مقالاتمقالات مختارة

بين فهم الدين ووراثة التديّن

بين فهم الدين ووراثة التديّن

بقلم هدى عبد الرحمن النمر

لفظة “الدين” لغةً تعني: ما يَدين به وله صاحبه، أي يخضع وينقاد، ويتخذه بعد ذلك دَيْدَنَه ونَهجَه في الحياة، ومن اللافت أننا نَدين ونُسَـلِّم وننقاد لمختلف ما يَرِدُ علينا من ديانات الغَير بصدر رحب، باسم الثقافة أو الانفتاح أو التحضّر أو تغيّرات العصر… إلخ، أما ديانة الإسلام التي نعلن الانتساب لها، فنحن في جدال وعناد دائمين معها! ولا بادرة جادّة لمحاولة الفهم قبل الجدال، في مقابل بوادر مُصِرّة على عدم الفهم والإمعان في العناد! ويندر أن نخضع أو ننقاد لتكاليف الشرع إلا حيث لا يتعارض ذلك مع انقيادنا لتكليفِ دينٍ آخر، من عُرف أو موضة أو هوى… إلخ، بل لم يعد مصطلح “التكليف” في مرجعيتنا يفيد “الوجوب الشرعي” على المُكَلَّفِ عند بلوغه سن التكليف الذي قرّره الشرع، وإنما صار التكليف عندنا يفيد “تعليق الامتثال” حتى يحين سِنّ التكليف الفعليّ بالنسبة لنا، الذي يتحدد عند الاقتناع أو حضور المزاج أو موافقة الأعراف، أو غير ذلك مما هو أعلى اعتباراً لدينا في شرعنا المُلفَّق من أمر ربنا المُحقّق!

ويزيد المصيبة إصابة أنّ تصوّرنا عن الدين وفهمنا لأحكامه لا يُستقى من أي مصدر يَصِحّ بأن يوصف أنه شرعي أو علمي ، بل هو في الغالب توارث لصور التدين والتطبيق من آبائنا، الذين ورثوها بدورهم عمن قبلهم، وهذا النوع من الوراثة الدينية العمياء، هو أحد مآخذ الذم الأساسية على المشركين في القرآن، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]، {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزمر:22].

إنك لو قَصَصْتَ قصّة على فرد، فنقلها بِدَوْره لغيره، ونقلها ذلك الغير لمن بعده، وهكذا تجد أنّ القصة يقع فيها اختلاف لا ريب مع كلّ نقلة، بدرجة ما، وذلك بتحريف أو إضافة أو سوء صياغة أو خطأ تأويل، أو غير ذلك، ويمكن الجزم أنه بمجرد وصولها للشخص المائة مثلاً، تكون مغايرة في غالبها أو بكلّيتها، للأصل الذي بدأت عليه من المصدر الأساسي، وصِحّة وقوع هذا المبدأ كانت نواة إنشاء علوم التراجم والرجال عندنا، التي وَضَعت قواعد الجَرْحِ والتَّعديل لتصنيف رواة الأحاديث والأخبار ومَرْوِيّاتهم، من حيث الأخذ والترك، أو الصحة والضعف، وما بينهما من درجات، فنقل العلم وحمل أمانته للغير يتطلّب عالِماً بما ينقل، لا مجرّد عارف معرفة ثقافية أو عامة! ثمّ قادراً على النقل بما يُوصِل المادّة للمنقول له على وجهها الصحيح.

وتخيّل لو أنك كنتَ الشخص المائة في ذلك المثال، وطُلِب منك -بناء على ما سمعتَ- الإقدامُ على أمر أو إصدار حكم نافذ، لتهيَّبتَ وطلبتَ التوثّق من المصدر أوّلاً؛ لكي تحكم وتتصرف على بيّنة، فكيف بنا نتعامل مع ديانتنا بذلك الاستهتار في التناقل؟ وأيّ شكل صحيح للالتزام بالديانة يمكن أن ينشأ عن فهم منقوص أو مشوّه، نتوارثه عبر أجيال بتقليد الآباء عن الأجداد والسلام، أو نلتقطه عبر شذرات مقطع “ملهم” أو فواصل دعوية أو فتاوى تلفازية!

لا عجب أننا إلى اليوم نعيد تدوير القضايا الفكرية المستهلكة، ونقع ضحية لنفس الشكوك والشبهات وعلامات الاستفهام الهائمة ، مع أنه قد تمّ الرد عليها عبر قرون بمختلف المناهج، في متون أهل العلم التي لا يفتحها أول المَعنيّين بها! وإنما العجب أن نلقي باللوم على الثغرات في الشرع والجمود في الدين، مستكبرين على الإقرار بجهلنا أو مجرد تصوّر القصور من جهتنا، متأثرين في ذلك بحِسّ العداوة الدفين تجاه الدين، الذي تسرّب إلينا من مستوردات الفكر الأجنبي القائم عليه أساساً.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى