بين التوبة من الضلال والتوبة من الإضلال
بقلم د. عصام الشعار
تكمن خطورة المعصية في أن شؤمها لا يعود على العاصي فحسب، لكن تمتد نيرانها لتحرق كل من حوله؛ الإنسان والحيوان والشجر والحجر، ويؤكد هذا المعنى أبو هريرة رضي الله عنه عندما سمع رجلاً يقول: “إن الظالم لا يظلم إلا نفسه”، فقال له أبو هريرة رضي الله عنه: “كذبت، والذي نفسي بيده إن الحبارى –نوع من الطيور- لتموت في وكرها من ظلم الظالم”.
وقال مجاهد رحمه الله: “إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنةُ (القحط) وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم”، وقال عكرمة رحمه الله: “دواب الأرض وهوامها، حتى الخنافس، والعقارب يقولون: مُنِعْنَا القطرَ بذنوب بني آدم”.
الحديث عن التوبة وشروطها أمر يكاد يعرفه القاصي والداني؛ فما الجديد الذي قد يأتي به كاتب هذه السطور؟! هذا ما قد يتبادر لأول وهلة إلى ذهن القارئ الكريم.
ليس هناك أخطر من الاستخفاف بالعقول وتغييب الوعي وتضليل العباد فهو من أعظم صور البغي والإفساد
وأقول: فضلاً عن التذكير بتجديد العهد مع الله تعالى، وتطهير النفس من أدران الذنوب والآثام، فهناك أمر وجب لفت الأنظار إليه، يغفل عنه الكثيرون عند حديثهم عن التوبة وشروطها، وهو ما يتعلق بتوبة العالم الذي ضلل الناس بآرائه وفتاواه، فألبس الباطل ثوب الحق، والضلال ثوب الهدى، ويلحق به كل صاحب قلم أو فكر أو رأي ممن يتلقف الناس آراءهم وكلماتهم؛ فكيف تكون التوبة من هذا الجرم العظيم؟
فليس هناك أخطر من الاستخفاف والعبث بالعقول، وتغييب الوعي، وتضليل العباد، الذي هو من أعظم صور البغي والإفساد في الأرض.
أخطر الجرائم
نحن بصدد الحديث عن جريمة من أخطر الجرائم؛ فالمجرم فيها ليس كأي مجرم، لكنه مجرم خاف منه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته؛ ففي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: “إن أخوف ما أخاف على أمتي كلُ منافقٍ عليم اللسان”(1)، فعليم اللسان هنا يندرج تحتها كل من له حضور وتأثير ويصغي الناس إليه، فيستغل ثقة الناس فيه فيُضَلِّلهم ويفتنهم؛ فما شروط التوبة من جريمة تضليل الرأي العام؟!
لا بد لقبول توبة العلماء المضللين ودعاة الفتنة من شرط زائد على شروط التوبة وهو التبيين للناس
وللإجابة عن هذا السؤال يجب أن نتدبر قوله الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ {159} إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة).
فقد استوقفني في هاتين الآيتين الكريمتين ما تضمنتاه من شروط قبول التوبة، فكل آي القرآن التي تتحدث عن التوبة، عادة تُتْبِع التوبة بالعمل الصالح فحسب، دون أن تطلب من التائب أن يُفصِحَ للناس عن جرمه وقبيح فعله، وهذا أمر واضح ومعلوم، بل التائب -مهما كانت معصيته، صغيرة كانت أو كبيرة- مأمور ألا يكشف ستر الله عنه، فيشترط لقبول توبته:
1- الإقلاع عن الذنب.
2- الندم على ما فات.
3- العزم على عدم العودة إليه.
4- إذا كانت الجريمة تتعلق بحقوق العباد في مال أو عرض فيجب التحلل من صاحب الحق أو إعطاؤه حقه.
5- أن تكون التوبة قبل أن يصل العبد إلى حال الغرغرة عند الموت، فالتوبة في هذه الحالة لن يقبلها الله تعالى.
فهذه هي شروط قبول التوبة فحسب التي حددها العلماء.
أما أن يُعلن التائب عن معصيته، ويُفصِح عن جُرمه وذنبه على رؤوس الأشهاد فلم يأت لذلك ذكر في كتاب الله إلا في هذا الموضع الذي نحن بصدده؛ ذلك لأن الجريمة هنا ليست جريمة اعتيادية، والمجرم ليس مجرماً عادياً!
مجرم استثنائي
الجريمة هنا هي جريمة تضليل العقول، وتغييب الوعي، وتجهيل المجتمع، والمجرم ليس مثل كل العصاة أو المجرمين، بل هو مجرم استثنائي، له حضور يتسلل به إلى النفوس والعقول دون حاجة إلى بذل جهد أو عناء؛ فيُلَبِّسُ على العباد ويخدعهم، وحين تزيَّا بزي العلماء صدّق الناسُ ما يقول، بل إن كذبه وخداعه ونفاقه وتضليله حسبه بعض الناس ديناً، يُتقرب به إلى الله عز وجل.
ولا يخفى على ذوي البصائر والعقول عظم هذه الجريمة النكراء الشنعاء، وما تفضي إليه من الإفساد في الأرض وتحريف الدين، لذلك كان لا بد لقبول توبة هؤلاء العلماء المضللين ودعاة الفتنة والضلال من شرط زائد على شروط التوبة المعهودة؛ كي يُمحَى أثر جريمتهم ويقبل الله توبتهم.
وهذا الشرط هو وجوب الإفصاح عن جريمتهم وبيان ما اقترفوه من الكذب لتضليل العباد؛ فلا يكفي اعترافهم بالذنب بين يدي خالقهم وهم في خلواتهم، بل يجب بيان خديعتهم وتضليلهم للعباد، وأن يكون هذا البيان على رؤوس الأشهاد، بحيث ينتشر أمر رجوعهم وتوبتهم، كما انتشر كذبهم وتضليلهم؛ لأن التائب مأمور أن يُصلح ما أفسده متى أمكن ذلك، ولما كانت الجريمة هنا هي كتمان الحق، وتضليل الخلق، فكان لزاماً لقبول التوبة من تبيين الحق الذي كتموه، والاعتراف بالكذب الذي دلّسوه، وهذا من رحمة الله بهم؛ فقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل من أمثال هؤلاء، ولكن هذا الشرط الزائد على شروط التوبة لقبول توبة من ضللوا العباد باسم الدين هو من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة محمد صلوات الله وسلامه عليه.
فالآية إذن فرقت بين التوبة من الضلال والتوبة من الإضلال.
لم تكن التوبة تُقبل من أمثال هؤلاء بالأمم السابقة لكنها فُتحت أمامهم في شريعة نبي الرحمة فقط
فالواجب على العالِم الذي باع دينه بدنيا غيره إذا أراد أن يتوب ويرجع إلى الله تعالى –وباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها- أن يستوفي شروط التوبة التي أشرنا إليها، وأن يكون حاله بعد التوبة أفضل مما قبلها، وهذا ما يرشدنا إليه قوله سبحانه “وأصلحوا”، وأن يبين للناس الحق الذي كتمه، والباطل الذي زيّنه للناس ودلّسه، وهذا ما دل عليه قوله سبحانه: “وبينوا”.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء –أي الذين يكتمون الحق- من تاب إليه، فقال: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ)؛ أي رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه؛ (فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر، أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه..”(2).
وقال صاحب الظلال رحمه الله: “لقد كان أهل الكتاب يعرفون مما بين أيديهم من الكتاب مدى ما في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من حق، ومدى ما في الأوامر التي يبلغها من صدق، ومع هذا يكتمون هذا الذي بيّنه الله لهم في الكتاب؛ فهم وأمثالهم في أي زمان ممن يكتمون الحق الذي أنزله الله، لسبب من أسباب الكتمان الكثيرة، ممن يراهم الناس في شتى الأزمنة وشتى الأمكنة، يسكتون عن الحق وهم يعرفونه، ويكتمون الأقوال التي تقرره وهم على يقين منها، ويجتنبون آيات في كتاب الله لا يبرزونها بل يسكتون عنها ويخفونها؛ لِيُنَحُّوا الحقيقةَ التي تحملها هذه الآيات ويخفوها بعيداً عن سمع الناس وحسهم، لغرض من أغراض هذه الدنيا، الأمر الذي نشهده في مواقف كثيرة، وبصدد حقائق من حقائق هذا الدين كثيرة؛ (أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).
كأنما تحولوا إلى ملعنة، ينصب عليها اللعن من كل مصدر، ويتوجه إليها -بعد الله- من كل لاعن!”(3).
ثم يضيف رحمه الله تعالى قائلاً: “اللعن: الطرد في غضب وزجر، وأولئك الخلق يلعنهم الله فيطردهم من رحمته، ويطاردهم اللاعنون من كل صوب؛ فهم هكذا مطاردون من الله ومن عباده في كل مكان.
(إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)؛ هؤلاء يفتح القرآن لهم هذه النافذة المضيئة -نافذة التوبة- يفتحها فتنسم نسمة الأمل في الصدور، وتقود القلوب إلى مصدر النور، فلا تيأس من رحمة الله، ولا تقنط من عفوه، فمن شاء فليرجع إلى الحمى الآمن، صادق النية، وآية صدق التوبة الإصلاح في العمل، والتبيين في القول، وإعلان الحق والاعتراف به والعمل بمقتضاه، ثم ليثق برحمة الله وقبوله للتوبة، وهو يقول: (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وهو أصدق القائلين”(4).
________________________________________________________
(1) رواه أحمد في “المسند” (1/22)، وحسَّنه محققو المسند، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة.
(2) تفسير ابن كثير 1/343.
(3) في ظلال القرآن 1/151.
(4) المرجع السابق.
(المصدر: مجلة المجتمع)