مقالاتمقالات مختارة

بين تأليه الإنسان وأنْسَنة الإله

بين تأليه الإنسان وأنْسَنة الإله

بقلم أحمد عبد الناصر

ما معنى الإله؟

تقول العرب «ألِه الفصيل» وهو صغير الجمل، أي اشتاق وحنَّ لأمه، فالإله هو الذي تألهه المخلوقات محبةً، والإله هو المألوه، أي المعبود. فقد يأتي (فِعال) ويُراد به (مفعول)، كما نقول كِتاب، ويُراد به مكتوب، أو فِراش، ويُراد به مفروش. فكل معبود سُميَّ إله.

لذا جاز تسميه غير الله آلهة: «أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا» (سورة الأنبياء: 43)، «واتخذوا من دون الله آلهة» (سورة مريم: 81) و(سورة يس: 74).

الداعية الأمريكي «يوسف إستس» يقول بأنه قد يتم الخلط في الترجمات ما بين (الله) و(إله) وهناك عدة تحفظات، فالكلمة في الإنجليزي قابلة للجمع gods أو التأنيث goddess كما أنها تُشير إلى أي معبود. فظهرت الحاجة إلى جعل أول حرف كبير G، في حين أن (الله) اسم علم بذاته. فهو رب موسى، وإبراهيم، وعيسى، ومحمد -عليهم الصلاة والسلام.

لكن لماذا الإله معبود؟

لأنه هو المستحق للعبادة بذاته، فهو المتصف بجميع صفات الكمال «ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين» (سورة الأعراف: 54). فهو المَلك والمالك والمُتصرِّف في خلقه، لكن هذا المعنى تغيَّر في أذهان الناس على مر الزمان. ولنرى كيف يتعامل الإعلام والأفلام والروايات وحتى وسائل التواصل الاجتماعي مع هذا المفهوم الخطير. وكيف لا تزال الرؤى الوثنية تُشكِّل مفاهيمنا الحالية.

ما هو المعنى العامي للإله؟

في العقل الجمعي الحالي: (إله ← معبود ← متصف بصفات الكمال ← رتبة). لا يكاد أحد لم يسمع من قبل بـ «هيركليز»، والذي هو حسب الأساطير (نصف إله) Demigod، وهذه الفكرة هي أساس واحدة من أشهر سلاسل الروايات «بيرسي جاكسون»، والتي تم تحويل جزئين منها إلى أفلام.

فما معنى 50% ألوهية؟

الإله مكون من أجزائه (قدرة + قوة + تصرف + علم + خلود + …)، وبحسب ما جمَّعت من تلك الصفات ارتقيت في المراتب. فقد تكون شخصًا مشهورًا، ثم مؤثرًا، ثم قائدًا، ثم حاكمًا أو ملكًا… وتظل ترتقي حتى تصل في النهاية إلى الألوهية.

وبسبب ميل الإنسان للتجسيد، تحوَّل الإله للمرحلة الأعلى من الإنسان. إن (أنسنة الإله) تعني التعامل مع الإله بوصفه إنسانًا -وأحيانًا بالمخلوقات الأخرى كالحيوانات والطيور- وربما حتى تطبيق علم النفس «البشري» عليه.
يقول الفيزيائي «لورانس كراوس»:

أنا لا أستطيع القول بحتمية عدم وجود إله، لكني بالتأكيد لا أرغب في أن أعيش في كون به إله.

وفي المقابل أصبح لدينا (تأليه الإنسان)، وذلك بسبب الغرور والنزعة إلى التملك والحكم والسيطرة، فلا يريد له آمرًا ناهيًا، حتى لو كان هو الإله نفسه.

فقد تلاشى الحد بين مفهوم الإله ومفهوم الإنسان، فلم يعد الإله هو المتصف بصفات الكمال، وإنما فردا من أعضاء فرقة الأفنجرز Avengers.

في هذا الفيديو يسألون الأطفال عن معنى (نصف إله)، وماذا ستفعل لو اكتشفت أنك (ابن إله). تقول الفتاة: «استشعر وجود صفات إلهية فيَّ». وفي الغالب هي لا تعني إضافة التملك، كما تقول: «عبد الله، أو روح الله» باعتبار أن الجسم البشري معجزة إلهية، وإنما معنى حيازتها هي شخصيًا على بعض صفات الألوهية.

في العقيدة، دائمًا وأبدًا هناك التحذير الدائم والمستمر من التجسيد والجسمية. وأيضًا التحذير المستمر من المغالاة في البشر حتى لو كانوا أنبياء. وقد لفت انتباهي بعض تعليقات الناس على لعبة بابجي PUBG، لكن أخطر تعليق -في رأيي– كان: «وإيه يعني اسجد لصنم… المهم آخد كذا…» وذكر اسم سلاح أو ما شابه.

وعلى الرغم من استنكار البعض للتحريم (ولسنا هنا لسنا بصدد الحكم الفقهي للعبة) لكن كلامهم (خلاص منروحش الحتة ديه، بس اللعبة كلها مش حرام). لكن التعليق السابق صادم -مع اليقين بأن قائله لا يعني العبودية الحقة- إلا أنه كلامٌ مروع.

والتجسيد لا محالة موصلة للتأليه، فكما رُوي في الحديث الصحيح: «لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزى». وحديث عائشة: «لا تقوم الساعة حتى تُعبد في أُمتي الأوثان»، وغيرها العديد من الأحاديث. فالناس تقول: «اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة» (سورة الأعراف: 138)، إله نراه ونسمعه ونُكلِّمه.

الارتقاء إلى السوبر مان

يسعى الإنسان إلى ارتقاء الصرح المُوصِّل إلى السماء -لا ليصل إلى الإله- وإنما ليصبح هو الإله، الآمر الناهي على نفسه، الذي يعلو ولا يُعلى عليه. دعوة إلى عصر يكون فيه الإنسان هو إله نفسه. ربما ترى أن هذا من باب المبالغة الأدبية ليس إلا، لكنه يُقال بالحرف واللفظ قبل الفعل.

«جايسون سيلفا» الذي اُشتهر بسلسلة ناشيونال جيوغرافيك (ألعاب العقل)، يُقدم لنا محاضرة بعنوان «نحن الآن آلهة» We are Gods Now. حيث يقول إن العلم والتكنولوجيا مكّنا الإنسان من ارتقاء السلم حتى أصبح هو الإله! الإنسان سيخلق الحياة، الإنسان سيصبح إله. لن نقبل بالموت مستقبلاً، فالخلود -كما هي باقي الصفات الإلهية- هو مسعانا. فقد أصبح «هدف آلة الحضارة الإنسانية هو تخطي كل الحدود السابقة، والتحول إلى آلهة».

وتخال هنا أني سأتحدث عن «نيتشه»، ولكني أريد التحدث عن «كلارك كنت» نفسه، في نسخة Man of Steel. في أحد مشاهد البداية يقول والده: «بسبب أن الشمس الخاصة بنا يافعة، فإن (كال إل) سيكون إلهًا بالنسبة للبشر».

وهذا ما يقوله العالم البريطاني «ريتشارد دوكينز»:

في هذا الكون ربما هناك كائنات متقدمة لدرجة عندما تقابلهم، ستجثو على ركبتيك وتعبدهم. لكنهم ليسوا خالقي الكون ولا قوانينه.

هندسة الإله

لطالما أثار تحفظي هذا المثال الشهير:

هل ترى الكهرباء؟ بالتأكيد لا، ولكن تستدل عليها بأثرها. كذلك لا نرى الإله، وإنما ندرك وجوده عن طريق الأثر.

ولا إشكال في المثال نفسه في فكرة الاستدلال بالسببية، لكن هذا المثال فيه تصور أكبر مما عليه، وهو التصور الحقيقي الذي يريده أصحاب «أنا أصدق العلم»، ألا وهو أن الكهرباء هي في جيوبنا الآن، فهمنا لها قادنا إلى تسخيرها.

يقول «ريتشارد دوكينز»: «وحتى وإن وُجِد إله، فلا بد أن يتبع ما سعينا طوال حياتنا لمعرفته»، فهو يجب أن يكون ترسًا في المنظمة الأكبر والتي هي العلم. والعلم التجريبي المقبول يمتاز بالخصائص الثلاثة الآتية:

  • التفسير.
  • التنبؤ.
  • التحكم.

نفسر الجاذبية، ونضع تنبؤات تُثبت صحة تلك النظرية، وتقودنا إلى التحكم فيها وصُنع الطائرات والسيارات والصواريخ. فكما قيل، البعض يريد الإله في أنبوبة اختبار. ودعني أبشرك بأن هذا ليس هو الحال هنا.

مهما حصل لن تستطيع تسخير صلاة الاستسقاء لصنع آلة المطر والعواصف. ولا التحكم في الحسد لاكتشاف أشعة الموت القاتلة. ولن تحصل على نوبل في الاقتصاد لورقتك البحثية التي تربط صلة الرحم بزيادة الرزق.
فالدين لا يضمن لك ذلك، وإنما يضمن لك الوصول للحق «فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال» (سورة يونس: 32).

