بين النعرة والاستغراب نلتهم تاريخ طعامنا الحضاري
بقلم محمد بوقنطار
سيرة الأمم كحياة الأشجار وطبيعتها، فالرسوخ في الأرض والثبات لا يكون منها إلا لمن لها جذور ضاربة في طنب الأرض وعمق التراب، وكذلك الأمم فالأمة التي لا تاريخ لها شجرة لا قرار لها ولا استقرار، سرعان ما تعصف بعيدانها وأفنانها رياح الأزمات المرسلة، ولذلك فأنت تجد الكثير من الدول الحديثة والقوى الإقليمية الكبرى تستجدي في سيرها المدني الحاضر ذاكرة ماضيها التاريخية ولو كان محصول تراثها في هذا الشأن حطب ليل وأضغاث أحلام وسرابِ، وهي إن لم تجد ما تقر به العين أرّخت لحياتها الحاضرة وإترافها في مناكب الأرض بما راكمته ذاكرتها الإبداعية والصناعية المحيّنة من صيحات واختراعات مادية صناعية أو أدبية فنية.
فأمريكا مثلا وهي تهتم بتوثيق تاريخها تؤثر التحقيب لماضيها القليل الأنفاس والقصير الحبل بما رادفته يد صناعتها المادية من سلسلة اختراعات متعاقبة لأجيال وصيحات عقولها الإلكترونية “أجيال الربوتات”، تسجل هذه النكتة من الحرص في دائرة الحاجة والعوز والفقر التاريخي والحضاري لأكبر قوة إقليمية في العالم المعاصر، في الوقت والحين والآن الذي ما فتئ فيه العقل العربي الحداثي العابث ينظر إلى تراثه التاريخي من زاوية اعتباره معرّة ونقطة سوداء تشكل فقاعة لونها الأسود مفاهيم الرجعية والظلامية والجاهلية، بل لا يرى هذا العقل صحة ولا عافية ولا نضجا أو تطورا إلا بشرط ومشروط الانفكاك الكامل والقطيعة التامة والخصومة اللجوجة مع هذا الماضي من تاريخ الأمة.
ولربما ودّ غيرنا لو يشتري هذا التاريخ بملء الأرض ذهبا، ولو تحصلت له حسنات ما ورثناه بالتواتر المحمود من تاريخ حافل بمقومات الحضارة في أرقى معانيها سيرة وسمعة وسعيا في جنبات الأرض وزوايا مناكبها، وربما تعلّق المشتهى وتربص بمأمول ما ورثناه حتى على مستوى مائدة طعامنا، نعم طعام قد لا يؤبه له ولا يلتفت إلى خصيصته التاريخية، كمكوِّن حضاري له وزنه ونصيبه الرمزي والإشاري في مقام الاعتداد التاريخي.
ولذلك فالمتأمل في هذا الخصوص قد لا يجد حرجا أو كلفة في الوقوف على هذه الحقيقة وهذا المعطى الذوقي، وإلا فليس من باب الصدفة أو من قبيل الاتهام الزائف الحائف أن تجد المائدة الغدائية للأمم التي لا تاريخ لها ولا أصالة تطبعها من جهة الإعداد السرعة فتغلب على معروضاتها الأسرية والتجارية في هذا الباب خصيصة الأكلات السريعة التي تعدّ في ثواني وتستهلك في دقائق معدودات قبل ذهاب الفور وجفاف الريق.
ولا شك أن الاعتبار الذي يرقى ويرفع مباح الطعام من دركة الأكل والهضم والاستمتاع الذوقي الأنعامي إلى درجة خصيصة المكوِّن الحضاري، هو اعتبار لابد له أن يبحث في ماهية مسوغات هذا الانتقال والتحول النوعي، الذي يضعه في صميم ومن الخصائص والمقوّمات التاريخية والإنسانية التي تتمايز بها الأمم والأقطار لا مجرد القبائل والفخدات والعشائر في دوائر مفهومها النعراتي النتن الضيق.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لم يكن من الحشو أو العبث في شيء أن تجد المصنفين من الأعلام والعظماء واستنباطا من منطوقات الوحي ومسموعات الرسالة العصماء قد أفردوا للطعام أبوابا ومباحث وحفّوه بمجموعة من الضوابط والوصايا والمرعيات التي صيّرته ووضعته تحت أشعة الأحكام التكليفية المجزى عنها تحت طائلة ثنائية الثواب والعقاب، مناقشين عبر بوابة الشرع أدق التفاصيل التي تميِّز حلاله عن حرامه وطيبه من خبيثه كونيا لا محليا وعالميا لا وطنيا، إذ ليس في المحل ولا موطن الرسالة المحمدية وبؤرة موقدها الأول عُرْف بدوي زراعي يجعل العربي مولعا برعي قطعان الخنزير، هذا إن كان الخنزير موجودا!!!
كما أن جزيرة العرب ليست بتلك الجنة الدنيوية التي تجري من تحتها الأنهار وتتفرع وتكثر وقد تحدث القرآن الكريم عن تحريم جيفة المنخنقة، أو سلاسل جبلية حتى يتناول التحريم جيفة المتردية، ولا عرينا لسباع متوحشة حتى تمتد معطوفات التحريم إلى ذكر ما أكل السبع وسَأَرَ بقاياه…
ولا شك أيضا أن التسمية قبل بدء الأكل والحمد بعده، وتقييد آلة الأكل باليمنى وعدم تجاوز ما يلي من ماعونه وما يلزم هنا ويشير إلى المشاركة الجماعية ويربي الألفة والتجانس ويقوي الأواصر الاجتماعية بين أفراد الأسرة وغيرهم، وأن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة… وضبط مشاركته للغير خارج الطوق الأسروي بضابط التقوى مصداقا لقول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام “لا يدخل بيتك إلا مؤمن ولا يأكل طعامك إلا تقي”، كلّها أمور تضع الطعام في مقام المكوِّن الذي له دوره ومكانته داخل النسيج الحيوي الذي تتشكل منه اللحظات التاريخية للأمم التي بلغت ذروة التحضر، وحفظ التاريخ ذكرها الطيب وسعيها المبارك ومنفعتها المتعدية.
ولست أدري منبع ذلك الشعور الذي يؤزني ويجعلني بعد هذا في كل حين ولحظة مدفوعا بالقسر إلى أن أقرأ زخم ومضامين بعض البرامج التلفزية التي تهتم بموضة الطعام وصيحات ومسابقات الطهي المعاصر على امتداد الرقعة الجغرافية للوطن أولا، ولباقي الأوطان التي نشاركها وتشاركنا اللسان والعرق والهوية الدينية وصِفة التصنيف الثالثي عطفا وتبعا، مدفوعا بالقسر إلى أن أتوجس منها خيفة وأن أراها بعين الريبة وأناقشها مع دواخلي ملبسا إياها تهمة ثقيلة، تهمة المؤامرة، وليس منبع ذلك الإحساس وهذا الشعور وتلك الرؤية خواء يصنعه التحامل والتطفيف أو تنتجه في الجوف مركبات نقص المغلوبية، ولكنها أحاسيس تصنعها في العمق متابعتي العمدية ذات الإصرار والترصد لمضامين حلقاتها ومواضع وأماكن إناخة ركبانها.
إذ أجد الأمر مثلا بعيدا عن الارتجالية والصدفة في مناخ يعج بدعاوى التفرقة دعاوى النعرات المنتنة التي ما فتئ ضجيجها يتعالى موجها تهمة الاحتلال العربي لأرض “تامزغا” وممارسته لعدوانية العنصرية وهلم جرا من التهم والسهام المارقة من صدور بات يملؤها الغيض والحقد وروح العداء للعرب والعربية وللمسلمين والإسلام، ليس من قبيل الصدفة أن توغل هذه البرامج في تكريس ملاحظ الفروق بين المائدة الريفية ومعها الأمازيغية والبربرية والمائدة العربية على مستوى الطعام التراثي كاختلاف مكونات الكسكس العربي المغربي عن أخيه وجنسه من الكسكس الأمازيغي لاغية وضاربة بالصفح عن معطى الاشتراك والتجانس الحقيقي الذي مفاده أن كلا الكسكسين لا يقبلان لحم الخنزير ولا مرقه كمكوِّن رئيسي أو ثانوي، أو بمعنى أن كلاهما يقعان تحت رحمة الطيب الحلال وذلك مربط الفرس وأس المسألة وحوله يجب أن تدور الدندنة، وتحت حرارة رماده وسخونة لهيبه تذوب شوائب الشحوم العلقة…
كما أنه ليس من قبيل الصدفة ولا الارتجال في شيء أن تركز مسابقات الطبخ التي تناسلت تناسل الفطر في يوم ممطر، ورصدت لها ميزانيات ضخمة قد لا تجد لرقمها في مقام النسبة المئوية مثيلا ولا عديل ضخ في رقم المال العام المرصود للبحث العلمي ومعه البحوث الجامعية جمعاء، أن تركز على إقحام العنصر الذكوري وإبراز تفوّقه على المعهود الأنثوي في هذا الشأن والأصل الأصيل، ونشير هنا إلى الفوز المتكرر للرجال وتفوقهم على الإناث عدّة وعددا “برنامج -ماستر شيف- نموذجا”، وقد تربينا لسنين عددا على أن هذا استثناء لا يمارس إلا خارج عرين الأم المتبعلة، رحم الأجيال، الودود الولود، المرابطة على الثغور والحياض، مربية الأبطال وحضن العلماء وسند العظماء، كما لم نترب على أن نأكل فرادى في صحون يوضع فيها الطعام مصفوفا في طابق يحاكي فيه الطباخ ثم الطباخة ريشة الفنان التشكيلي في رسم لوحته السريالية ذات الألوان الزاهية والخطوط المتقاطعة في تنسيق وتعامد، ويحجر واسعه الذي لا يغني من جوع ولا يرد بصرا ولا يملأ معدة ولا يؤلف بين قلوب كانت تشتبك ببنانها وتتزاحم بذواتها في مودة ورحمة حول مائدة من موائد طعام الأمهات والجدات والخالات والعمات يعلوه الفور كما يعلوه النهي والتواصي بالخير من قوامة القيادة الأبوية وحنان الأم الفاضلة.
إنه اعتساف واعتداء صارخ على الأصالة في هذا الجانب، بل هو مسخ يردفه نسخ قد يستهدف ما نمتلكه من مقومات ثقافية أصيلة في هذا الركن أو المكوِّن الحضاري، ولا نرى لخرقه إلا توسعا وتمددا وتمططا متى ما تظافرت جهود الاستغراب ووفتح المجال أمام مشاريع قطع يد الأصالة في مناخ يعج بدعوات الجاهلية ويدخلنا في جحر الضب وأتون عذاب الفرقة، ولربما لا نملك من الحجج ما يدين أو يقدح في قصد ونية القائمين على هذا الإقعاد والممارسين لهذه الحيدة، وليس المقصود الإدانة أو تفصيل التهم على مقاس الذوات والأعيان، وإنّما الحكم والنقد يقتضي الصدع به والتحذير منه من جهة استشراف ما وراء الأكمة وتسمية المسميات باسمها، وتقييم ونخل الظواهر بعين الإنصاف عسى أن نتدارك أنفاسنا قبل الغرغرة والله يتولى السرائر ويديم علينا نعمه والألطاف وهو من وراء القصد يهدي إلى سواء السبيل.
(المصدر: هوية بريس)