مقالاتمقالات المنتدى

بين الرياض وأنقرة: تاريخ من الآمال للأمة

بقلم صبغة الله الهدوي (خاص للمنتدى)

في الفترة التي تمر الدول الإسلامية فيها بأوضاع قاسية وظروف متورطة لا بد من لفتة يسيرة نحو الممرات التي عبرناها في بوتقة الحب والوفاء الخالص، بأن الأمة مهما تلونت راياتها واختلفت مشاربها وتغيرت عواصمها كانت مربوطة بفتيل الإيمان، وكانت مفتولة بحبل الله الموصول، تظلل كل من لجأ إليها وتسمع نداء الملهوفين والمستضعفين، وتمد كنفها نحوه، بغض النظر عن جنسيته وقوميته ونسبه، وينطق التاريخ عن مملكة إسلامية احتضنت جاليات اليهود المبعثرة والتي سمحت بقطع من الأرض لهم من غير فرض أي رسوم عليهم، ولكن لما توجه العالم نحو أفق جديد من البهرجات المصبوغة بالوطنية والعرقية انقلب هذا التوازن وتبلبل هذا التزامن، فأصبحت الأتراك ينبشون تاريخهم ويمهرجون أجدادهم ويستعيدون سلطنتهم بينما علت في حارات العروبة شعارات “تحيا العروبة وتبقى الوطنية” بل تغير مسار الشعارات وانصهرت في كل دولة تختص بها، فلا مصر تحب سوريا ولا تونس يحب عراقا ولا إيران يحب الحرمين، بل كل حزب بما لديهم فرحون، فلو اتحد العرب والأتراك واستمدوا من تاريخهم وابتلعوا المرارة التي أصابتهم لتحول مسار الأمة ولجرى العالم نحو اتجاه جديد.

وفي كل لحظة من هذه الفترة الداكنة توقفت القدس في مرمى النبال وتأرجحت صراعاتها لأجل الحرية والاستقلال على زناد الأمة، وتمايلت قضيتها حسب الحركات المتحمسة في الصعيد الإسلامي الواسع، وتشعبت المشكلة حتى لا يجتمع الأخوان في طاولة واحدة، فيهم من يشدّ أزرها ويشدد في دعمها ومن لا يتهاون في شبر في أرضها الموقوفة، وفيهم من وزعوا أسلحة هدامة ومن عبسوا وجههم عن هذه الديار المقدسة، وكأن الأمة تدور رحاها حول القدس وقبتها وحول تراثها وحول تاريخها، فالقدس دائما تقرض مساجلات الانسجام، فتركيا دافعت عن فلسطين ودفعت قوتها له، فالسلطان عبد الحميد الثاني يقوم في طليعة المدافعين لصالح فلسطين، بل اشتعلت منابر الشرق الأوسط بقضية القدس والتهويد، هكذا عانقت الأرواح وصافحت الملائكة.

العرب والأتراك: محبة من وراء الحدود

وقد ثبت في الحديث الشريف عن فتح أسوار القسطنطينية وعن قائدها المعظم” نعم الأمير أميرها ونعم الجيش جيشها”، حديث تستر فيه آلاف المعاني والوجدان، بل تطاول لتحقيقها زعماء العرب وفرسانهم، لكن الوعد الصادق تبلور تحت سطوة محمد الفاتح العثماني وقضى على القلعة التي أرقت الأمة ونشرت الفتنة وحجزت تيار الإسلام وراء جبال آلبيس وآنديز،  ففي تاريخ 1453 م كسرت العثمانية شوكتهم وشقت شراع سفنهم، ومنذ ذلك الحين، تراكضت الأمة بأحلامها وقفزت بأعلامها نحو أنقرة ومرمرة، فرأوا الأندلس الرطيب يلوح من بين البحر المتوسط وتطلعوا إلى شمس من جديد تعانقهم في أفق أوربا، لأنهم كانوا في وطأة الرومان وفي خيبة الأمل من إسبانيا ومدنها المستعرة مع أنهم يتلون “آلم غلبت الروم”.