الإنسان الضعيف

دائماً ما يُذكِّرنا أخصائي علم النفس، بأن الإنسان لا سلطان له على الأشياء من حوله، فيما يُسمى بـ «وهم التحكم». ورغم غرابة بعض العناوين في هذا المقال، إلا أني أجد أن هذا هو أغربهم، فما دخل ضعف الإنسان بحديثنا عن الألوهية؟

في حلقة «عزبة المحنكين» من طحالب يقول المؤلف:

ستظل الزرافات هكذا، فاردة صدرها ومادة رقبتها لفوق، تخترع ديناً جديداً، تعبد فيها نفسها لحد ما يجي ميكروب أو ذبابة ولا شوية برد يعرفوهم إن خالتي بتسلم عليهم.

والآن تخيل معي هذا السيناريو الخيالي: ماذا لو استطاع الإنسان تسخير كل شيء حوله لمستوى دون ذري، أصبح له سلطان على كل ما في هذا الكون. فماذا سيُسمى؟ الإجابة ستظل إنساناً لا إله. وارتقاؤه لوصوله لتلك الحالة -الخيالية- مدفوعًا بسيل من الدوافع، لا يعني اقترابه من التأله. الإنسان لن يصبح إلهاً ليس لوجود كورونا، أو لوجود تأثير الفراشة ولا حتى للعشوائية الكمية، الإنسان لن يُصبح إلهاً، لأن الألوهية ليست حالة يتم التوصل إليها أصلاً.

ماذا ستفعل لو كنت إلهاً؟

واحد من الأمثلة الصارخة على (أنسنة الإله) هو التصور «ماذا ستفعل لو كنت مكان الإله؟».

يقول الفيزيائي الأمريكي «لورانس كراوس» في مناظرته مع الباحث الإسلامي «حمزة تزورتزس»:

حاول أن تفكر بعقلانية، لو كنت إلهاً، وكان لديك عش من النمل في المنزل، هل ستغضب لو لم يصلوا لك خمس مرات في اليوم؟ وإن لم يعظموك ويعترفوا بوجودك، هل ستقوم بتدميرهم؟ هذا سخيف.

وبالتأكيد نتفق معه في أن كلامه هو السُخف بعينه، اتباع مبدأ ضع نفسك مكان الشخص الآخر، لهو مبدأ أحمق، لو أننا نتكلم عن الإله. ليس لأنك أكبر وأقوى من النمل فأنت إله عليهم. والفهم الذي تم تشويهه من كل شيء حولنا عن معنى الإله المتصف بصفات الكمال، المُغاير لكل شيء تعرفه ولكل شيء تجهله، سيؤدي بنا بالتأكيد إلى طريقٍ مسدود.

لسان حال الناس هو أننا عندما نحل المعادلة التي ذكرناها في البداية، سنتحول إلى آلهة. في المسلسل الشهير «لوسيفر» Lucifer يتم تناول الأمر من جانب «كائنات سماوية» أنتجت لنا هذا الكون، به الملائكة أبناء الإله -بالمعنى الحقيقي على حد فهمي- وبه أدوات سحرية لأن بها خصائص إلهية Divine characteristics، وعقلية بطل المسلسل تدور حول فكرة «ليس لامتلاك شخص قدرات عالية، يعني أن من حقه كذا وكذا. فهذا الإنسان الجيد، لا تعميه سلطته ولا يعني منصبه أن يكون فعَّالاً لما يُريد، حتى لو كان هذا المنصب هو الألوهية».

إذن، منْ هو الإله؟

بحسب محرك البحث «جوجل»، فإن ثاني أشهر سؤال في 2013 في أستراليا كان «من هو الإله؟». لقد نسي الإنسان فعلاً ما معنى إله، فمن التصور للرجل العملاق «زيوس» في السماء، و«ثور» إله الرعد، للتصور نصف الإنسان ونصف الحيوان، وإله الراب (إيمينيم)، والملابس المطبوع عليها (أنا إله) قد تشوَّش عقلك.

«مورجان فريمان» والذي قام بواحدة من سلاسل الوثائقيات (قصة الإله)، يُجيب عند سؤاله عن الإله: بأنه يؤمن بأن هو والإله نفس الشيء. فصفات الكمال لا تأتي بـ versions نسخ (1%) و(50%) و(99%) وإلا لن تكون كاملة. لا يوجد نصف إله ولا شبه إله.

الإله ليس قوياً أو عليماً أو قادراً، بل الإله هو القوي الذي لا غالب له، هو العليم الذي يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وهو القادر الذي لا يقهره شيء وهو الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، المتنزه عن النقائص.

الإله ليس سوبرمان بالنسبة للبشر، فهو الإله قبل الخلق وبعد الخلق. الذي لا يُمكن أن يُتصوَّر ما هو أعلى منه.

الإله الخالق وكل ما عداه مخلوق. الإله الواحد وما كان معه من إله، إذن لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض، حتى يتبين منْ هو الإله الحق. وأن ما يدّعون من دونه هو الباطل.

(المصدر: موقع إضاءات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى