بين “الحلاّج” والشوكاني.. ومسلسلات رمضان
بقلم وسام العامري
أوقفت قناة أبو ظبي الفضائية في شهر رمضان الماضي عرض مسلسل “الحلاّج”، بعد أن أعلنت عن نيتها بث مسلسل درامي تاريخي يستعرض سيرة الشيخ الحسين بن منصور الحلاّج (رحمه الله)، الشخصية الجدلية والإشكالية جدا، وأحد رموز التصوف الفلسفي، وبعد ما تسبب به وقتها من ضجة على جميع مواقع التواصل الاجتماعي باختلاف مسمياتها، بين مؤيد بشدة ومعترض بشدة، إلى أن انتهى المطاف بإدارة القناة إلى إيقاف عرض المسلسل، لما تسبب به من جدل لم ينته ولا أظنه ينتهي.
وقد أشار الإمام ابن كثير لهذا بقوله: “لم يزل الناس منذ قتل الحلّاج مختلفين في أمره”! وعدّه بعض الكتاب والمتخصصين الشخصية الأكثر جدلية في التاريخ الإسلامي.
فالرجل حقا من أشد الشخصيات جدلا وإثارة في التاريخ والفكر الإسلامي، فقد تباينت المواقف منه على طرفي نقيض، وارتكزت على منافرة وثنائية حادة، وهي ثنائية الكفر والإيمان. فبين من يعظمه ويبرئه من جميع ما نُسب إليه من عقائد الاتحاد والحلول، وبين من يتهمه ويلعنه ويكفره؛ قَلّ بل ندر أن نجد من وقف منه موقف الوسط والاعتدال والإحسان.
وحتى في قصة موته وقضاء نحبه لم يسلم من الجدل والخلاف عليه! فقد ذكر بعض المؤرخين أنه حوكم محاكمة سريعة وقُتل بسبب بعض آرائه وأقواله العقدية “الكفرية” حسب قولهم، وبعضهم قال إنه قُتل بطريقة بشعة ومأساوية (صلبا وحرقا وهو حي) بتحريض وتأليب مسبق ومكايدة سياسية صرفة في العصر العباسي من بعض خصومه ومناوئيه، وأن تلك الأقوال قد نُسبت إليه ودُسَّت عليه في كتبه كذبا وتصحيفا وزورا، وكل فريق له حجته.
بعض أعلام الحنابلة ذهبوا إلى اتهام الحلّاج بما رُميَ به، كابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وذهب بعض الشافعية مذهب الدفع والذّود عنه وتبرئة ساحته مما نُسب إليه من أقوال وآراء، كالشيرازي والرّملي وابن حجر الهيتمي وشمس الدين الخطيب، حتى وصفه بعضهم بـ”شهيد التوحيد الخالص” تعظيما وثناء عليه.
وكان القاضي محمد بن علي الشوكاني قد وقف منه موقف العدل والحياد والوسط، وهو الذي جاء بعده بـ ثمانية قرون. والشوكاني كان قد بدأ حياته العلمية زيديا ثم حنبليا ثم مجتهدا متحررا من المذهبية في الفقه، وله قول بتكفير الحلّاج قاله في مقتبل عمره، ثم قولٌ آخر قاله في أواخر عمره عَدَل فيه عن القول الأول في الحلّاج وغيره من بعض شيوخ الصوفية وأعلامهم. وللأسف لم يُشتهر هذا القول الأخير عنه، لكنه قول نفيس وثمين وجدير بالنقل وأذكره هنا كما جاء في كتابه “البدر الطّالع بمحاسن من بعد القرن السابع” في أثناء ترجمته لـ”القاسم بن أحمد بن عبد الله”، فقد تطرق إلى ذكر بعض أعلام الصوفيّة الذين قالوا أو نُسِبَت إليهم أقوال قد تبدو في ظاهرها “قادحة” ولا تحتمل التأويل، مثل الحلّاج، وابن عربي، وعمر بن الفارض، وابن سبعين، وغيرهم.
