بقلم د. تيسير التميمي
وكيف لا تكون مدينة القدس المباركة الهوى والهوية! كيف وقد تحددت هويتها العربية والإسلامية؛ بل هوية أرض فلسطين كلها بقرار رباني راسخ أبديّ بقول الله الباقي ما دامت السماوات والأرض {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الإسراء 1
فمن ذا الذي يملك أن يقرر غير ما قرر الله سبحانه؟ حتى وإن كان الرئيس الأمريكي أو من هو أقوى منه وأكثر عتوّأً وجبروتاً، فيقيننا أن كلمة الله هي العليا، وأن الهوية العربية الإسلامية لن تسقط عن هذه المدينة المقدسة أو عن المسجد الأقصى المبارك مهما كانت المخاطر والأخطار والخطط والمخططات، وهذا التاريخ شاهد لكل من تدبره ووعاه وأدرك تقلب أيامه، فأين من اتخذوا المسجد الأقصى المبارك إصطبلاً لخيولهم؟ وأين من أسقطوا هويته في غفلة من الزمن ورفعوا فوقه راية غريبة معادية؟ هل بقيت منهم باقية؟
لقد نظّف الفاتحون من عظماء الأمة المدينة المقدس والمسجد الأقصى المبارك من دنس المحتلين الظالمين وأرجاسهم ونظفوهما من قاذوراتهم، وأزالوا عنها كل مظاهر الذل والهوان، وغسلوا أرضهما الطهور وطهروها بماء الورد، وأعادوا إليها هويتها الإسلامية الحقيقية، وأعادوا نداء الحق “الله أكبر” يصدح في سمائها وأجوائها ، وهكذا سيصنع أحفادهم القادمون إذا مسَّ القدس واالمسرى أيّاً من ذلك الأذى والإيذاء أو الوقوع في الأسر ونير الاحتلال.
وكيف لا تكون مدينة القدس في وجدان الأمة وعقيدتها! أليست هي وفلسطين كلها بلاد مباركة ومقدسة بنصوص كتاب الله تعالى! أليست أرض الوحي ومبعث الرسل ومهبط الرسالات! أما سارت على ثراها خطى الأنبياء والمرسلين الذين عاشوا في رحابها وتنقلوا بين أرجائها ودفنوا فيها! فهل يمكن أن يرضى المسلمون اغتيالها أو استبدالها أو المساومة عليها أو تهويدها أو تسليمها؟ إن من يفعل ذلك ليس منا وليس فينا وليس من بيننا، وإنه ليس من أمتنا وديننا في شيء.
ولذا فإنني أجدد ما قلته قبل فترة قصيرة، إنها البشرى بزوال الاحتلال الغاشم عن هذه الأرض المقدسة وبعودة هويتها العربية الإسلامية كما كانت عليه، إنها قوله تعالى {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} الإسراء 4-8 :
فقوله تعالى {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً} يتضمن إخبار الله سبحانه بني إسرائيل في كتابهم بأنهم سيفسدون في الأرض مرتين إفساداً عظيماً وسينحرفون عن منهج أنبيائهم بسبب العلو والسيادة والسيطرة بالباطل والطغيان، وهو ليس إخباراً مجرداً بل تحذير وإنذار لهم من خطورة إفسادهم وفسادهم وعاقبته.
وقوله تعالى {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً} ففي إفسادهم الأول سيسلط الله عز وجل عليهم عباداً له أقوياء أشداء، يتوغلون بجيوشهم ويسومون بني إسرائيل سوء العذاب ويكثرون فيهم القتل والإيذاء حتى يقضوا على علوّهم وجبروتهم ، وهذا واقع ومحقق فالله عز وجل لا يخلف وعده أبداً.
وليس مهماً من هم عباد الله أولوا البأس الشديد، وليس مهماً أيضاً متى كان هذا الإفساد الأول، لكن المهم أنه وقع وكان، وأن بني إسرائيل عاشوا نتائجه وعانوا آثاره بعد أن لم يأبهوا لتحذير الله سبحانه.
وقوله تعالى {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} يؤكد أن الضعيف لن يبقى ضعيفاً إلى الأبد، فالأيام دول بين الناس، وهذا ما كان من بني إسرائيل عندما عادوا إلى الاستقامة على نهج أنبيائهم وتعاليم دينهم فعادوا أقوياء بعد أن قضي على إفسادهم وعلوّهم.
وقوله تعالى {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً}ومعناها [إن أطعتم الله يا بني إسرائيل وأصلحتم أمركم فهذا خير لكم في الدنيا والآخرة ، أما إن عصيتم الله وارتكبتم ما نهاكم عنه فإنكم تسيئون إلى أنفسكم لأنكم تُسخطون ربكم ، فيسلط عليكم في الدنيا عدوّكم ويمكِّنه منكم ، ويخلدكم في الآخرة بالعذاب المهين]
والحديث هنا عن الإفساد الثاني لبني إسرائيل ، حيث سينفذ الله عز وجل وعده بأن يسلط عليهم عباده ذوي البأس الشديد فيلحقون بهم من الأذى ما يظهر أثره على وجوههم ، وسيدخلون المسجد الأقصى المبارك قهراً وغلبة عليهم كما دخلوه في المرة الأولى، وسيطهرونه من رجسهم وسيخلصونه من قبضتهم وأسرهم، وسيهلكون ويُدمّرون ويُخربون كل ما أقاموه وما بَنوه وشيّدوه من مظاهر الحضارة والعلوّ والاستعلاء والقوة والاستقواء على أراضي غيرهم المحتلة.
وليس مهماً أيضاً متى كان هذا الإفساد الثاني أو متى سيكون، وليس مهماً على يد من كان أو سيكون، لكن المهم أنه واقع حتماً كما وقع الإفساد الأول، وأنهم عاشوا نتائجه أو سيعيشونها، وأنهم عانوا آثاره أو سيعانونها، بعد أن لم يأبهوا لتحذير ربهم في المرة الأولى، ولم يأخذوا العبرة من دروس الإفساد الأول.
وقوله تعالى {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} يتضمن الأساس العظيم الذي يخاطب الله بها بني إسرائيل: لعلّ ربكم أن يرحمكم وينتشلكم من الذلّ الذي حل بكم، ويرفع الخساسة عنكم ويعزّكم إذا رجعتم إلى منهجه وتعاليمه، وهو النذير الرباني الثابت لهم ولغيرهم: وإن عدتم للمعصية والطغيان عاد عليكم غضب الله وسخطه بالقتل والإذلال، وإن عدتم للإفساد فإن الله لكم بالمرصاد يسلط عليكم عباده أولي البأس الشديد يفلّون شوكتكم.
فخير لسلطات الاحتلال الإسرائيلية الغاشمة اليوم إذن ألاّ تغتر بقدرتها وجبروتها، وألا تركن إلى دعم الإدارة الأمريكية المطلق لها، وخير لها أن تحذر غضب الله تعالى فإنه حالٌّ بها لا محالة، فهذه الآيات الكريمة وعيد لها ولحلفائها والمتآمرين معها على هذه الأرض المباركة وعلى شعبها، وهي وعيد أيضاً لكل من يتماهى معها من أبناء جلدتنا، فليتذكروا الأقوام السابقة التي بلغت قوتهم منتهاها فأصابهم الغرور، فهل استطاعوا الإفلات من وعيد الله؟ قال تعالى {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} فصلت 15، فأين هم قوم عاد اليوم؟ بل أين هم بعد سويعات من أمر الله الذي جاءهم ، قال تعالى {…أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} هود 60.
ورحم الله القائل [هذه سنة كونية من سنن الله يستوي أمامها المؤمن والكافر: مَنْ أحسن فله إحسانه ومن أساء فعليه إساءته، ومَنْ استحق الغلبة فهي له وإن لم يكن على دين الله ، فهو العادل سبحانه بين خلقه ، فإذا كانت الكَرّة لليهود الآن فهل ستظل لهم دوماً؟ لا… لن تظل لهم الغلبة بدليل ما نراه: فما يحدث من تجميع لليهود في أرض فلسطين واستجلابهم إليها بكل المغريات هو آية مُرادة لله سبحانه وتعالى ومقصودة في ذاتها، فقد ظلوا مبعثرين مفرَّقين في كل بلاد الدنيا, منعزلين عن الناس منبوذين بينهم, يثيرون المشاكل أينما وجدوا، فيضيق الناس بهم ذرعاً ويحاولون القضاء عليهم والتخلص منهم، فجاءت فكرة الوطن القومي الذي يجمعهم من شتى البلاد، فكانت أولى خطوات نهايتهم المؤكدة، فلْيبنوا ولْيشيدوا من العمران ولْيرتفعوا في البنيان ما شاءوا، ولْيفسدوا في الأرض ولْيعلوا فيها كما أرادوا ولْيستقدموا من مهاجريهم الجموع العظيمة، فالضربة الموعودة قادمة واقعة بهم كما قدَّرها الله عز وجل بقوله تعالى {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} الإسراء 104، والمقصود بالآخرة الإفساد الثاني.
وأخيراً أقول: مهما تعاظمت المؤامرة الدولية العالمية على مدينة القدس المباركة وعلى أرض فلسطين وأهلها الصابرين المرابطين فيها، أو على القضية الفلسطينية العادلة، فإن الأمة لن تستسلم للمخططات التي تستهدف عروبتها وإسلاميتها كما لم تستسلم من قبل، فهذه أمة لا تموت لأن قلوب أبنائها نابضة بالحياة وعامرة بالإيمان، فمهما ضعفت هذه الأمة فإن مآل كل غمة تمر بها أن تنقشع حتى وإن تلبَّدت بالغيوم السود سماؤها، ومهما غفلت هذه الأمة فإن الله يقيض لها دوماً من القادة العظماء من يوقظها وإن طال سُباتها، ومهما عظمت المؤامرة عليها فإن الله محبطها وإن اجتمعت عليها كل القوى العالمية وتحالفات الأعداء، فالله سبحانه غالب على أمره، وتدبيره يقيناً فوق تدبيرهم، قال عز وجل {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} إبراهيم 46، ودليل ذلك البشرى التي تلت في قوله سبحانه وتعالى {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} إبراهيم47 .
(المصدر: مجلة الأمة الالكترونية)