بين الدهاء السياسي والعقيدة القتالية.. هكذا فككت طالبان مصالح أمريكا بأسيا الوسطى
بقلم معتز علي
أجريت مفاوضات ماراثونية خلال الشهور السابقة بين حركة طالبان والحكومة الأمريكية في العاصمة القطرية الدوحة، وأظهرت طالبان خلالها ندية شديدة بالتوازي مع استمرار العمليات العسكرية ضد المحتل الأمريكي طوال فترة تلك المفاوضات، والتي تمخضت عن اتفاق بين طالبان وإدارة ترامب، تعهدت فيها أمريكا بسحب جنودها من أفغانستان تدريجيا على عدة مراحل وإغلاق معظم القواعد العسكرية، مقابل تعهد طالبان بعدم السماح لأي جماعة مسلحة باستخدام الأراضي الأفغانية كقاعدة لشن هجمات ضد مصالح أمريكا في المنطقة، إلا إن أمريكا أصرت على تمركز بعض الفرق الأمريكية في أفغانستان بصفة دائمة كضمانة لذلك الاتفاق، وهو ما ترفضه طالبان بشكل قاطع، مما دفعها لإستئناف العمليات القتالية ضد القوات الأمريكية والتي أسفرت عن مقتل جندي أمريكي.
كانت مصالح أمريكا في آسيا الوسطى في التسعينات تهدف للسيطرة على مكامن النفط والغاز في آسيا الوسطى وبحر قزيون، لقطع الطريق أمام روسيا والصين ومنعهم من الاستفادة من تلك الثروات، وهو ما دفع إدارة الرئيس الأمريكي السابق كلينتون للضغط على حكومة باكستان بزعامة بنظير بوتو، بهدف منعها من التعاقد مع إيران لتمديد أنبوب لنقل الغاز من الخليج العربي إلى باكستان، واستبداله بأنبوب آخر من تركمنستان في وسط آسيا، والذي يمر بأفغانستان، وبالفعل وقع الجانب الباكستاني والتركماني ذلك الاتفاق الذي تدعمه أمريكا وشركاتها النفطية في مارس 1995، ولم يتبقي على اكتمال المشروع إلا موافقة الجانب الأفغاني، وكانت أفغانستان قد ضربتها الحرب الأهلية بعد إنتهاء الغزو السوفيتي، لكن استطاعت حركة طالبان السيطرة على العاصمة كابل في سبتمبر 1996، وسط أنباء عن دعم من حكومة باكستان وصمت إيجابي من أمريكا، ومع سيطرة طالبان على معظم الأراضي الأفغانية دخلت أمريكا في مفاوضات مع طالبان لتمرير خط غاز تابي (تركمنستان-أفغانستان-باكستان-الهند)، الذي يضمن تزويد حلفاء أمريكا (باكستان والهند) بكميات كبيرة من الغاز، وفي نفس الوقت تتفعل العقوبات ضد إيران وتمنع من تصريف مخزونها الهائل من الغاز، باتجاه شبه القارة الهندية.
وبالفعل أرسلت طالبان وفد إلى عاصمة النفط بأمريكا (هيوستن) للتفاوض عام 1997، والاتفاق على التفاصيل، وتم الاتفاق على أن تقوم شركة يونيكال الأمريكية بتمديد أنبوب الغاز في أفغانستان. بالتزامن مع تلك المفاوضات وصل في نهاية 1996 إلى الأراضي الأفغانية قادما من السودان، أسامة بن لادن أحد قادة المجاهدين العرب في الحرب الأفغانية السوفيتية، كما وصل مع بداية 1997 أيمن الظواهري زعيم تنظيم الجهاد، ليشكلا معا عام 1998 تنظم قاعدة الجهاد الإسلامي، والذي يهدف لضرب المصالح الأمريكية حول العالم، ونقل المعركة -حسب تصورهم- من قتال العدو الأصغر (حكام البلاد العربية والإسلامية الخونة)، إلى قتال أمريكا العدو الأكبر مباشرة، وبدأ التنظيم نشاطه بتنفيذ هجمات على السفارة الأمريكية في كل من كينيا وتنزانيا عام 1998، مما أوقع المئات من الضحايا. ومع رفض طالبان تسليم زعماء تنظيم القاعدة لأمريكا، أيقن الأمريكيون أنهم قد خدعوا من قبل قادة طالبان، فقد كان الصمت الأمريكي عن وصول طالبان للحكم، كان في مقابل تعاون الحركة لمد أنبوب الغاز، في إطار خطط أمريكا للسيطرة على غاز وسط أسيا ونقله لمناطق الاستهلاك في الهند وباكستان، إلا أن موقف طالبان العدائي تجاه أمريكا قد أوقف ذلك المشروع.
تسببت هجمات سبتمبر الشهيرة على برجي التجارة العالمي عام 2001، في إعلان أمريكا الحرب على طالبان، وبالرغم من إعلان تنظيم القاعدة لمسؤليته عن الهجوم، إلا أن وقوع البرجين بهذه الصورة الدراماتيكية والغير منطقية، فضلا عن عشرات التفاصيل الغريبة، دفعت الكثيرون للقول بأن تلك الهجمات كانت بمساعدة عناصر تابعة للمخابرات الأمريكية، حيث استغلت أمريكا تلك الهجمات في إعلان الحرب على طالبان واحتلالها بعد شهرين من وقوع الهجمات، كما تم تنصيب حامد كرزاي رئيسا على أفغانستان، وهو أحد موظفي شركة يونيكال الأمريكية التي كانت تشرف على مشروع (تابي) لنقل الغاز.
بالرغم من انتشار أمريكا العسكري بدول آسيا الوسطى مثل قيرغيزستان وأوزبكستان وطاجكستان بالإضافة لعدة قواعد عسكرية في أفغانستان، إلا أن أمريكا فشلت في بسط سيطرتها على أراضي أفغانستان. وفي سياق آخر مثلت المرونة السياسية لقادة طالبان الدور الأكبر في إفشال مصالح أمريكا في المنطقة، فبالرغم من إعتناقهم للمذهب السني، إلا أنهم قد تحالفوا مع جارتهم الشيعية إيران رغبة في هزيمة أمريكا وطردها من أفغانستان، حيث كشفت عدة تقارير صحفية غربية عن استضافة أكاديميات عسكرية إيرانية لجنود من طالبان وتدريبهم، كما كشفت تلك التقارير أكثر من مرة عن وجود أسلحة إيرانية وروسية مع مسلحي طالبان، حيث تلاقت مصالح ورغبات كل من روسيا وإيران وطالبان في طرد أمريكا من أفغانستان، لمنعها من الهيمنة على مقدرات وثروات شعوب المنطقة، وهو ما يمكنها من السيطرة على جانب كبير من التجارة العالمية عبر بسط سيطرتها على معظم الثروات النفطية حول العالم.
شكلت الخلافات الحدودية بين باكستان وأفغانستان محور الصراع بينهما، حيث ترفض حكومات أفغانستان الاعتراف بخط ديورند الحدودي، الذي رسم الحدود بينهما عام 1893، بسبب تقسيمه لمنطقة القبائل بين الدولتين، فيما تصر باكستان على قانونية ترسيم الحدود، وهو ما دفع حكومات أفغانستان (الموالية لأمريكا) منذ عام 2004، إلى زيادة التعاون العسكري والاقتصادي مع الهند -العدو التقليدي لباكستان- في محاولة للضغط على باكستان، الأمر الذي دفع حكومات باكستان للتقارب مع حركة طالبان لمحاولة تفكيك التحالف الهندي الأفغاني، حيث تري باكستان أن أفغانستان هي العمق الاستراتيجي لها، في حال وقعت حرب مع الهند.
ومن ناحية أخرى، تتزايد الخلافات بين أفغانستان وإيران بسبب تشييد حكومات أفغانستان (بدعم هندي) عدة سدود على الأنهار في المناطق الحدودية مع إيران، وهو ما يؤثر على تدفق المياه للجانب الإيراني، مثل منطقة فراه الحدودية، والتي تعد أحد أهم معاقل طالبان، لذلك كان التحالف الإيراني مع طالبان منطقيا، خاصة في ظل تقارب الرؤي بينهما حول ضرورة طرد القوات الأمريكية من أفغانستان.
أدى تغير المعطيات السياسية والاقتصادية على الساحة الإقليم والعالمية، إلى إبداء طالبان لبعض المرونة السياسية، وهو ما تمثل في ترحيب حركة طالبان عام 2018، بدخول خط الغاز التركماني لأفغانستان مع تعهد بحماية الخط، الأمر الذي شكل مفاجاة للمراقبين. لكن بعض المراقبين يري أن تغيير طالبان لأولوياتها المتمثلة في السماح للشركات الأمريكية بالعمل في مشاريع الغاز يعتبر قراءة جيدة للمشهد، حيث تغيرت أولويات أمريكا في المنطقة مع بداية حدوث طفرة في إنتاج الغاز الصخري في أمريكا مؤخرا، والذي أثمر عن تعاقد الهند مع أمريكا عام 2018 لتزويدها بالغاز المسال لمدة 20 عاما، فيما تعاقدت باكستان عام 2016 مع قطر على تزويدها بالغاز المسال لمدة 15 عاما، مما قلل من أهمية أنبوب الغاز بالنسبة لأمريكا، لذلك غيرت طالبان من أولوياتها وقامت بفتح مسار تفاوضي جديد مع أمريكا بداية عام 2019 بوساطة قطرية، وأسفرت تلك المفاوضات عن شبه اتفاق بخروج القوات الأمريكية على مراحل وغلق 5 قواعد أمريكية، في مقابل إلتزام طالبان بعدم السماح لأي جماعة مسلحة باستخدام الأراضي الأفغانية التي تقع تحت سيطرتها، في الهجوم على المصالح الأمريكية في المنطقة.
كانت استراتيجية طالبان في المفاوضات تعتمد على استمرار العمليات المسلحة ضد أمريكا بالتوازي مع سير المفاوضات، كنوع من الضغط على المفاوض الأمريكي ولمنعه من المماطلة، وعلى الجانب الآخر تريد الإدارة الأمريكية الخروج بأقل الخسائر بعد فقدانها أكثر من 2500 جندي منذ بدء الحرب عام 2001، فضلا عن تجاوز ميزانية الحرب أكثر من ترليون دولار، لكن إصرار البنتاجون على وجود قاعدة عسكرية تحتوي على ثمانية ألاف جندي، دفع حركة طالبان للرد عبر تنفيذ عملية مسلحة ضد أحد مراكز تمركز قوات الناتو، وهو ما تسبب بصدمة لترامب، الذي لم يتوقع ذلك الرد العنيف وأوقف المفاوضات مع طالبان، مما دفع طالبان لإرسال وفد إلى روسيا بغرض إطلاعها على أخر المستجدات، حيث تدعم روسيا والصين وإيران مطالب حركة طالبان بضرورة إخراج القوات الأمريكية في منطقة آسيا الوسطى لما يشكله من تهديد لمصالح تلك الدول، وهو ما يقوي موقفها التفاوضي ويدفع لاعتبارها رأس حربة تقف بالمرصاد لأي تغول أمريكي على مقدرات الشعوب في تلك المنطقة. فهل تنجح طالبان في إنهاء الوجود الأمريكي في أفغانستان بعد 18عاما من القتال أم تعود من جديد لاستئناف القتال؟
(المصدر: مدونات الجزيرة)