يقول الإمام الشوكاني (رحمه الله) بعد أن ساق كلاما في تكفير القوم نظما ونثرا:
“وقد أوضحتُ في تلك الرسالة حالَ كلّ واحدٍ من هؤلاء، وأوردتُ نصوصا من كتبهم، وبيّنتُ أقوال العلماء في شأنهم، وكان تحرير هذا الجواب في عنفوان الشباب.
وأنا الآن أتوقّف في حال هؤلاء، وأتبرّأ من كل ما كان من أقوالي وأفعالي مخالفا لهذه الشريعة البيضاء الواضحة التي ليلها كنهارها، ولم يتعبّدني الله بتكفير من صار في ظاهر أمره من أهل الإسلام.
وهَب أنّ المراد بما في كُتبهم وما نُقل عنهم من الكلمات المستنكرة؛ المعنى الظاهر، والمدلولَ العربيّ، وأنّه قاضٍ على قائله بالكفر البواح، والضّلال الصُّراح، فمن أين لنا أن قائله لم يتب عنه؟
ونحن لو كنّا في عصره، بل في مصره، بل في منزله الذي يعالج فيه سكرات الموت؛ لم يكن لنا إلى القطع بعدم التوبة سبيل! لأنها تقع من العبد بمجرّد عقد القلب ما لم يغرغر بالموت! فكيف وبيننا وبينهم من السنين عدة مئين؟!
ولا يصح الاعتراض على هذا بالكفّار، فيقال: هذا التجويز ممكنٌ في الكفّار على اختلاف أنواعهم! لأنّا نقول: فرقٌ بين من أصله الإسلام ومن أصله الكفر، فإنّ الحملَ على الأصل مع اللَّبْسِ هو الواجب، لا سيما والخروج من الكفر إلى الإسلام لا يكون إلا بأقوالٍ وأفعالٍ، لا بمجرّد عقد القلب والتوجّه بالنّيّة المشتملَيْن على الحزم والعزم على عدم المعاودة، فإنّ ذلك يكفي في التوبة، ولا يكفي في مصير الكافر مسلما.
وفي هذه الإشارة كفايةٌ لمن له هداية، وفي ذنوبنا التي قد أثقلت ظهورَنا لقلوبنا أعظم شُغْلة، وطوبى لمن شغلته عيوبُه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
فالراحلةُ التي قد حملت ما لا تكاد تنوء به، إذا وُضع عليها زيادةٌ عليه، انقطعَ ظهرها وقعدت على الطريق قبل بلوغ المنزل.
وبلا شكّ، أنّ التوثّب على ثلب أعراض المشكوك في إسلامهم فضلا عن المقطوع بإسلامهم، جراءةٌ غير محمودة.
فربّما كذب الظنّ، وبَطَلَ الحديث، وتقشّعت سحائبُ الشكوك، وتجلّت ظلمات الظّنون، وطاحت الدقائق، وحقّت الحقائق.
وإنّ يوما يفرّ المرء من أبيه، ويشحّ بما معه من الحسنات على أحبابه وذويه، لحقيقٌ بأن يُحافَظ فيه على الحسنات.
ولا يدعها يوم القيامة نَهْبا بين قومٍ قد صاروا تحت أطباق الثرى قبل أن يخرج إلى هذا العالم بدهور، وهو غير محمود على ذلك ولا مأجور! فهذا ما لا يفعله بنفسه العاقل.
وأشدّ من ذلك، أن ينثر جِراب طاعاته، ويَنْثِلَ كِنانة حسناته على أعدائه! غير مشكورٍ بل مقهور!
وهكذا يُفعل عند الحضور للحساب بين يدي الجبّار، بالمُغْتابين والنّمّامين والهمّازين واللَّمّازين.
فإنّه قد عُلم بالضرورة الدّينيّة، أنّ مظلمة العرض كمظلمة المال والدم، ومجرّد التفاوت في مقدار المظلمة، لا يوجب عدم إنصاف ذلك الشيء المتفاوَت أو بعضه بكونه مظلمة.
وكلّ واحدةٍ من هذه الثلاث مظْلمةٌ لآدميّ، وكلُّ مظلمةْ لآدميٍّ لا تسقط إلا بعفوه، وما لم يُعفَ عنه باقٍ على فاعله يوافي عرصات القيامة.
فقل لي! كيف يرجو من ظلم ميْتا بثلب عرضه أن يعفو عنه؟
ومن ذاك الذي يعفو في هذا الموقف وهو أحوج ما كان إلى ما يقيه من النّار؟!
وإذا التبس عليك هذا، فانظر ما تجده من الطباع البشرية في هذه الدّار، فإنّه لو أُلقيَ الواحد من هذا النّوع الإنسانيّ إلى نارٍ من نِيران هذه الدنيا؛ وأمكنه أن يتقيها بأبيه، أو بأمه، أو بابنه، أو بحبيبه، لفعل! فكيف بنار الآخرة التي ليست نار هذه الدنيا إليها شيئا؟!
ومن هذه الحيثية قال بعضُ من نظر بعين الحقيقة: لو كنتُ مغتابا أحدا لاغتبت أبي وأمّي، لأنهما أحقّ بحسناتي التي تؤخذ منّي قسرا!
وما أحسن هذا الكلام!
ولا ريب أنّ أشدّ أنواع الغيبة، وأضرّها وأشرّها وأكثرها بلاء وعقابا، ما بلغ منها إلى حدّ التكفير واللَّعْن، فإنّه قد صحّ أنّ تكفير المؤمن كفرٌ، ولَعْنُهُ راجعٌ على فاعله، وسِبابه فسق، وهذه عقوبة من جهة الله سبحانه.
وأمّا من وقع له التكفير واللَّعْنُ والسَّبّ، فمظلمته باقيةٌ على ظهر المكفِّر واللَّاعن والسّبّاب، فانظر كيف صار المكفِّرُ كافرا، واللَّاعنُ ملعونا، والسَّبَّابُ فاسقا.
ولم يكن ذلك حدَّ عقوبته، بل غريمُه ينتظره بعرصات المحشر ليأخذ من حسناته، أو يضع عليه من سيّئاته، بمقدار تلك المظلمة.
ومع ذلك، فلا بدّ من شيءٍ غير ذلك؛ وهو العقوبة على مخالفة النّهي، لأنّ الله قد نهى في كتابه وعلى لسان رسوله عن الغيبة بجميع أقسامها.
ومخالفُ النّهي فاعلُ محرَّم.
وفاعلُ المحرّم مُعاقَبٌ عليه.
وهذا عارضٌ من القول جرى به القلم، ثمّ أُحجمُ عن الكلام، سائلا من الله حُسن الختام”.
(انتهى كلام الشوكاني رحمه الله).
ومدار القول هنا على علتين، ألا وهما:
أولا: ضرورة التورع والتوقف والتحرز من التكفير إجمالا، وعدم الخوض فيه واستسهاله.
ثانيا: مجانبة المظالم مطلقا، وعدم التهاون فيها قيد أنملة، ومحاسبة النفس وبذل الجهد والوسع في ذلك إحقاقا للحق والعدل الذي قامت عليه السموات والأرض، ثم تأكيد أيضا مبدأ متمم للعدالة ومكمل له، هو المتمثل في ضرورة إحسان الظن بأهل الإسلام قاطبة.
وفي هذا الموضع تنبيه وتحذير وإشارة جليّة واضحة لكل متبصر عاقل موفق، إلى التحرز والتورع والتحوط صيانة للدين والنفس والعرض واللسان، وعدم التهور والتفلت والعجلة والتسرع باتهام المخالف أو قذفه ورميه بالبدعة أو الزندقة أو الشرك أو الكفر أو لعنه والعياذ بالله، وقد قال بعضهم: “تكفير الأنام مزالق الأقدام”، نسأل الله العافية والسلامة.
فإذا كان هذا الكلام النفيس قد قاله الشوكاني بحق “الحلّاج” وقد رماه البعض بتبني عقائد أهل الكفر والإلحاد كالحلول والاتحاد، فبحق غيره من سائر علماء وعامة المسلمين يكون التورع ألزم، والله أعلم وأحكم.
(المصدر: عربي21)