بقلم أحمد مأمون
ليس غريبًا أن تسمع أحدهم يصف العلمانية بالكفر ومعاداتها للدين، فتلك الصورة النمطية المتشكلة في الذهنية العربية، ولعل ما جعلهم يتبنون هذا التصور هو ليس وعيهم بمفهوم العلمانية، أو حتى إدراكهم للتجارب العلمانية بقدر ما هو راجعٌ إلى سلوك العلمانيين العرب الذين تبنوا أشد أنماط العلمنة تطرفًا، والتي لا حاجة لها أصلًا في الحالة العربية، وما تعرض له هذا المفهوم من تشويه من بعض خصومه.
في البداية «إن العلمانية علمانيات، والعلمنة صيرورات وتورايخ، وليست تاريخًا واحدًا» نتج منها في النهاية أنماط وأشكال، فما هذه الأنماط؟
هناك العلمانية «الفرانكفونية/ الصلبة» أي الفرنسية التي تتبنى موقفًا معاديًا من الدين (أي دين) نتيجة استبداد الكنيسة على المجتمع والدولة في الحالة الفرنسية، وهذا النمط الذي سلكته الأحزاب العلمانية العربية لاعتقادهم الخاص أن المؤسسة الدينية والتراث هو سبب تخلف العرب عن غيرهم من الأمم، وخير مثال على ذلك؛ ما قام به الرئيس التونسي السبسي مؤخرًا حول مسألة الميراث ومساواة المرأة بالرجل؛ مما أثار حفيظة المجتمع العربي والتونسي ذي الهوية الدينية الواحدة.
أما العلمانية «الأنجلوسكسونية/ الرخوة» التي تتخذ موقفًا محايدًا تجاه الدين، وهي نمط متصالح مع الدين ويكون لصيقًا بالديمقراطية لا فكَّ بينهما، هذا النمط الذي يتبناه أردوغان، ويقود تركيا بشدة نحوها على عكس ما تبناه أتاتورك (العلمانية الصلبة) حين ألغى السلطنة العثمانية، وأقام الجمهورية، وأعلن تركيا دولة علمانية، واستخلق جدلية الدين والدولة، فيما أبدى الشعب التركي رفضه التام لسياسات أتاتورك فهو لم يكتفِ بعلمنة مؤسسات الدولة، وإنما فرضها قسرًا على المجتمع والأفراد وقمع كل ما هو ديني.
«إضافة إلى ذلك تجدر الإشارة إلى التمييز بين العلمانية كفلسفة حديثة متعارضة مع اللاهوت، ومكوّنة للقيم التي يقوم عليها النظام الحديث، نظام الدولة القومية، أو دولة الأمة وحرية الفكر والاعتقاد، والعلمانية كحركة سياسية جوهرها مناهضة الدين والكنيسة. وفي العالم العربي حيث لم تظهر العلمانية إلا كدعوة دهرية سياسية متمثلة في معاداة الدين».
كلمة لا بد منها، هناك من المفكرين العرب كـ: محمد عابد الجابري، وبرهان غليون، من يعتقد بأن مسألة «العلمانية» في العالم العربي مسألة مزيفة ومصطنعة منقولة من الغرب، «بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات، وأن طرح هذا الشعار في مجتمع يدين أهله بالإسلام هو طرح غير مبرر، غير مشروع، ولا معنى له».
ما يمكن استخلاصه:
– أن المجتمعات الإسلامية لن تتنازل عن هويتها الدينية، وترفض علمنة المجتمع التي بالأساس مستوردة من التجربة الفرنسية، فالشعوب دومًا تختار من ينتمي إلى ثقافتها وليس إلى من يهددها.
– محاولات تبنّي الأطروحات الغربية والتعامل معها كـ«قوالب» جاهزة، وإسقاطها على الواقع العربي والإسلامي لا يمكن القبول به؛ لأن الواقع العربي له ظروفه الاجتماعية والتاريخية الخاصة، مما يعني عدم صلوحية استنساخ الفكرة، ولكن قد تصلح لإعادة إنتاجها بما يتواءم مع الثقافة العربية.
– ليست مشكلة المجتمعات العربية والإسلامية في غياب العلمانية؛ بل غياب الديمقراطية فقد كان هناك بعض الأنظمة العربية علمانية، ولكن «علمانية استبدادية» زين العابدين بن علي مثلًا.
– الخاسر الوحيد من جدلية الدين والدولة هي الأحزاب العلمانية؛ لأنها تؤدي إلى خسران مكانتهم في داخل المجتمعات، ويبدو أن «علمانيينا» فاتهم أن في الحالة العربية لم يكن للدين سلطة على الدولة؛ بل إن الدولة في الغالب الأعم استخدمت الدين كأداة للتسلط على المجتمع في مواضع كثيرة، فمتى كان الدين يجدي لتبرير سياساتها؛ أخرجت رجال الدين لواجهة المشهد.
أخيرًا، ليس من المهم أن تكون الأحزاب العربية إسلامية أو قومية أو يسارية، المهم؛ هل تلك الأحزاب ديمقراطية أم غير ديمقراطية؟
فإذا كانت ديمقراطية فهل لديها برنامج سياسي شامل وحقيقي؟
(المصدر: ساسة بوست)