بين جيل الاستبداد وجيل الربيع.. لماذا يقدس الكبار الاستبداد!
بقلم مجاهد أحمد
السودان يقف اليوم على الحافة تماماً، هي لحظات ما قبل السقوط أو التحليق، شبابه بدأ يدرك أنه يقف عند مفترق طرق، تلتقي عنده كل الأقدار الممكنة، أقدار قد تقوده إلى الانعتاق من طوق الاستبداد والتحرر من قبضة الفقر والفاقة لبناء دولة تضاهي العالم عدالة وقوة، وأقدار أخرى قد تعيده مجدداً إلى سنين البؤس وحظائر الطاعة.
لكن على الطرف المقابل تقف أجيال الستينات والسبعينات إما على الحياد أو في صفوف الاستبداد، تمارس التهكم بحق الثورة وشبابها، وفي ذات اللحظة تلعن الوضع الاقتصادي والحالة السيئة التي آلت إليها البلاد. المألوف أيها السادة – ومنذ فجر التاريخ- أن التغيير يبتدره الشباب دوناً عن غيرهم لأسباب ربما تكون فسيولوجية بحته متعلقة بقدرتهم الجسدية ورغبتهم الفطرية في المغامرة، بالإضافة لإيمانهم بالمستقبل الذي يملكون الكثير منه مقارنة بالشيوخ الأكثر تعقلاً وإيماناً بالروتين والحياة الهادئة.
لكن هؤلاء الشيوخ تاريخاً وفي مرحلة ما يلتحقون بركاب التغيير، وفي الغالب يتصدرون المشهد بحكم خبرتهم السياسية مقارنة بالأجيال الشابة. هذا الأمر مفهوم وربما يكون من المسلمات في حركة التاريخ البشري، لكن الغير مألوف بالمرة هو تحول الأجيال الكبيرة نسبياً من خانة الحياد والتفرج إلى خانة الصدام المباشر والوقوف في وجه التغيير ومولاة المستبد ضد أبنائهم من الأجيال الشابة.
الثورات المضادة في مصر مثلاً ما كان لها أن تنجح لولا الدعم السخي الذي وجدته من أجيال الستينات والسبعينات، في السودان الوضع مازال يراوح مكانه ببساطة لأن هذه الأجيال تقف في صف الحاكم أو في أحسن الأحوال تختار لنفسها فلسفة اللامبالاة وإشاحة الوجوه بعيداً عما يجري. الاعتقاد السائد هو أن الحكمة والوعي يأتيان مع تقدم السن، بسبب تراكم التجارب الحياتية التي تجعل المرء يُحصِّل قدراً أكبر من المعرفة والإدراك، واستناداً إلى ذلك ظل يُنظر للأجيال الكبيرة باعتبارها هي الأكثر وعياً وإدراكاً لواقع الأمور مقارنة بأجيال الشباب. هذا الاعتقاد قد يكون صحيحاً إذا كنا نتحدث عن العلوم الأكاديمية، أو نرغب في توظيف طبيب أسنان أو فني سباكة، هناك الخبرة بتأكيد ستشكل فارقاً أساسياً، أما عندما يتعلق الأمر بالسياسة فالأمر مختلف تماماً.
لا يمكننا ببساطة أن نفترض في جيلٍ ما الوعي السياسي والإدراك لمجرد أنه عاش عمراً أطول، وننسب في المقابل التهور والمراهقة السياسية لأجيال كاملة لمجرد أنها لم تعش كفاية على هذه الأرض، هذه الطريقة في التفكير خاطئة جداً والأحكام المبنية عليها جائرة إلى أبعد الحدود، لأن الأمر في جوهره ليس متعلقاً بكم الحياة التي عاشها أفراد الجيل المعنى، بقدر ما هو مرتبط بطبيعة الظروف التي نشأ فيها الجيل ذاك ووسائل المعرفة السياسية التي كانت متاحة لديه.
تخيل معي عزيزي القارئ أن هذه الأجيال – أجيال الستينات والسبعينات – قد نشأت على تربية تقدس الكبير مهما كان مخطئاً، تربت على فلسفة لا تحترم أي معرفة غير صادرة من جهة أعلى منها سلطوياً، كل الأدوات التي تحصلت بها على معارفها السياسية هي أدوات ملك للدولة، آراء هذه الأجيال وكل معرفتها السياسية قد جرت صياغتها بالكامل من خلال الإعلام الرسمي من إذاعة وتليفزيون وصحف لا تخرج أبداً عن إرادة الحاكم ورغباته، لهذا بالضبط فإن هذه الأجيال الكبيرة تتصرف مع مصاعب البلاد السياسية كما تتعامل مع الكوارث الطبيعة، بالكثير من التسليم والقليل من التذمر، وكأنها قدر رباني لا يمكن تجنبه.
الأجيال الكبيرة وعلى عكس كل الاعتقادات السائدة هي الأقل وعياً بالسياسة، يسهل جداً التلاعب بها وجرها إلى حيث تريد السلطة، لذا فمن الطبيعي أن تكون في صف الاستبداد، فهذه الأجيال برغم كل هذا هي ضحية لتربيتها ولأدوات المعرفة القاصرة التي كانت في حوزتها، مواقع التواصل الاجتماعي هي التي أنقذت الأجيال اللاحقة من هذا المصير القاتم الذي في انتظارها.. السلطة نجحت في إقصاء أجيال كاملة وعزلها بجدار من الأكاذيب والأوهام، لكنها أيضاً وفي المقابل فشلت في أن تحتوي أجيال كثيرة لاحقة، أجيال شرعت فعلياً هدم جدر الأكاذيب والأوهام.
(المصدر: مدونات الجزيرة)