بيان رابطة علماء المسلمين في وجوب حماية جناب الشريعة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنَّ الله تعالى قد بعث الرسل وأنزل الكتب لتعمر الأرض وفق ما شرعه وأذن به، ولم يترك الناس هملاً بل بيَّن لهم كلَّ ما يحتاجون إليه.
فما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا بعد أن بلغ رسالة ربِّه، وبيَّن لهذه الأمة أمرَ دينِها، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلَّا هالك؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «…وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» [الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بسند حسن].
وبيَّن أن النجاة والعصمة من الضلال لا تكون إلَّا بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: «تَرَكْتُ فيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُما كِتابَ الله وسُنَّتي وَلَنْ يَتَفَرَّقا حَتَّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضَ» [الحاكم من حديث أبي هريرة بسند صحيح].
وهذا هو المنهج الوسط الذي أجمعت عليه الأمة، وسارت عليه خلفًا عن سلف.
ثم عهد تعالى للعلماء بعد الأنبياء حراسة الدين، وحمايته من تَأْوِيل الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَال الُمبْطِلِينَ وَتَحْرِيف الْغَالِينَ، كما أوكل لهم تجديد الدين، بالدعوة إليه، والحث على التمسُّك به، وتذكير الناس بما نسوه منه، وتحذيرهم مما ابتدع فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الله يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا).
ولاتزال الأمة المسلمة تواجه كيدًا عالميًّا، وسعيًا إجراميًّا لتبديل دينها، واختطاف إسلامها، وتحريف عقيدتها، والعبث بثوابتها الشرعية والفكرية، وتعطيل شريعة ربِّها وتنحيتها عن الحياة، تارةً باتهامها بالتخلُّف والرجعية، وتارةً باسم الحداثة ومواكبة العصر، وغيرها من الشعارات الخداعات!
ولم تكد تجف أقلام العلماء من بيان ضلال بدعة الدين الإبراهيمي ومن يروج لها، وبيان حقيقتها، وأنَّ الدخول في هذا الدِّين، والترويجَ له، والسيرَ في مساراته المتعددة – ردَّةٌ عن الإسلام، وكفرٌ بجميع المرسلين، وخيانةٌ لأمانة هذا الدِّين- حتى جرى الحديث عن الحاجة لإيجاد تفسيرات جديدة لأحكام الشريعة الإسلامية (عقيدة وعبادات ومعاملات) تخالف ما ثبت من نصوص الكتاب والسنَّة، وتصادم محكمات الدين وثوابته وأصوله، وما أجمع عليه أهل العلم قديمًا وحديثًا، بدعوى تجديد الخطاب الديني، وعدم ملائمة نصوص الشريعة للواقع المعاصر وإفرازاته، مع الطعن في كتب السُّنَّة التي تلقتها الأمَّة بالقبول، وردِّ نصوصها الثابتة الصحيحة، وفتح الباب لتطاول السفهاء والجهال على قدسيتها بعد طعنهم في حملتها!!
وما ذلك كلُّه إلَّا تعطيلٌ لأحكام الشرع، ومحاولةٌ للالتفاف عليها بتحريفاتٍ باطلة بعد أنْ باءت محاولات العلمنة طيلة العقود السابقة بالفشل الذريع.
وإزاء هذا الكيد وتلك الدعاوى فإننا نؤكد على ما يلي:
أولاً: إنَّ العلماء الربَّانيين هم وحدهم من يُرجع إليهم في استنباط الأحكام الشرعية، وبيان ما استجد من مسائل ونوازل، لا الحكَّام ولا رجال السياسة، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وقال: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 82].
ثانيًا: إنَّ مسائل الوسطية، والتجديد، والغلو، وتصحيح الأحاديث وتضعيفها، وما يُعمل به منها وما لا يُعمل، وأحكام المعاملات والعقوبات، هي أحكام شرعية محضة، تؤخذ أحكامها من كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفق ما قرره أهل العلم من قواعد راسخة وضوابط محكمة.
ثالثًا: إنَّ تحليل الحرام وتحريم الحلال وتغيير أحكام الشريعة وتحريفها والعبث بأحكامها هو تعطيل لها واستبدال، وهو من التحاكم للطاغوت الذي حذر الله تعالى منه، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا﴾ [النساء: 60].
رابعًا: إنَّ استهداف أهل العلم والدعوة، بالقتل، أو الطعن فيهم والتضييق عليهم وملاحقتهم وسجنهم هو من الحرب على الله تعالى ودين الحقِّ، ومحادة الله تعالى والصدِّ عن سبيله، وقد توعَّد الله فاعل ذلك بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران: 21-22]، وقال تعالى في الحديث القدسي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» [البخاري من حديث أبي هريرة].
خامسًا: إنَّ تقريب المنحرفين والضالِّين وتمكينهم من منابر الإعلام والفتيا والعبث بثوابته، وبعقائد المسلمين ودينهم، هو من الغشِّ للرعية وخيانة أمانة الدِّين، وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا الله وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» [مسلم من حديث معقل بن يسار المزني].
سادسًا: على الأمة الإسلامية -علماء ودعاة وأفرادًا- أن تقوم بواجبها المنوط بها الذي هو مقتضى خيريتها على الأمم.
فعلى العلماء والدعاة القيام بما أوجب الله عليهم من تعليم الخلق ونصحهم وبيان الحقِّ والصدع به وعدم كتمانه؛ كلٌّ بحسبه، والوفاء بالميثاق الذي أخذه الله عليهم ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]، وعليهم الحذر من أن يكونوا مطيَّة لأئمة الجور وللطغاة في تنحية الشريعة وإعانتهم على الظلم وإفساد البلاد والعباد، وقد قال صلى الله عليه وسلم محذرًا من العاقبة الوخيمة لمن يفعل ذلك: «إِنَّهَا سَتَكُونُ أُمَرَاءُ يَكْذِبُونَ وَيَظْلِمُونَ، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنَّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَلَا يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ، وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ» [أخرجه أحمد بسند صحيح من حديث حذيفة].
ثمَّ إنَّ على أفراد الأمَّة وأبنائها أن يلتفوا حول علمائهم الربَّانيين وأن يصدروا عن آرائهم، وأن ينصروهم، وألَّا يسلموهم إلى الطغاة والظالمين، وألَّا تخدعهم وعود المفسدين بالازدهار الاقتصادي والتقدُّم المادي عند تخليهم عن شريعتهم وأحكامها وثوابتها، فإنَّما هي محض أوهام، ولن تجني الدول والمجتمعات من تنحية شريعة ربِّها إلَّا غضب الربِّ تبارك وتعالى، ومحق البركة، ومزيد فقر وتخلُّف وتسلُّط الأعداء، وهذه سُنَّة الله في خلقه لا تتخلَّف!
وختامًا: فإن هذه الهجمة على الإسلام وثوابته ليست أول هجمة في التاريخ المعاصر، ولن تكون الأخيرة؛ فليعلم الجميع أنَّ الله عز وجل ناصرٌ دينَه ومظهرُه على الدِّين كلِّه ولو كره الكافرون والمشركون والمنافقون، وأنَّ مَنْ ينصرِ اللهَ ينصرْه، ومَنْ يتولَّ فلنْ يضرَّ اللهَ شيئًا، وسُنَّة الله ماضية، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38]
﴿والله غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
بيان رقم (148)
صادر عن الهيئة العليا لرابطة علماء المسلمين
23/شوال/1442هـ – 3/يونيو/2021م
(المصدر: رابطة علماء المسلمين)