مقالاتمقالات مختارة

بين عام الكورونا وعام الرّمادة

بين عام الكورونا وعام الرّمادة

بقلم محمد خير موسى

ما أشبه اليوم بالبارحة

لا يشكّ عاقلٌ في أنّ تأثيرات وباء كورونا الاقتصاديّة ستكون مرعبةً وربما تكون أشدّ وأقسى من تأثيراته الصّحيّة؛ وهذا ليس على مستوى الدّول فحسب بل سيكون أيضًا على مستوى الأفراد والعائلات من أصحاب الدّخل المحدود وصغار الكسبة وأصحاب الأعمال اليوميّة والوظائف الموسميّة التي بدأ شبح الجوع يطلّ برأسه داخل بيوتهم وكابوس العوز يخيّم عليها.

فقد تعطّلت الاعمال وتوقّفت الوظائف والصّنائع وانحسرت التجارات الصغيرة، وإن استمرّت الحال على ما هي عليه بضعة أشهر يسيرة قادمة فسنكون أمام حالة كارثيّة لا محالة من الجوع والفاقة تتهدّد شرائح غير يسيرة من مجتمعاتنا الهشّة التي جعلتها سياسات الاستبداد أوهن من بيت العنكبوت.

ولطالما كان التاريخ شعاعًا من ماضٍ غابرٍ يضيئ في حاضرنا وينير لنا مستقبلًا نتلمسُ للخروج من ظلمائه قبسًا أو جذوةً فلعلّنا نجدُ على التاريخ هدى.

ففي العام الثّامن عشر الهجري إبان خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وقعت في جزيرة العرب مجاعة أنهكت البلاد والعباد وقد أطلق عليها “عام الرمادة” لأنَّ الرِّيح كانت تسفي ترابًا أسود كالرَّماد من شدّة الجدب والقحط.

واستمرّت المجاعة تسعة أشهر بلغ فيها الجهد من النّاس مبلغه، وغادرت قبائل العرب مضاربها ولجأت إلى المدينة علّها تجد عند الخليفة ما يسدّ رمق أبنائها وعيالها، فأقيمت مخيّمات اللاجئين حول مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد حوت أكثر من ستين ألف لاجئٍ أنهكهم الجوع وانقطعت بهم السّبل.

أينَ البطون المُقَرقِرة؟!

كان أوّل إجراء اتّخذه الخليفة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إجراءً شخصيًّا لكنّه يمثّل المرتكز الأوّل للانطلاق الرّاشد في معالجة الأزمة.

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: “تقرقر بطن عمر ـ أي أخرجَ صوتًا من قلّة الطّعام ـ وكان يأكل الزيت عام الرمادة، وكان حرّم على نفسه السمن، فنقر بطنه بأصبعه؛ وقال: تَقَرقَر تَقَرقُرَك؛ إنّه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس”

وأكل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشّعير، فصوَّتَ بطنه، فضربه بيده، وقال: “والله ما هو إلّا ما ترى حتى يوسّع الله على المسلمين”

فعمر رضي الله عنه مارس حالةً من التّقشّف الذّاتيّ بوصفه قائدًا ومسؤولًا حتّى يحسّ بأوجاع تلكم الشّريحة التي أنهكتها المجاعة من رعيّته، وهذا انعكاس للهمّ الحقيقيّ بأمر الرّعيّة.

قال أسلمُ رضي الله عنه: “كنّا نقول لو لم يرفع الله المَحْل عام الرمادةِ، لظنَّنا أن عمر يموت همًّا لأمر المسلمين”.

وحاول أحدُ أصحابه مرّة أن يقنعه عام الرّمادة بأكل شيءٍ من السّمن واللبن أحضرها له؛ فرفض الخليفة قائلًا له بكلّ وضوح: ” كيف يعنيني شأن الرَّعية إِذا لم يمسّني ما مسَّهم؟!”

وفي عام الكورونا فإنّ نقطة الانطلاق للتفكير الحقيقيّ بتلافي كارثة الجوع التي تتقدّم بتسارعُ إلى مضارب الكثير من شرائح مجتمعاتنا؛ أن تستشعر قيادات المجتمع هذا المعنى العمريّ.

أمّا الحكّام فقد يئست الشّعوب من قرقرة بطونها، ولكن ماذا عن قيادات العمل الإسلاميّ من مسؤولي الجماعات والتّنظيمات والكيانات والمؤسّسات؟ وماذا عن القادة الذين تنظرُ إليهم الشّعوب على أنّهم مرجعيّات سياسيّة وفكريّة ودعويّة؟ وماذا عن المسؤولين الإداريين للمؤسسّات والشّركات التي بدأت بتسريح عمّالها وموظّفيها؟ كيفَ سيعنيهم شأن من هم تحت مسؤوليّتهم ورعايتهم الإداريّة إذا لم يشعروا بضيقهم وضنكهم وأوجاعهم وهم لا يجدون ما يكفون به مؤونة أسرهم التي تسترُ الجدران أنينهم وزفرات جوعهم وحاجتهم؟!

