لم يعد أحد تفاجئه قصص الإرهابيين الدواعش الذين يتركون بطائف تعريفهم ووثائق هوياتهم في أماكن جرائمهم حيث صارت تتكرر حد الملل، فلا يوجد تفسير لهذا الكم من الغباء المتكرر في كل العمليات الكريهة والبشعة التي اقترفت ضد الأبرياء والمسالمين عبر العالم والتي تطرح ما لا يحصى من الأسئلة حول طبيعة تنظيم داعش الدموي الغامض والمشبوه وأهدافه وسياق ظهوره الذي تزامن في صدفة غريبة مع ثورات الربيع العربي حيث هبت الشعوب نحو الحرية فتلقفتها الأيادي الآثمة قتلًا وتعذيبًا وقمعًا.
وبغض النظر عن الخلفيات الاستخباراتية العالمية التي قد تكون وراء هذا التنظيم الدموي الغامض، فإنه إذا كان يصح فعلًا وحقيقة أن العقلية السقيمة الدموية القاتلة المستمتعة بالقتل التي تميز أفراد تنظيم داعش قد خرجت من قراءة غبية ومشوهة لتراث إسلامي تركه علماء عاشوا زمانهم وألفوا اجتهاداتهم وفتاويهم في سياقهم الخاص وظروفهم التاريخية كابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم، بيد أنه يصح أيضًا أن من يهاجمون الإسلام باسم الحداثة والعلمانية ويحاولون في كل مرة وانتهازًا لكل فرصة لوضع الإسلام ونصوصه على هامش الواقع والتاريخ يعود خطابهم بدوره لتراث قديم يعتبر ابن رشد أحد رواده، بمحاولة تسبيق العقل على النقل ووضع الفهم البشري في المقدمة أمام النص الإسلامي المتواتر والمنقول، فكلا الخطابين السقيمين ينهلان في الحقيقة من نفس التراث الزمني يميزهما فقط الفهم الأعوج لسياقاته ومحاولة إسقاطه على واقع مختلف وبعيد زمنيًّا وتاريخيًّا.
فرواد الحداثة المغشوشة يروجون بدورهم لخطاب الكراهية والإقصاء ويساهمون بشكل أو آخر في إطالة أمد داعش وأخواتها من التنظيمات الدموية الكريهة التي تمارس التكفير والقتل، فلا يوجد مطلقًا في خطاب الجانبين معًا ما يشي بنهاية المأساة المستمرة من الدماء المسفوكة دون وجه حق سوى خطاب وسط ووسيط يمسك خيط التأليف والتوليف ويحمل الجانبين على شراع يُبنى من مواد التراث التاريخي نفسه ليوصل لبر تقارب الفكر الآمن وحق الاختلاف.
قد تكون مأساة عدد الضحايا الذي سقطوا بسبب تواطؤ العلمانيين المدعين للحداثة مع حملة السلاح القمعي في كل البقاع العربية أكبر بكثير ممن سقطوا بسلاح التطرف الداعشي التكفيري، بل إن الضحايا هم نفسهم في كل مأساة تحصل؛ أبرياء يبتغون الحرية والكرامة وحق التفكير والتعبير والعيش المشترك دون وصاية قمعية سواء من الخطاب التكفيري المتطرف أو القوة الأمنية والعسكرية النظامية المسلحة التي تخنق الأنفاس في كل شبر في الأراضي العربية خصوصًا.
لماذا ينبغي إذن أن يكون قدر أصحاب الخطاب السلمي المعتدل الحقيقي وهم ليس بالضرورة إسلاميين بين نارين حارقتين: إما الإقصاء من منابر النقاش والحوار وحرمانهم من الحضور بل والسحق بالآلة القمعية فلا مكان لهؤلاء فوق خشبة الحداثة والعلمانية والتطور الكاذب المزعوم، أو مواجهة التكفير واستحلال الدماء بنصوص تراثية قديمة فهمها ذوو عقول سقيمة فهمًا لا يؤمن ولا يعيش إلا بالمآسي والفواجع؟!
إنه مأزق قاتل كبير وجد فيه العقل العربي نفسه محشورًا ومحصورًا بين ثناياه، حيث عجز وفشل العقل الجمعي العربي في فهم التراث ولم يُخرج من هوامش كراساته ونصوصه القديمة سوى كيانات مليئة بالكراهية والقتل في حين استطاع الغرب أن يتجاوز التسلط الكهنوتي ليؤسس لنظام حياة ليس فيه ترابية أو وصاية قمعية فأصبحت شواطئ الغرب ملاذًا وحلمًا للهاربين من جحيم التطرف القاتل والعلمانية الإقصائية المتواطئة مع آلة القمع الرسمي.
فهل يفك العقل العربي القيود والأغلال وينطلق مندفعًا نحو حرق سفن التطرف والاستبداد معًا؟!
(المصدر: ساسة بوست)