بوتين المجدد الثاني للإخوان المسلمين!
بقلم ياسر عبد العزيز
أزمات الإخوان المسلمين وقضية العشرات
ثلاث أزمات كبرى مر بها الإخوان المسلمون منذ نشأتها قبل ثورة يناير، بدأت أولى الأزمات مع الملك فاروق فيما يسمى بحادثة السيارة الجيب، واكتشاف التنظيم السري، وعلى الرغم من أن الجماعة ومؤسسها لا يزالون في ذلك الوقت ينكرون صلتهم بالقضية والمتهمين فيها ومن ثم صلتهم بالتنظيم السري، لكن ظلال الحادثة تركت أثرا كبيرا على الجماعة، لاسيما بعد قرار حل الجماعة، وما تبعه من عمل متهور بقتل مصدر القرار، ولم يشفع للجماعة حينها البيان الذي أصدره المرشد العام حينها الأستاذ حسن البنا لتبرئة الجماعة من كل ما اتهمت به، وليقضي مؤسس الجماعة “شهيدا” بقرار أمني خارج إطار القانون، ولعل ما عاشته الجماعة حينها من موجة اعتقالات أثرت بشكل كبير على هيكل الجماعة بعد أن انفرط عقدها، قبل أن يلملم شتاتها بعض المخلصين للفكرة، ساعدهم في ذلك انخراطهم في مقاومة المحتل الانجليزي، في وقت أراده الملك الخائض في مشاكل جمة مع التاج في لندن.
لكن سرعان ما دخلت الجماعة في محنة جديدة في الخمسينات، مع القيادة الجديدة للبلاد، فلم يدم شهر العسل كثيرا بين حركة الضباط التي انقلبت على الملك وبين الجماعة، بعد أن شعر عبد الناصر ورفاقه بحقيقة شعبية الإخوان وخطورتهم على مشروعهم للاستئثار بحكم مصر، ولعل خلاف الضباط مع قائدهم محمد نجيب واصطفاف الإخوان مع الرئيس في 1954 وما تبعه من محاولة لقتل رئيس الوزراء، آنذاك، جمال عبد الناصر في المنشية، والتي استغلها الأخير لتصفية الإخوان بعد قرار حل الجماعة، باتهامهم بمحاولة قتله، ورغم أن القصة محل شك لدى المراقبين، إلا أن العبرة بالنتائج، والنتائج يكتبها المتغلب، لتفقد الجماعة عددا غير قليل من القيادات أبرزهم عبد القادر عودة، الذي كان يقف خلفه عبد الناصر، في أزمة مارس حين أراد الرئيس نجيب صرف المعترضين على تنحيته، والمؤيدين له، فلم يستطع، وصرفهم عودة، فكان جزاؤه الإعدام بعد حادثة المنشية.
وواجهت الجماعة أزمتها الثالثة في 1965 لكن دليل الاتهام هذه المرة كان أخطر على النظام، فالجسر الذي أراد به عبد الناصر العبور لرقاب قادة الجماعة كان كتاب “معالم في الطريق” الذي ألفه سيد قطب والذي كان كافيا لترتيب أوراق الأزمة والخلاص من شراذم الجماعة التي حاولت من جديد بعد أزمة 1954 أن تلملم شتاتها، وهو ما لم تكن لتقبله القيادة السياسية في حينها، فرأى عبد الناصر في الكتاب محاولة لانقلاب عليه، وتراه الأنظمة حتى اليوم محرضا ودافعا لنفس النتيجة، رغم تفسيرات الجماعة الكثيرة لمحتواه والتي تفضي لغير المراد لإلباسه، فألقى عبد الناصر القبض على عدد كبير من قيادات الجماعة على رأسهم محمود عزت ومحمد بديع وحصلوا على أحكام بالسجن لمدة 10 سنوات وعرفت هذه المجموعة إعلامياً بمجموعة ”العشرات” نسبة إلى الأحكام التي حكموا بها، كما تم إعدام 6 من كبار القيادات على رأسهم سيد قطب، وهي الأزمة الأهم في تاريخ الجماعة لما تركته مع سابقاتها من أثر كبير في القيادة سواء على مستوى الأشخاص أو الأسلوب.
قيامة روسيا الثانية
مع تفكك الاتحاد السوفياتي في 1991، أصبح الاتحاد الروسي بلدا مستقلا، لكنه يمثل ما تبقى من الاتحاد السوفيتي، حيث كان أكبر الجمهوريات الخمسين التي تشكل منها الاتحاد السوفياتي، وتنتج أكثر من 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد السوفيتي المنهار ويسكنه أكثر من 50٪ من سكان الاتحاد المنحل، فهيمن على الجيش السوفياتي بأسلحته النووية وأغلب تكنولوجيا الفضاء، ما جعله خليفة للاتحاد السوفياتي في مجلس الأمن وحفظ له مكانته، لكن واقع الحال في الاتحاد الجديد رغم ذلك كان أبعد ما يكون عن أن يوصف بالدولة العظمى التي تشغل مقعدا بين الكبار في مجلس الأمن، فالضربات التي تلقاها الاتحاد السوفيتي مورث الدولة الجديدة كانت كافية لأن تجعله دولة منهارة ضعيفة، وهو ما كان يريده المعسكر الغربي بقيادة أمريكا وناله، حكم الاتحاد الجديد الرئيس بوريس يلتسن، ورغم اتباعه سياسات أقرب ما تكون للغرب، إلا أن حالة الكساد وانهيار الخدمات الاجتماعية وانخفاض معدل المواليد وارتفاع معدل الوفيات، في ظل تجذر الفساد، وانتشار واسع للعصابات وتفشي الجرائم، أوقعت هذه الحالة الملايين في براثن الفقر، وتزايدت ديون روسيا، حتى وصل الحال أن باتت تتلقى المعونات الدولية.
في ديسمبر 1999 استقال يلتسين، ليتسلم مهامه رئيس وزرائه القوي فلاديمير بوتين، الذي حاول جذب الاستثمارات وتحسين الاقتصاد وزيادة الاستهلاك المحلي والاستثمارات في الاقتصاد ورفع مستوى المعيشة، وكافح على مدى تسع سنوات حتى أعاد روسيا على خريطة العالم الجديد قوية لها مكانتها وزاد نفوذ روسيا على الساحة العالمية، إذ تمكن من استعادة الصداقات القديمة وإنشاء شبكة من الاتصالات وتعلم اللعب بالقواعد الجديدة، وكان دوما في مخيلته أمران شكلا هاجسا دفعه للنجاح، هما الخوف من الثورات الشعبية، والفراغ السياسي، وهو ما جعله يتنقل بين المناصب، بين رئيس وزراء ورئيس دولة، ويتخذ من القرارات التسكينية أو الإقصائية لتجنب حدوث ثورات شعبية، حتى ونحن نختلف مع بوتين وسياساته سواء الداخلية أو الخارجية، إلا أنه لا يمكن إنكار أن الرجل يعد مجددا لقوة وشباب روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي.
أزمة القيادة وفكرة المخلص
عاشت جماعة الإخوان المسلمين أزمات كثيرة سببت لها أزمة في القيادة، فالضربات الأمنية المتلاحقة، رغم محاولات الجماعة تجنبها بموائمات مع الأنظمة المتتابعة، إلا أن ذلك لم يكن ليشفع لها، في ظل نظرة الريبة التي تبنتها الأنظمة، أخذاً في الاعتبار أهداف الجماعة وسعيها للتمكين، ومع اختلاف مفهوم التمكين لدى الجماعة وغيرها، فإن الآخر، بكل ما يحمله المصطلح، ظل متوجسا من الجماعة، وهو ما جعل الجماعة دوما في مرمى نيران الجميع، في المقابل اتخذت الجماعة من المظلومية رافعة لتثبيت أفرادها وشد لحمتها، فملأت أدبياتها بالحديث عن الاعتقال والاستشهاد في سبيل الدعوة (الفكرة والجماعة) ومع الوقت أصبح الاعتقال أحد مؤهلات القيادة، وأصبح الاستشهاد أحد شهادة مرور ذوو الشهيد للصفوف الأولى للجماعة، مضافا إليه حال الإكبار والتبجيل للمعتقل أو ذوي الشهيد، وهو ما خلف صفوفا متتابعة من القيادة غير المؤهلة، بل المغيبة عن الواقع المعاش وتغيراته، بفعل مدد الاعتقال الطويلة، ولعل الأستاذ عمر التلمساني يعد استثناء في ذلك، بما قام به من جمع لشتات الجماعة التي قطعتها اعتقالات عبد الناصر، ونجح التلمساني في رسم خطة طويلة الأمد سماها خطة المشي في “خطوات متوازية ” للانصهار في الأنشطة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنقابات والمدارس والجامعات، وهو ما استطاع الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح تنفيذه، حيث لم يمهل القدر المرشد الثالث للجماعة في رؤية ثماره، ولعل أبو الفتوح وجيله الذي نشط في الجامعة وقدم نموذج رائعا حرك به مصر بطولها وعرضها من خلال العمل الطلابي، قد ساهم في تجديد شباب الجماعة التي ارتفع متوسط أعمار قيادتها بشكل كان يوحي بأن الجماعة تحتضر، لكن الجماعة بقيادتها لم تفطن لمنحنى الزمن وفترات الصعود والهبوط التي سنها الله في أعمار البشر والجماعات، بل والدول والإمبراطوريات، فتعيش الجماعة الآن نفس مرحلة ما قبل الثمانينيات بمتوسط أعمار قد يزيد عن الستين عاما، وهو ما يجعل شباب الجماعة وقواعدها على العموم منفصلة إلى حد كبير عن قيادتها، ناهيك عن حالة الانهزام النفسي والمادي التي أثرت إلى حد بعيد على الجماعة بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013، وهو ما يمكن فهم أثره في الانسحابات الكبيرة للقواعد من التزاماتهم التنظيمية وإن لم يعلنوا ذلك، مع التأكيد على أن هناك من استطاع الإفصاح عن خلع بيعته متحملا تبعات ذلك في منظور الجماعة، ولعل أيضا هذا ما يمكن أن ينسحب على حلم القواعد بل والقيادات الوسطى وحتى بعض القيادات العليا في هرم التنظيم بمخلص يحملهم ويعيد الجماعة إلى مجدها، وهنا يجب الوقوف عند مفهوم المجد عند الجماعة، وكذا مفهوم العودة، فمتى كانت الجماعة المستهدفة منذ نشأتها في مجدها كي تعود، فالجماعة بحسب أدبياتها تهدف إلى تكوين الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم، ثم الحكومة الإسلامية، فالدولة، وصولا لأستاذية العالم، فمتى تحقق هذا كي يحلم فرد الإخوان وقيادته بالمخلص الذي يعيد الجماعة لمجدها؟ الإجابة معروفة، لذا فلا داعي للتفصيل، ولا يقولن أحدهم أن الجماعة تمكن في القطر (س) أو القطر (ص) فلا الحكومة مثلت الشعب بكامله ما يعني أن العمل على تحقيق الأهداف الصغيرة من بناء المجتمع والأسرة والفرد لم تنجح، والدليل أن المجتمعات والأسر والأفراد نكسوا في الأزمات، لكن الغرض من السؤال وإجابته هو إيقاظ الحالم وتنبيه الغافل، وعليهما تبنى أمور كثيرة، مع ذلك، نضع سؤال جوهري في العنوان التالي ونحاول الإجابة عليه.
هل تحتاج الأمة للإخوان المسلمين؟
على الرغم من أن الإجابة عن سؤال ماذا حققت الجماعة من أهدافها، والإجابة الصادمة عليه، إلا أن سؤال آخر أكثر أهمية يجب الوقوف عنده، وهو هل تحتاج الأمة للإخوان المسلمين؟
والإجابة نعم و لا، نعم تحتاج الأمة للإخوان المسلمين كجماعة تمثل المسلمين، لا الإسلام، تمثل المسلمين العامة وليس عامة المسلمين، فالإخوان بتنظيمهم وامتداده وأصول نشأته والغرض منه لا يزال باب الحاجة له مفتوحا إلى يوم الناس هذا، لكن (لا) التي أجبنا بها تخص التفاصيل، فلا يكفي أن يكون لديك تنظيم في ما يقارب الستين دولة، فليس هو الهدف كما تظن القيادة، وإنما تأثيرك في هذه الدول على الفرد والأسرة والمجتمع حتى ولم تؤسس حكومة، كما أن سعيك للحكومة ليس لتمكين الجماعة، ولكن لتمكين الدعوة، وهنا يجب تحرير المصطلحات، فالدعوة في مفهوم عامة المسلمين هي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وليست دعوة البنا، لذا فإن منهج الإدارة الكمية التي لازالت قيادة الجماعة تعمل بها سواء داخل القطر بداية من الأسرة والشعبة وحسبة الانتشار وعدد الأعضاء والمناصرين، من أسباب تراجع الجماعة، فالإدارة بالنتائج هي واجب الوقت، لاسيما في حركة إصلاحية تسعى للتغيير الناعم، وهو المنهج الذي أسسه الهضيبي وأكد عليه التلمساني، مع ذلك، والحديث هنا عن المنهج، لا يمكن أن تكون القواعد ثابتة وتطبق على كل حال وفي كل مآل، فلكل حادثة حديث.
في زمن تتراص فيه الصفوف، يقف الاستبداد صفا واحدا لمجابهة الحق، ولكم كانت جماعة الإخوان هي أخر قلاعه، بعد أن استطاع الاستبداد شيطنة غيرهم من أهل الحق، فإن الدائرة الآن عليهم، ولا أظن، وأنا هنا ناصح، أن القيادة الحالية تستطيع بالأدوات التي تمتلكها سواء المعرفية أو البشرية التي تحيط بها وتستخدمها قادرة على المواجهة في هذه المعركة غير المتكافئة، فعلى القيادة أن تستفيد من الموارد المتاحة بشكل علمي، من خلال استقطاب الكفاءات المنسحبة والمهمشة، والتي تستطيع أن تسخر الموراد البشرية الكبيرة، مستخدمة في ذلك المعارف الحديثة والقدرات المالية والتقنية والعلاقات العامة التي بنتها الجماعة على مدى عمرها لتنفيذ أهدافها، مع تحرير المصطلحات وشموليتها، ولا يمكن تنفيذ أهدافها بالحلم بالمخلص الفرد، لذا فعلى القيادة هضم فكرة المؤسساتية جيدا لتحويلها إلى عناصر تجري في دم الجماعة فتغذيها، فالطاعة والإكبار والتبجيل للمؤسسة وللفكرة وللقانون الحاكم، لا للفرد، فالفرد يمرض ويموت والمؤسسات باقية ما بقيت القواعد مطبقة وعلى رأسها الشفافية، إن تطبيق القواعد ومراقبتها تجدد شباب أي تنظيم أو جماعة وصولا إلى الدولة، وهو ما فعل بوتين وأيقظ روسيا بعد موات.
أكتب هذه الكلمات، وأنا لست عضوًا ولم أنتسب يومًا للإخوان المسلمين، لأن حديث البعض عن حل الجماعة أو تفكيك نفسها، هو كمن يطعن نفسه نكاية في عدوه، تحتاج الجماعة للكثير كي تعمل على الأهداف الموضوعة، مع فتح المجال لتعديل هذه الأهداف والعمل على المناسب منها، وتشكيل مؤسسات بضوابط صارمة لمراقبة تنفيذ الأهداف ونتائج الخطط المنفذة، فالعالم يعيش حالة من إعادة التشكيل، يرغب في ألا يكون للإسلام فيه مكان، ومع تأكيدي أن الإخوان ليسوا هم الإسلام، لكنهم يشكلون حالة ممتدة للمصلحين والمجاهدين والمنافحين عن دين هذه الأمة وهويتها في وجه التغريب والإمبريالية العالمية، لذا فما يجب أن تفهمه القيادة المأمولة أنهم على ثغر عظيم فليحذروا أن تؤتى الأمة من قبلهم.
(المصدر: رسالة بوست)