التّوأمة التّكافليّة

امتدّ عام الرّمادة تسعة أشهر، وقد كان عمر رضي الله عنه يخطّط في حال اشتداد الأزمة أكثر وامتدادها بفرض ما يمكن تسميتُه “التّوأمة التّكافليّة”

يقول عمر رضي الله عنه: “والله لو أنّ الله لم يفرجها ما تركتُ أهل بيتٍ من المسلمين لهم سعةٌ إلّا أدخلتُ معهم أعدَادهم من الفقراء؛ فلم يكن اثنان يهلكان من الطّعام على ما يُقيمُ واحدًا”

فقد كان عمر رضي الله عنه يخطّطُ على عقد توأمةٍ بين كلّ أسرةٍ لديها ما يكفيها من القوت مع أسرةٍ تماثلها في عدد الأفراد تتقاسمُ معها قوتها اليوميّ المعتاد دون أن تزيد عليه شيئًا، فإنّ طعام الواحد إن تمّ تقاسمه بين اثنين يحميهما معًا من الهلاك.

وهذه التّوأمة التّكافليّة تنسجم تمامًا مع السيّاسة الأشعريّة التي امتدحها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأثنى عليه ثناءً بالغًا حين قال: “إنَّ الأشعريّين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ، ثمّ اقتسموه بينهم في إناءٍ واحدٍ بالسَّويّة؛ فهم منّي وأنا منهم”

إنَّ تعميم هذه الثّقافة في عام الكورونا سيكون  له بالغ الأثر في العلاج العاجل وتخفيف الكثير من الآثار السّلبيّة الاقتصاديّة التي يفرزها هذا الوباء الذي ألزم النّاس بيوتهم.

إنَّ الواجب اليوم على قيادات العمل الإسلاميّ من مفكّرين ودعاةً ووجهاء وأصحاب قرار تعميم هذه التّوأمة التّكافليّة الأشعريّة والعُمريّة حتّى تغدو ثقافةً عامّة لا مجرّد حالاتٍ فرديّة.

القوافل والحملات الإغاثيّة

في عام الرّمادة أرسل عمر رضي الله عنه إلى الولاة في مختلف الولايات في العراق والشّام ومصر يطلب منهم القيام بالإغاثة العاجلة للمدينة المنوّرة التي أحاطت بها خيام اللاجئين جوعًا.

وكان يخاطبهم زاجرًا مذكِّرًا بمسؤوليّاتهم مع نداء استغاثة عاجلة فمن نماذج ذلك ما أرسَله إلى عمرو بن العاص واليه على مصر

“أفتراني هالكًا وَمَنْ قِبَلي، وتعيش أنت منعَّمًا وَمَنْ قِبَلَك؟ فواغوثاه! واغوثاه!”

فكتب إِليه عمرو بن العاص: لعبد الله أمير المؤمنين من عمرو بن العاص سلامٌ عليك، فإِنِّي أحمد الله إِليك الَّذي لا إِله إِلا هو، أمَّا بعد: أتاك الغوث، فالرَّيث الرَّيث! لأبعثنَّ بِعِيْرٍ ـ أي قافلةٍ ـ أوَّلها عندك، وآخرها عندي، مع أنِّي أرجو أن أجد سبيلًا أن أحمل في البحر”

وكتب إلى معاوية بن أبي سفيان والي الشام يقول: “إذا جاءك كتابي هذا فابعث إلينا من الطعام بما يصلح قِبَلَنَا؛ فإنّهم قد هلكوا إلا أن يرحمهم الله”

وفعل مثل ذلك مع باقي الولايات وفعلًا انطلقت قوافل الإغاثة حتّى وصلت المدينة فساهمت في تخفيف أعباء المجاعة.

وفي عام الكورونا ما أحوجنا إلى القوافل والحملات الإغاثيّة التي تُدارُ باقتدار وتصلُ إلى مظانّها من بيوت الذين انقطعت بهم سبل المعيشة في هذا الوباء القاسي.

الاستغاثةِ باللّه أوَّلًا وآخرًا

مع كلّ الإجراءات التي اتّخذها عمر رضي الله عنه في عام الرّمادة لم تنقطع استغاثته وضراعته إلى الله تعالى في أحواله كلّها بل كان يعمل على تعميمها وجعلها حالة يوميّة مستمرّة من جميع المسلمين.

وكان من دعائه الذي يكثر منه عام الرّمادة: ” اللّهم عجزت عنّا أنصارنا، وعجز عنّا حولُنا وقوّتُنا، وعجزت عنّا أنفُسنا، ولا حول ولا قوّة إلا بك”

ونحن في عام الكورونا قد عجزت عنّا أنصارُنا وحولنا وقوتنا وأنفسنا، فلا بدّ من تعزيز الشّعور الجمعيّ بأنّه لا حول ولا قوّة لنا إلّا بالله تعالى؛ فنلزم بابه ونتعلّق بأستارِه؛ فهو وحده المغيث رافع البلاء والوباء والكورونا.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى