مقالاتمقالات مختارة

بين ابن تيمية والحكيم الترمذي

بقلم شريف محمد جابر

الصورة الشائعة عن ابن تيمية (ت 728 هـ) في المخيال المعاصر هي صورة رجل دين متشدّد، له فتاوى قاسية، ظاهري في فهم الدين. والصورة المتخيّلة عن أعلام التصوّف أنّهم أكثر انفتاحًا من الفقهاء عمومًا، ومن الحنابلة على وجه الخصوص. وفي هذا السياق يتم التركيز على شخصية محيي الدين ابن عربي (ت 638 هـ)، باعتباره رمزًا للتصوّف المنفتح الذي يقبل جميع العقائد، فهو القائل:

لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورة ٍ.. فمَرْعًى لغزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ

وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبة ُطائفٍ .. وألواحُ توراة ٍومصحفُ قرآنِ

أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ ..  رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني

وممّا عُرف عن ابن عربي أنّه كان متأثّرا جدّا بأحد متقدّمي الصوفية (إنْ جاز وصفه بالصوفي) وهو أبو عبد الله محمّد بن علي الترمذي، الملقّب بالحكيم الترمذي، والذي ولد في أوائل القرن الثالث الهجري وتوفي في أواخره (توفي نحو عام 295 هـ). وقد كتب ابن عربي رسالة سماها “القسطاس المستقيم فيما سأل عنه الترمذي الحكيم”، وهي الأسئلة التي لا يجيب عنها إلا الأولياء، كأنه أراد أن يقول للناس: أنا هو ذلك الوليّ! ومن يقرأ “الفتوحات المكّية” لابن عربي، وخصوصا نصفه الثاني، سيجد ابن عربي يجلّ الحكيم الترمذي ويعظّمه أيّما تعظيم.

وبناء على هذه المعطيات السطحية تشكّلت صورة ما حول الحكيم الترمذي؛ باعتباره أحد أقطاب الصوفية، وأنّه أقرب إليهم من غيرهم. ولقد انطلتْ هذه الصورة السطحية على كثير من المعاصرين، وساعد في ذلك أنّ بعض العلماء قديمًا إلى جانب البحث المعاصر (ومنه الاستشراقي) قد ركّزوا على الحكيم الترمذي باعتباره مؤسس نظرية “ختم الأولياء”، لكونها نظرية “مثيرة”، والأشياء المثيرة تكون دائما ذات ضجّة كبيرة، قديمًا وحديثا. وهكذا تم – مع الأسف – اختزال الحكيم الترمذي في نظرية لن تجد صداها إلا في رسالته الصغيرة تلك المسمّاة “ختم الأولياء” أو “سيرة الأولياء”، مع العلم بأنّه أحد أكثر علماء القرن الثالث إنتاجًا، وكتب في مجالات عديدة: كالحديث والفقه والعقائد والتزكية والتفسير وفلسفة التشريع وغير ذلك من المجالات.

فهل كان الحكيم الترمذي حقّا أقرب لمتأخري المتصوّفة كابن عربي وأمثاله وبعيدًا عن ابن تيمية وأمثاله؟ ما تحاول هذه التدوينة إثباته هو قلب هذه الصورة النمطية، استنادا إلى معطيات كثيرة جدا شكّلت صورة مختلفة، هذه الصورة تبيّن بوضوح أنّ الحكيم الترمذي كان أقرب لطرح ابن تيمية من طرح ابن عربي الحاتمي، بل إنّ المقارنة قد تدفع إلى الاستنتاج بأنّ ابن تيمية قد تأثّر بالحكيم الترمذي في كتاباته.

شريعة الإسلام وشرائع الرسل السابقين
عُرف عن شيخ الإسلام ابن تيمية تكراره في كتبه لهذا التقسيم بين أمر الله الشرعي وأمره الكوني القدري، أو ما يسمّيه أحيانا “الإرادة الشرعية” و”الإرادة الكونية”

لعلّنا نبدأ من أبيات ابن عربي التي ذكرناها، والتي آخذه عليها العلماء، فهي تخترع دينًا جديدًا لا معالم له، بحيث يمكن أن تكون فيه وثنيّا أو مسلما أو من أهل الديانات السابقة، ولا نريد التفصيل في فلسفة ابن عربي حول وحدة الوجود وعلاقتها بالفكرة التي يطرحها في هذه الأبيات، ولكنّنا نود أن نقارن ذلك بما ذكره الحكيم الترمذي بخصوص اتباع شريعة الإسلام، ثم ما ذكره ابن تيمية.

يقول الحكيم الترمذي في أهمّ كتبه “نوادر الأصول في معرفة أخبار الرسول”: “وإنّ الله تبارك وتعالى دعا العباد إلى دار السلام بعد أن دعاهم إلى الإقرار بتوحيده، فأجابوه، وإنما أجابه من هداه. ثمّ شرع لكل رسول طريقًا إليها، وهو الحلال والحرام، فالحلال مرضاتُه والحرام مساخطه، فإذا استقام العبد في سيره في شريعته أدخله الجنّة. فقوله: “لا يأتيني عبدٌ لا يُشرك بي شيئا بواحدة من هذه الشرائع”، أي: شريعة زمانه ورسوله، فلو أتى رجلٌ بشريعة هود في زمن موسى عليه السلام؛ لم ينتفع بها، ولو أتى بشريعة موسى في زمن عيسى؛ لم ينتفع بها، ولو أتى بشريعة عيسى في زمن محمّد صلى الله عليه وسلّم؛ لم ينتفع بها ولم تُقبل منه، وإنما يُقبل من كل عبدٍ شريعته التي شُرعتْ له على لسان رسوله صلى الله عليه وسلّم”.

قارن هذا بقول ابن تيمية في “مجموع الفتاوى”: “بل قد ثبت بالأحاديث الصحيحة أنّ المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء فإنه يكون متّبعا لشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان صلى الله عليه وسلم يجب اتباعه ونصره على من يدركه من الأنبياء، فكيف بمن دونهم؟ بل مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى، فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة رسول فكيف بالخروج عنه والرسل؟”. وقال في كتاب “قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق”: “وهذا هو دين الإسلام الذي لايقبل الله دينًا غيره، لا من الأولين ولا الآخرين، وهو أن يعبد الله في كل وقتٍ بما أمر به في ذلك الوقت، فهو المعبود وحده دائمًا”. فأين هذا المعتقد من كلام ابن عربي؟!

الأمر الكوني والأمر الشرعي

مما عُرف عن شيخ الإسلام ابن تيمية تكراره في كتبه لهذا التقسيم بين أمر الله الشرعي وأمره الكوني القدري، أو ما يسمّيه أحيانا “الإرادة الشرعية” و”الإرادة الكونية”. يقول ابن تيمية في كتابه “الفرقان”: “فالإرادة الكونية هي مشيئته لما خلقه، وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وإرادته الكونية، والإرادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه المتناولة لما أمر به وجعله شرعًا ودينًا”. ويقول قبل ذلك في نفس الكتاب في نصّ مهم: “وسنذكر الفرق بين الإرادة الكونية والدينية، والأمر الكوني والديني، وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية، فبيّنها الجنيد رحمه الله لهم، فمن اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضلّ؛ لأنهم تكلموا بأنّ الأمور كلها بمشيئة الله وقدرته وفي شهود هذا التوحيد، وهذا يسمونه الجمع الأول، فبين لهم الجنيد أنه لا بد من شهود الفرق الثاني، وهو أنه مع شهود كون الأشياء كلها مشتركة في مشيئة الله وقدرته وخلقه، يجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه، وبين ما ينهى عنه ويكره ويسخطه، ويفرّق بين أوليائه وأعدائه”.

مما يُخالَف فيه ابن تيمية من قبل خصومه أنّه ذكر في كتبه أنّ المشركين من العرب كانوا مقرّين بتوحيد الربوبية

وحين نقرأ الحكيم الترمذي نجده يفرّق بوضوح بين الأمرين في أكثر من موضع، منها ما ذكره في رسالة “مسألة في الإيمان والإسلام والإحسان”: “ووضع بين يدي العبودية نوعين: أمرٌ يحكم به عليه ربُّه، وأمرٌ يأمره به ربّه. فأمّا الذي يحكم به عليه فالأحوال من الفقر والغنى والعزّ والذلّ والصحّة والمرض وكل محبوب ومكروه، فاقتضاه الوفاء بذلك أن يطمئنّ قلبه ونفسه إلى ما حكم به عليه، كما اطمأنّ إليه ربّا. وأمّا الذي يأمره به فالفرائض وترك المحارم، فاقتضاه الوفاء بذلك أن يسلم في كلّ أمر أمَرَه ونهيٍ نهاه نفسًا فيأتمرَ بأمره وينتهي عن محارمه”.

توحيد الربوبية عند المشركين

مما يُخالَف فيه ابن تيمية من قبل خصومه أنّه ذكر في كتبه أنّ المشركين من العرب كانوا مقرّين بتوحيد الربوبية. يقول ابن تيمية في “درء تعارض العقل والنقل”: “فمجرد توحيد الربوبية قد كان المشركون يقرّون به، وذلك وحده لا ينفع. وهؤلاء الذين يريدون تقرير الربوبية من أهل الكلام والفلسفة، يظنون أن هذا هو غاية التوحيد، كما يظن ذلك من يظنه من الصوفية، الذين يظنون أنّ الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية. وهذا من أعظم ما وقع فيه هؤلاء وهؤلاء من الجهل بالتوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب. فإنّ هذا التوحيد -الذي هو عندهم الغاية- قد كان مشركو العرب يقرّون به، كما أخبر الله عنهم”.

وحين طالعنا كتب الحكيم الترمذي وجدنا هذا المعنى متكررا فيها، انظر إليه يقول في رسالة “مسألة في الإيمان والإسلام والإحسان” في سياق حديثه عن العمل الذي في الصدر: “فبذلك العلم علِمَ الآدميّون كلّهم أنّ لهم ربّا وإلها فأقرّوا به وفزعوا إليه في المضار والمنافع، وعرفوه بقلوبهم، والقلب أمير على الجوارح، والمعرفة فيه، وتلك معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها فعرفوا أنّ الله تعالى خالقهم ورازقهم ومدبّر أمورهم، وذلك قوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}. فإنّما قالوها عن معرفة الفطرة ثمّ أشركوا من أجل أنّ نفوسهم اشتهتْ أن تعبد من تراه وتدركه، ودعاهم الهوى إلى ذلك”. ويقول في رسالة أخرى بعنوان “مسألة في الإنسان”: “فالخلقُ كلّهم أقرّوا بأنّه الله لفطرة الله التي فطر الناس عليها، ثم أشركوا به غيره في ملكه، فقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ}، أقرّوا له بالربوبية ثمّ غفلوا عنه ونسوا”.

من يقرأ شيخ الإسلام ابن تيمية يلاحظ تركيزه الكبير على توحيد العبادة، وعلى كونه “أصل الدين”، بهذا اللفظ تحديدًا

تعريف الإيمان

وحين طالعنا تعريف الإيمان عند ابن تيمية وجدناه مشابها لما عند الحكيم الترمذي. يقول ابن تيمية في “الصارم المسلول”: “الإيمان وإنْ كان يتضمن التصديق فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار والطمأنينة، وذلك لأنّ التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمرٌ، وكلام الله خبرٌ وأمرٌ؛ فالخبر يستوجب تصديق المخبر، والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام، وهو عملٌ في القلب جِماعُه الخضوع والانقياد للأمر وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل الخبر بالتصديق والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة والإقرار، فإنّ اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد”.

ويفصّل الحكيم الترمذي في “مسألة في الإيمان والإسلام والإحسان” حول أصل كلمة الإيمان ومعناه فيقول: “فاستقرّت القلوب منهم على الله وحده واطمأنت إليه، فبذلك الاستقرار لزمه اسم الإيمان؛ لأنّ الإيمان استقرار القلب وطمأنينة النفس. والقلبُ كان طالبا لربّه متردّدا لا يستقرّ، والنفس متحيّرة لا تسكن، فلمّا جاءه نور الهداية استقرّ القلب واطمأنّت النفس، فقيل آمنَ على قالب أفعل، يؤمن إيمانًا، فالإيمان اسمُ فعله ومصدر فعله، وإذا كان القلبُ والنفسُ مضطربٌ متردّد من خوف حلّ به، فذهب الخوف قيل أمِنَ على قالب فَعِلَ، واشتقاق أحدهما من الآخر، لأنّه إنما يراد بهذه اللفظة استقرار القلب وطمأنينة النفس، هذا مترددٌ قلبه واضطربت نفسه، فلما ذهب الخوف قيل أمِنَ على قالبِ فعِلَ يأمنُ أمنًا، والاسم منه الأمن، وذلك طلبه معبوده، فتردّد في طلبه مرة إلى الوثن ومرة إلى الشمس والقمر ومرّة إلى النيران، وهو في ذلك متحيّر، فلمّا وجد هذا النور من منّة الله عليه سكن عن التردّد والجولان، فقيل آمنَ يؤمنُ إيمانًا، والاسم منه إيمان”.

أصل الدين وتوحيد العبادة

من يقرأ شيخ الإسلام ابن تيمية يلاحظ تركيزه الكبير على توحيد العبادة، وعلى كونه “أصل الدين”، بهذا اللفظ تحديدًا. يقول في “مجموع الفتاوى” بعد قوله تعالى: “{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، أمرَ مع القسط بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا أصل الدين، وضدّه هو الذنب الذي لا يُغفر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ}. وهو الدين الذي أمر الله به جميع الرسل وأرسلهم به إلى جميع الأمم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}”.

وبنفس هذه الروح نجد الحكيم الترمذي يقول في رسالة “في تفسير قول لا إله إلا الله”، بعد أن يشرح معنى كلمة التوحيد وما تستلزمه: “فهذه العُبودة، ولهذا خلَق الخلق، وبهذا بُعثتْ الرسل، وإلى هذا دعتِ الرسل، فقال في تنزيله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، أي: لتكونوا لي عبيدا كما خلقتكم عبيدًا، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، أي: اعبدونِ بهذه الكلمة اعتقادًا بالقلب واعترافا باللسان ووفاءً بالجوارح، فهذا أصل الدين الذي لم يُؤذن لمخلوق أن يتفرّق فيه، فإنّ التفرّق فيه شرك، والاجتماع على هذا إخلاص، على هذا كان آدم صلوات الله عليه وسلّم فمن دونه إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم”.

أوجه شبه أخرى وكلام ابن تيمية والذهبي في الحكيم
ممّا يُذكر عن الحكيم أنّه كان مختلفًا عن الصوفية في قضية لا نكاد نعرف قضية اجتمعوا عليها مثلها، وهي وجوب اتباع شيخ

ومن يطّلع على الإنتاج العلمي للحكيم الترمذي يلاحظ شبهًا كبيرا بالإنتاج العلمي لابن تيمية، مع الفارق الكبير بين العصرين وبين معارف الرجلين، لكن المشترك أنّ كل واحد منهما كان إماما مجدّدا في قرنه، له تلاميذ يسألونه من الأمصار، فقبل أن يكتب ابن تيمية “التدمرية” و”الصفدية” و”الحموية”، كتب الحكيم إجابات لمسائل كثيرة حفظها التاريخ، من أبرزها “جواب كتاب من الريّ” و”المسائل التي سأله عنها أهل سرخس” وغيرها.

وكما تميّز ابن تيمية بالردّ على الفرق الضالّة، كان الحكيم الترمذي مساهمًا في هذا النوع من الكتابة، حتى قال عنه الإمام الحافظ أبو نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) في “حلية الأولياء”: “له التصانيف المشهورة، كتبَ الحديث، مستقيم الطريقة، يردّ على المرجئة وغيرها من المخالفين، تابعٌ للآثار”. وقد كتب الحكيم الترمذي كتاب “الردّ على الرافضة” الذي حفظ لنا التاريخ جزءًا صغيرا منه، وكتب “الردّ على المعطّلة”، وهو على طريقة أهل الحديث المتقدّمين، إذ اقتصر فيه على رواية الأحاديث التي فيها إثبات الصفات التي يعطّلها أهل التعطيل. وكثيرا ما نجده يردّ في ثنايا كتبه على مقولات الخوارج والروافض والمعطلة والجهمية وغيرهم.

ويبدو أنّ شيخ الإسلام ابن تيمة كان على اطّلاع جيّد على كتب الحكيم الترمذي وأفاد منها، فهو وإنْ كان يجد كلامه في خاتم الأولياء “من غلطاته” كما قال، نجده يجلّه ويعرف قدره، فيقول في “مجموع الفتاوى” عن بعض غلاة الصوفية: “ومن الأنواع التي في دعواهم أنّ خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من بعض الوجوه، فإنّ هذا لم يقلْه أبو عبد الله الحكيم الترمذي ولا غيره من المشايخ المعروفين، بل الرجل أجلّ قدرا وأعظم إيمانا من أنْ يفتري هذا الكفر الصريح، ولكنْ أخطأ شبرا ففرّعوا على خطئه ما صار كفرا”.

أما تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام الذهبي (ت 748 هـ) فيقول في “تاريخ الإسلام” عندما ترجم للحكيم الترمذي، وبعد ذكره لشطحات الصوفية وفلاسفتهم يقول: “والحكيم الترمذي، فحاشى الله، ما هو من هذا النمط، فإنه إمامٌ في الحديث، صحيحُ المتابعة للإشارة، حلوُ العبارة، عليه مؤاخذاتٌ قليلة كغيره من الكبار. وكلّ أحد يُؤخذ من قوله ويترك، إلا ذاك الصادق المعصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

وممّا يُذكر عن الحكيم – وبهذا أختم – أنّه كان مختلفًا عن الصوفية في قضية لا نكاد نعرف قضية اجتمعوا عليها مثلها، وهي وجوب اتباع شيخ، حتى قال بعض غلاتهم “كن بين يدي شيخك كالميّت بين يدي المغسّل”! في المقابل نجد الحكيم يجيب سائلا في “جواب كتاب من الريّ” فيقول له: “ووصفتَ شأنك ومبتدأ أمرك أنّك نلتَ منزلة لا تعمل شيئا إلا بإذن، ثم صحبتَ رجلا ممّن ترجو الزيادة به، فتركتَ أمركَ وأقبلتَ عليه فافتقدتَ الأمر الأول، وهكذا يكون شأن من يطلب الخالق بالمخلوق. الصادق في الطريق يطلب ربّه به لا بشيء سواه”!

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى