بقلم أحمد عباس الملجمي – مدونات الجزيرة
إن حشر الدين في زوايا الجماعات الضيقة يقلل من سعة المفاهيم الدينية وحصر البحث في مقاصدها، بل ربما قد يفهم العالم الخارجي تلك المفاهيم الإسلامية حسب النظرة التي تروج لها تلك الجماعات، وهي نظرة قاصرة متقزمة، فالعالم الخارجي غير معني بالبحث عن معناها الصحيح، بل من مصلحته أن تظل تلك المفاهيم محصورة الفهم وفق ما تحتويه أدبيات تلك التنظيمات، وفي الحقيقة أن شل بعض المفاهيم الإسلامية وبترها وفق أهواء جماعاتية تسعى نحو التحول السياسي بنفس الكيفية السابقة، هو في الأساس إزاحة الإسلام كمنظومة متكاملة لإدارة الحياة بشتى جوانبها، مما يجعله عبء كبير لا يُطاق حمله، قد يصل بالمجتمعات الى أفق مسدودة من شأنه إفراز حالات تشدد تنتهج العنف والتطرف، وحين تتفشى تلك الحالة في المجتمع تصبح آفة يصعب اجتثاثها تنهش في الناس كالذي يضرم النار في الهشيم.
إن خلط ما هو ديني ثابت بما هو سياسي متغير في قنينة واحدة يعد مؤشر زوال لتلك الجماعات، مما يعكس قناعة للآخرين مفادُها أنه لا يوجد شيء اسمه إسلامي سياسي، والسبب في ذلك يعود إلى العجز والفشل الذريع الذي لحق بتلك الجماعات في هذا المضمار الذي لم تعرف دهاليزه بعد.
ربما حققت بعض الجماعات التي تحولت إلى أحزاب سياسية نجاحا طفيفا يكاد يكون هشا، وسعت إلى توزيع المهام وفرزها بين ما هو ديني وما هو سياسي، إلا أن الهزائم التي تلحق بتلك الأحزاب سرعان ما تشدها إلى الماضي، فبدلا من أن تقويها وتعزز بقاءها، يشدها الحنين إلى الماضي، الذي تُمني النّفس على أن الخلاص فيه.
أولاً: أن ذلك البقاء من شأنه كسب الصفوف وتوسيع القاعدة المؤيدة للجماعة، والفئة المستهدفة في هذه الحالة هم عوام النّّاس الذين يتأثرون بالأقاويل لمجرد أنها جاءت من مصدر ديني، حتى إن المشاكل السياسية والمجتمعية والنقد التي تتعرض له تلك الجماعات ما تفتأ أن تحولها إلى قضية تمس الدين والعقيدة والملة لتُجيش لها الصفوف والأنصار.
ثانياً: بغض تلك الجماعات للنّقد الموجه لها من الأسفل بل ربما لا تؤمن به، فهي تكتفي بالنصيحة الساذجة التي لا تسعى لتقويم المعوج عن خطئه، ولا لتُصحح المسار إن هي مالت عنه، حيث يقف الموروث الديني والتاريخي حارساً أمينا لذلك الباب.
ثالثاً: أن النظر فيما تستند إليه تلك الجماعات من إرث ديني وتاريخي تنظر إليه الجماعة كمقوض لبقائها، فهي لا تستطيع أن تتخلى عنه، بل تعجز عن صياغة أدبيات جديدة تتلاءم مع الواقع الذي تعيشه، ناهيك أنها تعاني من عجز تنظيري في هذا الجانب.
رابعاً: الهياكل التنظيمية المغلقة لتلك الجماعات التي تأخذ الشكل التنظيمي من الأعلى إلى الأسفل، في حين تصبح التغذية العكسية من القواعد مجرد نصيحة على ورق لا تؤخذ بعين الاعتبار، بل ربما تفقد تلك النصيحة حماستها أثناء صعودها القنوات التنظمية الطويلة.
خامسا: إفلاس تلك الجماعات للتفكير بطريقة فلسفية تنطلق من مبدأ النقد تتسم ببعد النظر والواقعية، والتي من خلالها يمكن للهياكل التنظيمية نقد نفسها بنفسها، بعيدا عن التواكل والمظلومية والمرجعية العليا، فالمعضلة التي أصابت الجماعات في هذا الجانب أن القواعد باتت عبئا على رأس الهرم لسبب أن الإدارة باتت مركزية، والعكس صحيح رأس التنظيم بات عبئا على القاعدة لسبب أنه أغفل القاعدة عن التفكير والتحرك بتلقائية ومرونة.
سادساً: عمل تلك الجماعات بمبدأ الورع والأقدمية لشغر المناصب في هياكلها التنظيمية، مما أبعد الدماء الشابة والكفاءات المتخصصة من صفوف التنظيم.
سابعاً: عدم دراسة تلك الجماعات للتجارب الناجحة بشكل جاد، تلك التي تعمل ببنية مزجت بين المفاهيم الصحيحة للعلمانية، والمفاهيم الواسعة للإسلام، ناهيك أن تلك الجماعات ترى أن هذا الباب باب شرور لا تحمد عقباه.
يبدو أن الأحداث التي جرت وخصوصا في السنوات العشر الاخيرة ، لم تفرز لنا بعد أي جماعة إسلامية راشدة ووعاية بآليات التحول نحو العمل السياسي بأدواته الحديثة، فكل ما رأيناه حتى الآن هو تشغيل إدارة المخاطر وتلقي الصدمات الواحدة تلو الأخرى، مما أغفل التفكير والتطوير.