 بل تحكي “القسطنطينية” قصصا رائعة من البسالة في حلبة الجهاد الإسلامي وتنطوي في ذاكرتها حكايات من الجهاد، حين خاض أبو أيوب الأنصاري في المعركة الدامية الدامسة، وهو هرم يلوذ بعكازته، يقول له أبناءه” يا أبي لا يفترض عليك الجهاد فلم تلقي بأيديك إلى التهلكة”، كان جوابه صادما سجله التاريخ يعبر فيه همته وجاهزيته لصالح الشهادة، حتى استشهد فيها ودفن وقبره الآن يمد جسرا موصولا بين أنقرة والمدينة، بل هو نفسه الذي برك في عرصته قصواء الرسول تلبية لقوله الغريب “دعوها فإنها مأمورة”، فمن هذه الحادثة التي تحمس أفئدتنا وتعبر عن اشتياق العروبة في فتح أسوار القسطنطينية نبني السلالم لغد جميل ونحتضن وعي الأمة قلبا وقالبا وروحا ودما.

من الذي يجني من صراعات الأخوة

الأمة دائما فشلت في العثور على قناصها الحقيقي والقبض على أشباح الفتنة، لأنها كلما أقصت ذاتيتها وحقيقتها من ربقة الإسلام ظلت تتعرض لشتى الهجمات والحملات العدائية، ففي كل وهلة تعرفت تاريخها وتلت كتابها تراصت الصفوف والتفت القلوب والتأمت الجروح والتم الشتات، فمن العدو الحقيقي الذي يريد إحباط هذه المحجة الحنيفية السمحة، وأين فخه وأين آلاياته المفخخة، فما يوم حليمة بسر، لأن الأمة خاضت حربا إثر حرب، إما النصارى وفرسان المعبد، وإما مؤامرة اليهود، وكانت الحرب بينا وبينهم سجالا، لكن الحب ظل يجري فينا سيالا، فما هاجمت العرب سلجوقيا أو مملوكيا، بل خاطت الرسالة الإسلامية حلة الغرام والمحبة، فكانت رسل الملوك الإسلامية تتبادل وحي السلام وتقسم للوقوف على وجه العدو ولحماية بيت المقدس، لكن متى انقلبت الموازين وانكسرت الأحلام.

فالأمة تفتح المدائن بشكل ميسر لكنها تنحني أمام سيل من المؤامرات الموجهة في تبديد الخلافة وتشتيت الوحدة، ولأن الخلافة العثمانية أرست لبنتها الأولى على تابوت فرسان المعبد الصليبية ثم جهزت نعشها في صومعة اليهود المكرة، فكيف نجحت الأمة في الأولى وترسبت في الأخرى، لأن الأمة تأخرت في كشف المؤامرات التي تجري تحت ستر الليل البهيم بل بقيت تثق بنفسها الباسلة للمبارزة واتكلت على عضلاتها الفتية ولم تحس بنبضة العصور التي لا يفوز فيها إلا الماكر المتآمر، حتى اتسعت هذه الجرحة في قلب الآمة فكأنها تتآكل من نفسها فانهارت وانهدت تحت سمع العالم الإسلامي ونحيبه الصارخ، لأن الشعوب غير الأتراك وقعوا في يأس قاتل حين تقلبت الشباب الأتراك زعامة الخلافة فتوترت حالتهم حتى أضرمت الإمبراطورية شرارة الفرقة والانفصال، دائما يرقد العدو في عقد دارنا ونحن نيام.

وقد لاحظنا تلك الفترة الصاخبة حين نكست راية العثمانية وما زالت الطواغيت ترتع في عواصمها ولم يبق أحد يرثي لحالها من جوف قلبه، لأنه تغير مجرى التاريخ وتحولت حبكة المسرحية، لأن في العرب من يلقن أحفاده بأن الترك احتل وطنه ونزع منه سلاحه، وأن الأتراك هم المحتلون والمغتصبون، دروس من عمق العصبية الفاحشة وانطباعات من اليأس الذي اعتاده العرب، بل كانت تلك الفترة أبشع فترات شهدها العالم الإسلامي يعبس التركي عن أخيه العربي والتركي يلوي وجهه عن أخيه ذي العقال، تورمت تلك الجروح ولم تزل تتسع، لأن كابوس العثمانية ومجدها تتمايل في كلا الطائفتين، فبقيت هناك أفئدة تحن إلى أوكار السلام وإلى عودة المجد والتراث الخالد، ونبذ الشتات إلى الوراء والبناء من جديد، لأن فطرة العرب منسوجة بالحب والحرب والأتراك أيضا مدبلجة منها، فلا بد من “سكة حجازية” تواصل بين الرياض وأنقرة.

ملامح من تاريخ الحب

كانت العرب تعيش أحلى حياتها وتتمتع بأبهى ممالكها، وتمر بالأموية والعباسية الشامختين، ولكن بعدما انقضت جدران الخلافة وأصبحت بغداد مقبرة التراث ونعش المآثر تولد في الإسلام جيل جديد وتكرر في تاريخه إعجازيته وقدسيته، وتولى زعامة الأمة السلاجقة وتبادلوا شراعه إلى العثمانية بعد، فخضعت بغداد ودمشق والقاهرة تحت قدمي سلاطين الأتراك، لقد تحولوا من 400 خيمة إلى جيش عرمرم، يقف على وجه المغول وعلى حدود فرسان المعبد، وقد شكلت المملكة العثمانية خطرا كبيرا لكل من هفوا نحو القدس ومسجده، ومثلوا سدا منيعا في وجه الباطل وعداء الإسلام.

وكان العرب والمسلمون في عصور الضعف والانكسار يشتاقون لقوة إسلامية قصوى تجمع الشتات وتلم الشمل الإسلامي الذي ذهب متبعثرا على سفرة المؤامرات والدسائس المرتصدة، لأن الدواهي قد شرقتهم وغربتهم، فما إن لاحت أمام هؤلاء “الآبقين” هذه القوة الناشئة التي ترفع راية إسلامية، والتي تحتضن القرآن والوحي والرسالة، وقد تبلورت في تاريخها عديد من المسالك الصوفية التي ألقت زماما عاليا على قلوب الشعب التركي، فابن عربي وجلال الدين الرومي نجمان متألقان في سماء تركيا الأبية.

فإن العلاقة بين تركيا والعرب تاريخ طويل يمتد إلى القرون، حيث قامت تركيا باحتلال الأراضي العربية وامتلاك أعنتهم، بل وقف العرب معهم في المحاربة على الصين، وفي الخلافة العباسية حازت الأتراك على مناصب راقية في الجنود والبلاط، لأن عضلتهم كانت قوية وتضحيتهم كانت وفية، وأيام الحملة الشيعية على بغداد استنصر الخليفة العباسية بالسلطان السلجوقي طغرل بك حتى نصره وانتصر على الشيعة، ثم ورثت الأتراك السلاجقة فأصبحوا يحتلون بلاد العرب ويسيطرون عليها غير شمالي إفريقيا، ومن هنا تحصلت السلطنة شعبية واسعة وهالة بين العرب والعجم، وأقبل علماء من العرب والعجم يهنئون ويرحبون الخلافة، منهم العالم المصري عبد الوهاب الشعراني حين انطلق قائلا” بأن العثمانية وجنودها فقط بناة المجد والدين” والعالم الدمشقي عبد الغاني النابلسي قال مرة” بأن الأرض يرثها عبادي الصالحون” وانضم معها جميع الحركات الإسلامية ورأوا فيها ريادة وسيادة توحد كلمة الأمة، ولأجل هذا التضامن والتعاطف بكت الهند وأنت حين دمرت عروش الخلافة ونفخت في بلاطها أبواق الغربنة والعلمانية السراب، بل الأتراك أيضا عانقوا إخوانهم من العرب وشرفوا لأرومتهم العريقة وأصالتهم العتيقة النبوية الخالدة ولم يعاملوا المناطق العربية كالمستعمرات بل مساقط رأسهم الأصلية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى