بين رحيل داعية.. ورحيل مُلحدة!
بقلم سلطان بركاني
تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعيّ، في الأيام الماضية، مقطعا مرئيا لخاتمةٍ حسنة، نحسبها كذلك، حظي بها داعية فلسطينيّ، يُدعى أبا خطاب محمود عبد الباقي، وهو يلقي درسا أثناء عقد قران أحد الشّباب؛ حيث جاءته منيته وهو يذكّر النّاس ويعلّمهم، فسكت فجأة ونطق الشّهادتين ومال برأسه على الكرسيّ الذي كان يجلس عليه.. أبو الخطّاب البالغ من العمر 83 سنة، عاش حياته داعية إلى الله راعيا للفقراء محسنا إلى المساكين؛ فكانت الخاتمة الحسنة نهايته، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله.
كانت خاتمةً دمعت لها العيون وتحرّكت لها القلوب، وذكّرت من تذكّر بقول النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: “إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله”. قيل: كيف يستعمله؟ قال: “يوفقه لعمل صالح قبل موته”.. خاتمة رجل عاش حياته داعيا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، في المساجد والمجالس العامّة والخاصّة وفي كلّ مكان.. كان كلامه وهمّه متعلّقا بالدّين وبكفالة الفقراء والمساكين، فأكرمه الله وتوفّاه وهو يذكّر النّاس بخالقهم ومولاهم، ويرغّبهم في الاقتداء بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم، وكانت نعم الخاتمة.. فما أروع وما أرفع أن يكون همّ العبد الأوّل أكبر من المأكل والمشرب والملبس والمركب، هما متعلّقا بدين الله وبما عند الله، يرنو إلى جنّة رضوان خازنها والجار أحمد والرّحمن بانيها.. يعمل لأجل أن يبشّر في ساعة رحيله بمقامه في الجنّة عند الله، ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون)).
قبل حادثة وفاة الداعية أبي خطاب محمودعبد الباقي بـ3 أسابيع، كان الناشطون على مواقع التواصل يتداولون خبر الموت المفاجئ لفتاة مصرية في الخامسة والعشرين من عمرها، ولدت في أسرة مسلمة، وظلّت مسلمة 22 سنة، لكنّها انتقلت إلى الإلحاد قبل 3 سنوات، وأصبحت تنكر وجود الخالق، وتنشط في إنكاره، وتتباهى بردّتها عن دينها، وتنشر الشّبهات حول دين الله الحقّ، شبهات لو أتعبت نفسها قليلا لوجدت جوابها بحول الله، لكنّها اغترّت بنفسها، في ظلّ الأجواء الجديدة التي وجدتها في لندن.. ماتت في ريعان شبابها وهي التي ربّما لم تجعل الموت في حسبانها ولم تكن تتوقّع أنّه سيفاجئها وهي في بداية مشوارها.. اتّصلت بوالدتها تشكو إليها صداعا شديدا تعانيه، لينقطع الخطّ قبل إتمام المكالمة.. عاودت الأمّ الاتّصال بابنتها لكنّها لم تردّ.. وبعد اتّصالات هنا وهناك، فتحت غرفتها في السّكن الجامعي، فوُجدت ميتة.. رحلت عن الدّنيا إلى ربها الذي حاربته وأنكرت وجوده، وقد كانت آخر صورة نشرتها على غلاف صفحتها صورة فتاة تقف أمام بركان من النّار!
نعم. لا يحقّ لأحد أن يتألّى على الله، ويجزم لمعيّن بجنّة أو نار، إلا من جاءت النّصوص بتحديد مصيره، لكنّه يُشرع لكلّ أحد أن يشهد بما علمه من سيرة الرّاحل عن هذه الدّنيا، حتى يظلّ الموت وتظلّ الخاتمة عبرة لمن يعتبر.. نحن لا نجزم لهذه الفتاة بجنّة ولا نار، لأنّنا لا نعلم اللّحظات الأخيرة لها كيف كانت، ولكنّنا نحكم على ظاهر الحال، ونقرع القلوب لتتّعظ بمثل هذا الرّحيل.
مثل هذه الخواتيم التي نقرأ ونسمع عنها بين الحين والآخر، هي رسائل تحمل مواعظ تهزّ كلّ قلب حيّ.. مواعظ تقرع القلوب بأنّ هذه الحياة الدّنيا قصيرة وأقصر ممّا يتوقّع كلّ واحد منّا، وأنّها دار امتحان لا يأمن العبد فيها على روحه متى تقبض؟ ولا على دينه أن ينتزع منه فيمسي مؤمنا ويصبح كافرا، أو يصبح مؤمنا ويمسي كافرا، بسبب شهوة أو شبهة.
هذه الخواتيم هي رسائل من الله لعباده ليعتبروا ويتّعظوا ويتذكّروا أنّ هذه الدّنيا دار امتحان، وفي أيّ لحظة يمكن أن ينتهي امتحان العبد ليستقبل الجزاء.. لكنّ كثيرا من أعوان الشيطان في السنوات الأخيرة بدأوا ينشرون دعوات وأفكارا غريبة من وحي ديانة “الإنسانية”، حتى لا يعتبر النّاس بأحوال الراحلين؛ فيقولون مثلا: اذكروا محاسن موتاكم.. اذكروا موتاكم بخير.. دعوا الخلق للخالق… نعم. اذكروا موتاكم بخير، لكن أيّ موتى. الموتى الذين علمنا عنهم إيمانهم بالله ورسوله صلى الله عليه وسلّم، واحترامهم لدين الله؛ فهؤلاء مهما بلغ تقصيرهم ومهما كانت غفلتهم فإنّنا مطالبون بأن نذكرهم بخير بعد وفاتهم وندعو لهم بالرّحمة. لكنّ الموتى الذين عاشوا حياتهم محادّين لله ولرسوله ولدينه، أو سعوا في إفساد الدّين، فهؤلاء لسنا مطالبين بأن نذكرهم بخير بعد وفاتهم، إنّما نحن مطالبون بأن نذكر أعمالهم ونتحدّث عن خواتيمهم حتى يكونوا عبرة لغيرهم.. لا ينبغي أبدا لهذه المواعظ أن تفقد مفعولها بسبب كلمات لا سند لها من دين أو عقل.. سبحان الله! تجد الرجل عاش حياته كلّها محاربا لله ولرسوله ولدينه، وحينما يرحل عن هذه الدّنيا فجأة من حيث لم يكن يحتسب أو ينتظر، يقوم في النّاس من يترحّم عليه وينكر الحديث عن أعماله! وربّما من يرجو له الجنّة وهو الذي ربّما لم يكن يؤمن بتلك الجنّة أصلا! وهؤلاء الذين يصرّون على الدّعاء بالخير لمن أظهروا كفرهم بالله وحاربوا دينه أو سعوا في إفساده أو الصدّ عنه، ويرجون لهم الجنّة، لا يدركون أنّهم بلسان حالهم يكذّبون قول الله تعالى: ((إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِه))، وقوله سبحانه: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم)).
المتحمّسون لديانة “الإنسانية”، لم يكتفوا بالتّسوية بين المسلم والكافر في الأحكام الدنيوية، حتى سووا بينهما في المآل الأخروي، فالكلّ في نظرهم يطلب الحقيقة ويظنّ أنّه على الحقّ، وبالتالي كلّهم يستحقّ ثواب الآخرة، ونظرتهم هذه تستند إلى أنّ الإحسان في هذه الدّنيا هو –فقط- إحسان المخلوق إلى المخلوقين، والظّلم هو –فقط- ظلم المخلوق لمخلوق مثله، أمّا ظلم المخلوق لخالقه بجحده أو جحد نعمه أو إنكار دينه، فهذا لا اعتبار له عندهم، وعلى هذا فالإنسان الذي خدم الإنسانية ولم يظلم إنسانا أو مخلوقا آخر، لا يستحقّ ثواب الدّنيا فقط كما قال الله: ((وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا))، بل يستحقّ الثّواب في الآخرة أيضا! ولو كان ينكر هذه الآخرة ويجحد خالقها فضلا عن أن يرجو بإحسانه ثوابها! وغاب عنهم أنّ من بيده أمر الأولى والآخرة يقول: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون))، ويقول: ((أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار))، وعندما أراد كفّار قريش أن يمنّوا ببعض أعمالهم التي لا يرجون بها ما عند الله، ويجعلوها أفضل من الإيمان بالله، ردّ الله عليهم بقوله: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين)).
(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)