، وما هي إلا شعار للإطاحة بنصوص الشريعة، ولافتة براقة للنفوذ منها إلى تفريغ الدين من مضمونه، والشريعة من محتواها، ولا تبقى هنالك إلا عناوين بلا مضامين، وأشكال بلا موضوعات، ومن ثم لا داعي لهذا العلم، ولا ضرورة لوجوده، فالأمة – في نظرهم – فهمت شريعتها وعملت بها قبل أن يوجد ما يسمى بـ»علم المقاصد»!
وهؤلاء –في الواقع– لا يفهمون الشريعة كذلك ولا يفهمون مقاصدها، فهم لا يدركون أن الشريعة نفسها نصَّتْ على مقاصدها العليا والعامة والخاصة والجزئية، ولا يليق بالله تعالى الذي سمى نفسه “الحكيم” أن يخلق الخلق عبثاً، ولا أن يشرع الشرع بلا غاية، وإنما خلق الخلق وأنزل الشرع لحكم وغايات ابتنى عليها الخلق والأمر: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {54}) (الأعراف).
كما فات هؤلاء أن المقاصد بنت النصوص، ولا يمكن أن يكون هناك مقصد من خارج النصوص، ومن ثم لا تعارض بين نص ومقصد، ولا بين مقصد ونص؛ لأن كليهما من مصدر واحد ومن مشكاة واحدة، إنه الله تبارك وتعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً {82}) (النساء).
طريق الأمن والوسطية
ولكي يطمئن الفريقان فلا بد من أن يدرس كلاهما الشريعة الإسلامية ومقاصدها دراسة معمقة توقف كلا منهما على حقيقة الشريعة وحقيقة مقاصدها، وليس ما يسمعوه حولهم أو من بعض من لا فقه له بالشريعة؛ فضلاً عن مقاصدها.
والذي يقفنا على الأمن المناقض للخوف سواء أكان منبعه النص أم المقصد، هو:
أولاً: معرفة -بل العلم والإيمان- أن الشريعة الإسلامية إنما نزلت لمصالح الناس، ولا يوجد نص أبداً لا صحيح ولا صريح ولا غير صريح إلا وهو يتغيا مصالح البشر في الدنيا والآخرة، وهذا القول لم يجادل فيه الظاهرية ولا بعض المعتزلة الذين أنكروا التعليل والتقصيد والقياس، لكنهم أثبتوا مصلحية الشريعة الإسلامية، وأنها نزلت لتحقيق مصالح الناس.
قال الإمام الآمدي: “فالإجماع إذاً منعقد على امتناع خلو الأحكام الشرعية عن الحِكَم، وسواء ظهرت لنا أم لم تظهر”(1)، وقال: “حال الشارع أنه لا يرد بالحكم خلياً عن الحكمة؛ إذ الأحكام إنما شرعت لمصالح العبيد، وليس ذلك بطريق الوجوب بل بالنظر إلى جري العادة المألوفة من شرع الأحكام”(2).
وتحت عنوان: “في تحقيق معنى المقصود المطلوب من شرع الحكم”، قال: “المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد”(3).
وقال العز بن عبدالسلام: “والشريعة كلها مصالح؛ إما تدرأ مفاسد، أو تجلب مصالح؛ فإذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؛ فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيراً يحثك عليه، أو شراً يزجرك عنه، أو جمعاً بين الحث والزجر”(4).
وقال: “ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسُّنة لعلمنا أن الله أمر بكل خير دقّه وجِلّه، وزجر عن كل شر دقّه وجِلّه؛ فإن الخير يُعبَّر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح”(5).
وفي كلام هذين العالمين الأصوليين الكبيرين كفاية، وإلا لو تتبعنا أقوال العلماء لما كفانا ألف موضع، وكلام العلماء كافة في هذا المعنى الأكبر لا يختلف عن ذلك كثيراً.
ثانياً: العلم بأن المقاصد بنت النصوص ومستقاة ومستقراة منها من خلال مسالكَ قرَّرها الأصوليون أغلبها -أو كلها– نصوصي أو يدور حول النصوص، و”يعتبر الكشف عن مقصد الشارع خطوة مهمة ومحورية يتوقف عليها تسديد الاجتهاد والتنزيل؛ فإذا كان التسديد فيهما يتوقف -في كثير من جوانبه- على معرفة مقاصد الأحكام، فإن معرفة مسالك الكشف عنها أمر سابق على ممارسة الاجتهاد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”(6).
فمن المسالك أو طرق الكشف عن المقصد: الاستقراء، وهو استقراء للنصوص، ومنه: مجرد الأمر والنهي، وهو في النصوص، ومنه: العلل المذكورة في الأوامر والنواهي، وهي منصوصة كذلك، ومنه: التأمل في اختلاف الفقهاء، وهم يختلفون في فهمهم للنصوص، ومنه: الاستنباط، وهو قائم على النصوص والنظر فيها، ومنه: مفهوم النص ومنطوقه ومعقوله، ومنه: سياق النص والقرائن المحتفة به.. إلخ، فأين الخوف من المقاصد وأهلها؟ وهل هي بذلك تؤدي إلى هدم النصوص أو تكون بوابة للعلمانية وهي مأخوذة أساساً من النصوص ومستقاة منها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!
ثالثاً: العلم بأن هناك ضوابط لاعتبار المقاصد، فليس كل مقصد نسمع به أو نقرؤه يعد معتبراً بمجرد أن فلاناً قال به، فلا بد من تمريره –كما يفعل الأصوليون وعلماء المقاصد- على ما يعرف في هذا العلم بـ”ضوابط اعتبار المقصد”، فإن تحقق بهذه الضوابط فبها ونعمت، وإلا فلا يُلزمنا أحد بما لم يُلزمنا به الشرع الشريف.
والواقع أن الحديث عن المقاصد يظل بلا أثر في الاستدلال الفقهي، حتى توضع له ضوابط تضبطه وتضبط عمله، وتبين متى يكون معتبراً ومتى لا يكون كذلك.
ومن ناحية أخرى، فإن ضبط المقاصد يُمكّنُ من تقييم الأحكام والاجتهادات على اليقين أو الظن القريب لليقين، فإن الشريعة الإسلامية لا تراعي الأوهام أو التخيلات، بل توجب تركها والبعد عنها؛ ولذلك فلا يصلح المقصد الموهوم لضبط الاجتهاد، وهو ما يوفره عدم تحققه بضوابطه.
ومن ناحية ثالثة، فإن الحديث عن ضبط المقصد بضوابطه المعتبرة يؤهل المقصد لأن يقوم بوظائفه الأصولية والفقهية وغيرها. (7).
ومن هذه الضوابط: أن يُستقى المقصد من مسالكه المقررة، وأن يكون المقصد ظاهراً، ومنضبطاً، ومطرداً، وألا يتعارض مع مقصد أعلى منه، وألا يعود على غيره بالإبطال.. إلخ.
والحق أنه عند تدقيق النظر لا يوجد تعارض بين مقصد ونص أو بين مقصد ومقصد إلا في رأس الفقيه أو في عدم صحة النص، فالمنطق الصحيح والفهم الصحيح والفقه الراسخ يحول بين هذا التعارض كله إن ظهر، ومع هذا الفهم والفقه والرسوخ والاستيعاب والإدراك سيتبدد أي تعارض ظاهر، ونصل لمنهج سديد في التعامل مع التزاحم، ويتم تشغيل المقاصد بكل مراتبها وتفعيلها، ولن يضرب بعضها بعضاً، أو يلغي جزئيُّها كليَّها، أو يعودَ بعضُها على بعض بالإبطال.
وبناء على ذلك؛ فلا خوف من النصوص، كما أنه لا خوف من المقاصد؛ لأن كليهما من مصدر واحد، ولأن النصوص لا تُفهم إلا في ضوء مقاصدها، والمقاصد لا تُستقى إلا من النصوص، ولا يكون المقاصديُّ إلا نصوصياً، ولا النصوصيُّ إلا مقاصدياً؛ ومن ثم حين نقول مقاصد الشريعة فليس هذا بمعزل عن أحكام الشريعة، ولا أن المقاصد كلمة لا تتضمن أحكامها، وإنما المقاصد تعبر عن النصوص والأحكام، والنصوص تُثمر المقاصد، وكلاهما يُصدّق بعضُه بعضاً، ولا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأنهما يتكاملان ولا يتناقضان، ويتعاضدان ولا يتعارضان.
الهوامش
(1) الإحكام في أصول الأحكام: 2/210. علي بن محمد الآمدي أبو الحسن. تحقيق: د. سيد الجميلي. دار الكتاب العربي. بيروت. الطبعة الأولى. 1404هـ.
(2) الإحكام: 3/286.
(3) الإحكام: 3/296.
(4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/9. تحقيق: محمود بن التلاميد الشنقيطي. دار المعارف. بيروت. لبنان.
(5) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/ 160.
(6) المقاصد الجزئية: 285. د. وصفي عاشور أبو زيد. دار المقاصد القاهرة. 2015م.
(7) المقاصد الجزئية: ص 389.
(المصدر: مجلة المجتمع)