بين دخول كابل ودخول بغداد..
بقلم أحمد موفق زيدان
سطح مكتب ذاكرة الشعوب يخزن قليلا من القصص والأحداث المهمة الفارقة المفصلية، تاركا القصص والأحداث الأخرى قابعة في ملفات مخفية، أو أماكن بعيدة عن الرؤية والمشاهدة اليومية، تماما كحال الكومبيوتر. ربما ذاكرة من عاش لحظة بغداد وكابل يجري اليوم مقارنة بين دخول قوة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية وحلفائها مدججين بالحقد والثأر والانتقام لقرون، قبل أن يكونوا مدججين بسلاح الفتك والتدمير المادي. وبين دخول حركة طالبان العاصمة كابل قبل أيام، وهي الحركة المصنّفة ممن خلع على نفسه صفة العالم الحر بأنها حركة متعصبة شوفينية وحشية إرهابية إلى غيرها من الأوصاف.
كان دخول بغداد لمن نسي أو كان صغيرا يوم وقعت الواقعة، مشهدا يختصره كل ما هو وحشي، ولعل من قرأ سيرة المغول والتتار يجده اليوم مصورا وعلى الهواء مباشرة، فالرصاص والقتل العمد المباشر الذي استهدف الصحافيين فراح ضحيته الزميل طارق أيوب -رحمه الله- إذ كان المستهدف مكتب قناة الجزيرة ومكاتب صحافية لزملاء آخرين، ولن ينسى كل من عاصر لحظة بغداد الهمج وهم يتراكضون في الشوارع سارقين كل ما وقعت عليه أيديهم من ممتلكات الشعب العراقي في وزاراته ومؤسسات دولته، وحين سئل وزير الدفاع الأميركي يومها دونالد رامسفيلد -أحد مهندسي غزو العراق- عن حالة النهب والسلب فأجاب إنها حرية وإنهم يمارسون حريتهم بعد عقود من الاستبداد.
لن ينسى العالم كله همجية القوات الأميركية وهي تغتصب القصور الرئاسية العراقية وتنهبها نهبا، فكان على رأس المنهوبات الذهب العراقي، ولن ينسى العالم كله كيف كان الجنود يجلسون بين سبائك الذهب يتضاحكون ويمزحون ويقومون بحركات صبيانية طفولية تعكس القيم التي أتوا منها، ولن ينسى التاريخ كذلك سرقة البنوك العراقية، مع المحافظة بالأظافر والأسنان على وزارة النفط حصرا لأنها البقرة التي تدر حليبا، والدجاجة التي تبيض ذهبا. مشاهد سيميائية عديدة لا بد لمن عايش تلك اللحظات من العراقيين تحديدا أن يؤرخها، ليقارن العالم كله بين دخول وآخر، ويعرف العالم كله بأن الشعارات والقيم الزائفة لا مكان لها إلا في الأفواه المتشدقة بكل ما هو جميل، في حين تنضح القلوب والجوارح بكل ما هو قبيح، وكي لا يقول أحد بأن هذه المشهد سببه حالة فوضى عسكرية لدخول عاصمة وصعوبة ضبط الوضع، نذكره بمشاهد اقتحام مؤيدي ترامب الكابيتول وما فعلوه فيه.
بالأمس القريب، دخلت حركة طالبان الأفغانية كابل بعد 20 عاما من إقصائها وخلعها عن السلطة، وبدعم من 38 دولة بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، خلفية مكتملة الأركان -بنظر من فعل ما فعل في بغداد- لأن ينهب ويسرق ويقتل ويجرح ويشرد، ولكن دخول طالبان كان دخولاً -كما شبهه مفتي باكستان العلامة الشيخ تقي الدين عثماني بفتح مكة- بسبب العفو والتواضع والسكينة والوقار لكل من دخل القصر الجمهوري، والمدن والولايات الأفغانية، فلم تسجل حالة قتل واحدة، إلاّ ما كان لقطاع الطرق والسراق الذين عادة ما يزدهرون في مثل هذه الأوضاع.
كان مشهد طي العلم الأفغاني الحكومي مشهدا سيميائيا يختصر كل القيم التي حملها ويحملها الفاتح الجديد، فقد استفتح الفاتح دخوله القصر بقراءة سورة النصر، وهي السورة التي قرأها النبي -عليه السلام- يوم دخول مكة، ومع طي العلم القديم ليرفع علمه الأبيض الجديد مزينا بكلمة التوحيد، ارتسم مشهد السكينة للمقاتلين الجدد. وشاهد العالم كله على الهواء مباشرة كيف جلس مقاتلو طالبان في قصر “جل خانة” الرئاسي حيث كان جلوسا هادئا متحلين بالسكينة والوقار، من دون أن يظهر عليهم علامات التعجب والدهشة لما يرونه، وأظهر بذلك التباين والفرق الكبير بين قيم وقيم، وبين دول تتحدث بالمدنية والعصرنة واحترام الآخر، وبين حركة فلاحة بدوية شنت عليها وعلى مدى عقدين كل ما هو في أخصامها وأعدائها ربما..
وفي حين كان العالم ينتظر حمام الدماء في شوارع المدن الأفغانية حال وصول مقاتلي طالبان، كانت الأخيرة تعمل على نخر الحكومة والجيش الأفغاني والمؤسسات الأمنية من الداخل للتواصل المباشر عبر القوة الناعمة، فكان أن سقطت معاقل ومراكز بدون إراقة نقطة دماء، ليتوج ذلك كله بسقوط العاصمة، ومعه سقطت دماء متعاونين أميركيين وعلى أيدي أسيادهم الأميركيين حين كانوا يسعون للهروب على أقرب طائرة أميركية تقلع من العاصمة، ووسط حالة الجلبة التي أحدثوها في المطار أطلق الجنود الأميركيون النار على المحتشدين الهاربين فقتل 4 منهم، وفي مشهد لم يسبق عالميا، ولا حتى لحظة هروب الأميركيين من سايغون عاصمة فيتنام، فقد سقط اثنان من المتعاونين مع القوات الأميركية الذين تعلقوا بأجنحة الطائرة فسقطوا من ارتفاع 400 قدم ليلقوا حتفهم.
التاريخ لمن كتبه، وليس لمن تحدث به، ولذلك فتوثيق لحظة بغداد، وكابل مهم جدا للأجيال، لتتعرف على حقيقة وواقع من دخل هنا، ومن دخل هناك.
المصدر: مدونات الجزيرة