بنو إسرائيل وميراث الأرض: لمَن العاقبة في الصِّراع العربي-الإسرائيلي؟ – 3 من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
سبب التِّيه في الأرض: فعل الشَّر أم رفض القتال في سبيل الله؟
ننتقل إلى مرحلة سنوات التِّيه في الأرض، وتحريم الأرض المقدَّسة على بني إسرائيل، الوارد ذكرها في القرآن والكتاب المقدَّس. بمراجعة قصَّة بني إسرائيل في سورة البقرة (آيات 47-123)، نجد أنَّ الله أمر بني إسرائيل بدخول الأرض المقدَّسة، لكنَّهم امتنعوا بإرادتهم عن ذلك “وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ۚ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)”. في إشارة جديدة إلى التَّهافت على متاع الدُّنيا، اشتكى بنو إسرائيل من قلَّة أنواع الطَّعام المتاحة لديهم، واقتصار طعامهم على “الْمَنّ وَالسَّلْوَى“، وكانت الاستجابة الإلهيَّة بأن أمرهم بأن يدخلوا “الْقَرْيَةَ“، وهي الأرض المقدَّسة، كما أبان الله في سورة المائدة، وفق تفسير ابن كثير. يقول تعالى في سورة المائدة “وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ. يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ. قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ” (سورة المائدة: الآية 20-26).
يبدأ موسى دعوته قومه إلى دخول الأرض المقدَّسة بتذكيرهم بأنعم الله عليهم، وهي أنَّه “جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ“. اختصَّ الله بني إسرائيل بنعمة الوفرة الماديَّة “جَعَلَكُم مُّلُوكًا“، وفضَّلهم على العالمين بما لم يُتح لغيرهم من الأمم، بميزات تعدِّدها هذه الآية “وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ” (سورة الجاثية: الآية 16)، لكنَّه تعالى ميَّز بعضهم بالنبوَّة “جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ“؛ إذ منح “الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ” لطائفة اصطفاها من بينهم، وهذا ما لم يعجبهم، ليصدق فيهم بذلك قوله تعالى في سورة الأنعام “وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ“، ويأتيهم الردُّ الإلهي في الآية ذاتها “اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ” (سورة الأنعام: الآية 124). لم يقنع بنو إسرائيل بما منحهم الله إيَّاه، وأرادوا مشاركة أنبيائهم في هبة الله إليهم؛ ومن ثمَّ تقاعسوا عن القتال في سبيل الله، ودخول الأرض المقدَّسة، انطلاقًا من عقيدة القدريَّة “وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ“، رافضين الاستجابة لرأي عقلائهم “وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ“؛ فكانت النتيجة أن حرَّمها الله عليهم أربعين سنةً، يهلك فيها جيل ‘‘الفاسقين’’ من المعاندين، الحاقدين على ما ميَّز الله به فئة من عباده. وما يبرهن على هذا التفسير لموقف بني إسرائيل من دعوتها إلى القتال للاستحواذ على الأرض المقدَّسة، أن أتبع الله هذه الآيات في سورة المائدة، بقصَّة ‘‘ابني آدم’’، لمَّا حقد أحدهما على الآخر، ثم قتله “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ” (سورة المائدة: الآية 27).
أمَّا الرواية التوراتيَّة عن التِّيه أربعين سنةً، فبرغم اعترافها بأنَّ سببه معصية بني إسرائيل، فقد أُعزيت إلى أسباب أخرى غير رفض الامتثال لأمر الله. فالسبب، وفق ما جاء في سفر التثنية، هو اختبار الربِّ لبني إسرائيل ليعرف مدى حفظهم لوصاياه “وَتَتَذَكَّرُ كُلَّ الطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا سَارَ بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هذِهِ الأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْقَفْرِ، لِكَيْ يُذِلَّكَ وَيُجَرِّبَكَ لِيَعْرِفَ مَا فِي قَلْبِكَ: أَتَحْفَظُ وَصَايَاهُ أَمْ لاَ؟” (سفر التثنية: إصحاح 8، آية 2). وهناك سبب آخر يطرحه سفر العدد، وهو فعل الشَّر “فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَأَتَاهَهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، حَتَّى فَنِيَ كُلُّ الْجِيلِ الَّذِي فَعَلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ” (سفر العدد: إصحاح 32، آية 13). ويتطابق ذلك مع ما جاء في هذا الصدد في سفر يشوع “لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَارُوا أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْقَفْرِ حَتَّى فَنِيَ جَمِيعُ الشَّعْبِ، رِجَالُ الْحَرْبِ الْخَارِجِينَ مِنْ مِصْرَ، الَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا لِقَوْلِ الرَّبِّ” (سفر يشوع: إصحاح 5، آية 6). تحمَّل يشوع مسؤوليَّة زعامة بني إسرائيل بعد أن لقي موسى ربَّه، وصار خليفته فيهم، وقد كان تابعًا ومساعده، الذي ورد ذكره في سورة الكهف “وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا” (سورة الكهف: الآية 60). تثبت الأحاديث الصحيحة عن النبيِّ مُحمَّد (ﷺ) نبوَّة يشوع، لكنَّ الذي لا ينطق عن الهوى حرص على تصحيح اسمه، ليكون يوشع.
دخول الأرض المقدَّسة بعد محنة التِّيه
روى الإمام أحمد في مسنده، كما روى البخاري، أنَّ رسول الله (ﷺ) قال “إِنَّ الشَّمْسَ لَمْ تُحْبَسْ عَلَى بَشَرٍ إِلَّا لِيُوشَعَ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ”، وفي هذا ما يثبت صحَّة الرواية التوراتيَّة عن أمر الربِّ يشوع أن يعبر نهر الأردن بشعب إسرائيل، ويدخل ‘‘الأرض’’، دون تحديد أبعاد تلك الأرض “وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى عَبْدِ الرَّبِّ أَنَّ الرَّبَّ كَلَّمَ يَشُوعَ بْنِ نُونٍ خَادِمَ مُوسَى قَائِلًا: «مُوسَى عَبْدِي قَدْ مَاتَ. فَالآنَ قُمِ اعْبُرْ هذَا الأُرْدُنَّ أَنْتَ وَكُلُّ هذَا الشَّعْبِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنَا مُعْطِيهَا لَهُمْ أَيْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ، كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى” (سفر يشوع: إصحاح 1، آيات 1-3). لم يحدد الربُّ في أمره بالدخول ‘‘الأرض المقدَّسة’’، وفق اللفظ القرآني، أو ‘‘بيت المقدس’’، وفق اللفظ النَّبوي، إنَّما “كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ“، في تكريس للبُعد الاستعماري لبني إسرائيل، القائم على أحقيَّة ميراث الأرض كلِّها، باعتبارهم الشَّعب الذي كلَّم الله ورآه. في حين دحض القرآن الكريم هذا الزَّعم، بأن أبان لنا أنّ اللهَ أخذهم بصاعقة لمَّا أرادوا رؤيته أخذتهم “الصَّاعِقَةُ” (سورة البقرة: الآية 55)، أو “الرَّجْفَةُ” (سورة الأعراف: الآية 155).
قبل المضي في تناوُل دور يوشع بن نون في تأسيس ‘‘دولة إسرائيل’’ الأولى، تجدر الإشارة إلى طريقة تسليم موسى فتاه، أو ‘‘خادمه’’، وفق لفظ التوراة، وهي الوصيَّة له بالزَّعامة من بعده “فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «خُذْ يَشُوعَ بْنَ نُونَ، رَجُلًا فِيهِ رُوحٌ، وَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهِ…وَاجْعَلْ مِنْ هَيْبَتِكَ عَلَيْهِ لِكَيْ يَسْمَعَ لَهُ كُلُّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيل…فَفَعَلَ مُوسَى كَمَا أَمَرَهُ الرَّبُّ. أَخَذَ يَشُوعَ وَأَوْقَفَهُ قُدَّامَ أَلِعَازَارَ الْكَاهِنِ وَقُدَّامَ كُلِّ الْجَمَاعَةِ. وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَأَوْصَاهُ كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ عَنْ يَدِ مُوسَى” (سفر العدد: إصحاح 27، آيات 18-23). ويُعتقد أنَّ الشِّيعة قد نشأ لديهم مفهوم الوصاية وميراث الولاية من هذا الموقف، على اعتبار أنَّ هناك تشابهًا كبيرًا بين طريقة وصاية موسى ليشوع في التوراة، بوصاية النبيِّ (ﷺ) لعليٍّ، لمَّا خطب في المسلمين بغدير يُدعى خمٌّ بعد حجَّة الوداع قائلًا “من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار، اللهم هل بلغت“.
جاء في كتاب أثر عزرا في الديانة اليهوديَّة (2008) لأحمد معاذ علوان حقِّي، أنَّ يشوع صُوِّر بأنَّه رجل وحشي لا يرقب في أي إنسان إلًّا ولا ذمة، ولا يُثنيه عن تحقيق ومآربه أي رادع ديني أو أخلاقي، في تبرير لسفك الدماء وإبادة الشعوب في سبيل تأسيس مملكة إسرائيل الكبرى. يضيف حقِّي أنَّ ما يبرر عمليات الإبادة في إسرائيل عقيدتان أساسيتان لدى بني إسرائيل؛ الأولى، أنَّ فلسطين هي قدس الأقداس وينبغي ألا تتنجس برجسات الأمم الأخرى؛ والثَّانية، أنَّ الأغيار ليسوا بشرًا، إنَّما هم حيوانات خُلقت على صورة الإنسان لخدمة شعب الله المختار. من صور انتهازيَّة يشوع أن أرسل جاسوسين لممارسة الزنا مع امرأة واستدراجها لمعرفة الأسرار “فَأَرْسَلَ يَشُوعُ بْنُ نُونٍ مِنْ شِطِّيمَ رَجُلَيْنِ جَاسُوسَيْنِ سِرًّا، قَائِلًا: «اذْهَبَا انْظُرَا الأَرْضَ وَأَرِيحَا». فَذَهَبَا وَدَخَلاَ بَيْتَ امْرَأَةٍ زَانِيَةٍ اسْمُهَا رَاحَابُ وَاضْطَجَعَا هُنَاكَ” (سفر يشوع: إصحاح 2، آية 1). أحلَّ الربُّ ليشوع وجنوده استباحة ما في مدينة عاي بالقوَّة المسلَّحة، كما فُعل في أريحا من قبل، بل وأوصاهم بحرقها بالنَّار بعد إسقاطها “تَفْعَلُ بِعَايٍ وَمَلِكِهَا كَمَا فَعَلْتَ بِأَرِيحَا وَمَلِكِهَا. غَيْرَ أَنَّ غَنِيمَتَهَا وَبَهَائِمَهَا تَنْهَبُونَهَا لِنُفُوسِكُمُ. اجْعَلْ كَمِينًا لِلْمَدِينَةِ مِنْ وَرَائِهَا… أَنْتُمْ تَقُومُونَ مِنَ الْمَكْمَنِ وَتَمْلِكُونَ الْمَدِينَةَ، وَيَدْفَعُهَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ بِيَدِكُمْ. وَيَكُونُ عِنْدَ أَخْذِكُمُ الْمَدِينَةَ أَنَّكُمْ تُضْرِمُونَ الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ. كَقَوْلِ الرَّبِّ تَفْعَلُونَ. انْظُرُوا. قَدْ أَوْصَيْتُكُمْ». (سفر يشوع: إصحاح 8، آيات 2، 7-8). قتَّل شعب إسرائيل أهل المدينة، واستولوا على خيراتها “فَكَانَ جَمِيعُ الَّذِينَ سَقَطُوا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ مِنْ رِجَال وَنِسَاءٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، جَمِيعُ أَهْلِ عَايٍ… لكِنِ الْبَهَائِمُ وَغَنِيمَةُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ نَهَبَهَا إِسْرَائِيلُ لأَنْفُسِهِمْ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ يَشُوعَ) (سفر يشوع: إصحاح 8، آيتان 25 و27).
بهذه القوَّة الغاشمة، استطاع يشوع إسقاط ملوك مُدُن الأرض المقدَّسة، أو أرض كنعان، وأخضع أهلها لسُلطانه “فَقَالَ يَشُوعُ: «افْتَحُوا فَمَ الْمَغَارَةِ وَأَخْرِجُوا إِلَيَّ هؤُلاَءِ الْخَمْسَةَ الْمُلُوكِ مِنَ الْمَغَارَةِ». فَفَعَلُوا كَذلِكَ، وَأَخْرَجُوا إِلَيْهِ أُولئِكَ الْمُلُوكَ الْخَمْسَةَ مِنَ الْمَغَارَةِ: مَلِكَ أُورُشَلِيمَ، وَمَلِكَ حَبْرُونَ، وَمَلِكَ يَرْمُوتَ، وَمَلِكَ لَخِيشَ، وَمَلِكَ عَجْلُونَ. وَكَانَ لَمَّا أَخْرَجُوا أُولئِكَ الْمُلُوكَ إِلَى يَشُوعَ أَنَّ يَشُوعَ دَعَا كُلَّ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ لِقُوَّادِ رِجَالِ الْحَرْبِ الَّذِينَ سَارُوا مَعَهُ: «تَقَدَّمُوا وَضَعُوا أَرْجُلَكُمْ عَلَى أَعْنَاقِ هؤُلاَءِ الْمُلُوكِ». فَتَقَدَّمُوا وَوَضَعُوا أَرْجُلَهُمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ. فَقَالَ لَهُمْ يَشُوعُ: «لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَرْتَعِبُوا. تَشَدَّدُوا وَتَشَجَّعُوا. لأَنَّهُ هكَذَا يَفْعَلُ الرَّبُّ بِجَمِيعِ أَعْدَائِكُمُ الَّذِينَ تُحَارِبُونَهُمْ»” (سفر يشوع: إصحاح 10، آيات 22-25). يتسلَّح يشوع بمبدأ استعلائي يعتقد أنَّ لبني إسرائيل أفضليَّة على الأمم، مصدرها الربِّ “لأَنَّهُ هكَذَا يَفْعَلُ الرَّبُّ بِجَمِيعِ أَعْدَائِكُمُ الَّذِينَ تُحَارِبُونَهُمْ“؛ ونتيجة لذلك، “أَخَذَ يَشُوعُ جَمِيعَ أُولئِكَ الْمُلُوكِ وَأَرْضِهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَ إِسْرَائِيلَ حَارَبَ عَنْ إِسْرَائِيلَ” (سفر يشوع: إصحاح 10، آية 42). واصل يشوع وشعب إسرائيل غزو المدن، حتَّى أسقطوا جميع ملوكها، ثم خطب يشوع في قومه قائلًا “أَعْطَيْتُكُمْ أَرْضًا لَمْ تَتْعَبُوا عَلَيْهَا، وَمُدُنًا لَمْ تَبْنُوهَا وَتَسْكُنُونَ بِهَا، وَمِنْ كُرُومٍ وَزَيْتُونٍ لَمْ تَغْرِسُوهَا تَأْكُلُونَ. فَالآنَ اخْشَوْا الرَّبَّ وَاعْبُدُوهُ بِكَمَال وَأَمَانَةٍ، وَانْزِعُوا الآلِهَةَ الَّذِينَ عَبَدَهُمْ آبَاؤُكُمْ فِي عِبْرِ النَّهْرِ وَفِي مِصْرَ، وَاعْبُدُوا الرَّبَّ” (سفر يشو: إصحاح 24، آيتان 13-14). وما كان من الشَّعب أن تعهَّد أمام يشوع بإخلاص العبادة للرَّب وجده، شاهدين بفضله عليهم “فَأَجَابَ الشَّعْبُ وَقَالُوا: «حَاشَا لَنَا أَنْ نَتْرُكَ الرَّبَّ لِنَعْبُدَ آلِهَةً أُخْرَى. لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَنَا هُوَ الَّذِي أَصْعَدَنَا وَآبَاءَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ…وَطَرَدَ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِنَا جَمِيعَ الشُّعُوبِ، وَالأَمُورِيِّينَ السَّاكِنِينَ الأَرْضَ. فَنَحْنُ أَيْضًا نَعْبُدُ الرَّبَّ لأَنَّهُ هُوَ إِلهُنَا»” (سفر يشوع: إصحاح 24، آيات 16-18).
مرحلة ما بعد دخول الأرض المقدَّسة: حُكم القضاة والملوك
يشير الدكتور محمَّد بيُّومي مهران، أستاذ تاريخ مصر والشَّرق الأدنى القديم في جامعة الإسكندريَّة المصريَّة، في ثاني أجزاء كتابه الموسوعي بنو إسرائيل (1999)، إلى أنَّ بعد موت يوشع بن نون، ظلَّ بنو إسرائيل متمسكين بالتعاليم الإلهية لفترة من الزمن، ولكنَّهم انحرفوا عن الحق فيما بعد باتِّباع الهوى وعبادة الأصنام، فأرسل الله إليهم ‘‘قضاة’’ عملوا على تخليصهم من ناهبيهم وإعادتهم إلى طريق الهدى؛ مع ذلك، فقد كانوا يرتدُّون بعد موت كلِّ قاضٍ ويفسدون أكثر من السَّابق. وقد ورد ذلك في سفر القضاة، وهو أطول الأسفار من حيث الفترة الزمنية التي يتناولها بعد سفر التكوين. ويشير لفظ القاضي إلى وظيفة تختلف عن المفهوم المعروف حاليًّا لدينا، حيث كان القاضي بمثابة الملك والمراقب، أو لتقل الإمام، وقد ظلَّت تلك الوظيفة قائمة حتى قيام الملكيَّة على يد شاؤول، أو طالوت، كما ورد ذِكره في سورة البقرة.
جاء في السِّفر أنَّ بني إسرائيل انحرفوا عن منهج الرَّب، ونقضوا عهدهم ليشوع بتوحيد الرُّبوبيَّة للربِّ الذي أخرجهم من مصر، وملَّكهم على أرض كنعان، وعبدوا الثُّنائي الإلهي البابلي، البعل وعشتار، وسبقت الإشارة أكثر من مرَّة إلى مدلول ذلك، وهو-في عُجالة-تحريف مفهوم الألوهيَّة إلى المفهوم الوثني، الذي اعتقد في أنَّ الخَلق تمَّ نتيجة اقتران ثنائي إلهي، من ذكر وأنثى، نتج الخَلق عن اقترانهما. يقول السِّفر “وَكُلُّ ذلِكَ الْجِيلِ أَيْضًا انْضَمَّ إِلَى آبَائِهِ، وَقَامَ بَعْدَهُمْ جِيلٌ آخَرُ لَمْ يَعْرِفِ الرَّبَّ، وَلاَ الْعَمَلَ الَّذِي عَمِلَ لإِسْرَائِيلَ. وَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ. وَتَرَكُوا الرَّبَّ إِلهَ آبَائِهِمِ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَسَارُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ، وَسَجَدُوا لَهَا وَأَغَاظُوا الرَّبَّ. تَرَكُوا الرَّبَّ وَعَبَدُوا الْبَعْلَ وَعَشْتَارُوثَ” (سفر القضاة: إصحاح 2، آيات 10-13). لم يتوقَّف الأمر عند ذلك، بل ألَّه بنو إسرائيل البشر “فَعَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِجْلُونَ مَلِكَ مُوآبَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً” (سفر القضاة: إصحاح 3، آية 14). كان بنو إسرائيل يمتثلون إلى أوامر أنبيائهم ويطيعونهم، ولكن سرعان ما ينحرفون عن الطَّريق الصحيح بعد أن يموت عنهم النبيُّ أو الوصيُّ الصَّالح، ومن نماذج ردَّتهم ما فعلوه بعد موت القاضي الصَّالح بائير “وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ وَالْعَشْتَارُوثَ وَآلِهَةَ أَرَامَ وَآلِهَةَ صِيدُونَ وَآلِهَةَ مُوآبَ وَآلِهَةَ بَنِي عَمُّونَ وَآلِهَةَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، وَتَرَكُوا الرَّبَّ وَلَمْ يَعْبُدُوهُ” (سفر القضاة: إصحاح 10، آية 6).
تتكرر عبارة “عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ” كثيرًا في سفر القضاة، في تأكيد على نقض بني إسرائيل عهدهم مع الربِّ، وتقاعُسهم عن أداء الأمانة، ممَّا شجَّع الأمم الأخرى على مهاجمتهم، واستلاب أراضيهم، أو لتقل سلَّط الربُّ عليهم الأمم التي انتزعوا أرضها أيَّام يشوع. وتتكرر كذلك عبارة “حَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ” في الإشارة إلى القاضي الذي يتولى الزَّعامة، وكأنَّما يصير حاكمًا عليهم بتفويض ربَّاني يكون من خلاله تجسيدًا للرَّب، يتصرَّف نيابةً عنه. ما عرفناه من سفر القضاة أنَّ الصراع بين بني إسرائيل، أو الإسرائيليين، والفلسطينيين، وهم سُكَّان الأرض المقدَّسة الَّذين هاجمهم جيش الإسرائيليين بزعامة يشوع، ظلَّ دائرًا، حتَّى بعد انتهاء زمن القضاة، وابتداء مرحلة الملوك، على يد شاؤول، أو طالوت، المنحدر من سبط بنيامين. وقد ورد ذِكر ذلك في سورة البقرة “أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ” (سورة البقرة : الآية 246). أراد بنو إسرائيل قتال الفلسطينيين، ودخول الأرض المباركة، حيث يقع المسجد الأقصى، ثاني بيت وضع للناس، بعد الَّذي في مكَّة المكرَّمة، كما جاء في سورة آل عمران “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (سورة آل عمران: الآية 96)”. وإذا كان البيت الحرام هو محلُّ الهدى للنَّاس، فالمسجد الأقصى هو محلُّ البركة للعالمين، كما جاء في سورة الإسراء “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ“، وأكَّد عليه قوله تعالى في سورة الأنبياء “وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ” (سورة الإسراء: الآية 71).
أراد النبيُّ صموئيل، المذكور صفةً بلا اسم في سورة البقرة (آية 246)، توحيد صفِّ أسباط بني إسرائيل؛ فوجَّههم إلى الوحدة لملاقاة الفلسطينيين “وَكَانَ كَلاَمُ صَمُوئِيلَ إِلَى جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ. وَخَرَجَ إِسْرَائِيلُ لِلِقَاءِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ لِلْحَرْبِ، وَنَزَلُوا عِنْدَ حَجَرِ الْمَعُونَةِ، وَأَمَّا الْفِلِسْطِينِيُّونَ فَنَزَلُوا فِي أَفِيقَ. وَاصْطَفَّ الْفِلِسْطِينِيُّونَ لِلِقَاءِ إِسْرَائِيلَ، وَاشْتَبَكَتِ الْحَرْبُ فَانْكَسَرَ إِسْرَائِيلُ أَمَامَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ… زَالَ الْمَجْدُ مِنْ إِسْرَائِيلَ لأَنَّ تَابُوتَ اللهِ قَدْ أُخِذَ” (سفر صموئيل 1: إصحاح 4، آيات 1-2 و22). أيقن بنو إسرائيل أنَّ شركهم بالرَّب هو سبب هزيمتهم، فتخلُّوا عن الثُّنائي الإلهي البابلي، وعادوا للتوحيد “فَنَزَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَعْلِيمَ وَالْعَشْتَارُوثَ وَعَبَدُوا الرَّبَّ وَحْدَهُ” (سفر صموئيل الأوَّل: إصحاح 7، آية 4). واتِّفاقًا مع الرواية القرآنيَّة، الربُّ أمر صموئيل باختيار مَلك لتوحيد بني إسرائيل تحت راية واحدة، بناءً على طلبهم “فَقَالَ الرَّبُّ لِصَمُوئِيلَ: «اسْمَعْ لِصَوْتِهِمْ وَمَلِّكْ عَلَيْهِمْ مَلِكًا». فَقَالَ صَمُوئِيلُ لِرِجَالِ إِسْرَائِيلَ: «اذْهَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ»”. كان النبي صموئيل بذلك هو أوَّل من أرسى فكرة مملكة إسرائيل، وقد اختار شاؤول في التوراة لتولِّي الحُكم، على غير رضا بني إسرائيل؛ فقد كان من سبط بنيامين، وهو سبط ضعيف نسبيًّا “فَلَمَّا رَأَى صَمُوئِيلُ شَاوُلَ أَجَابَهُ الرَّبُّ: «هُوَ ذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَلَّمْتُكَ عَنْهُ. هذَا يَضْبِطُ شَعْبِي»” (سفر صموئيل الأوَّل: إصحاح 9، آية 17). وامتثل بنو إسرائيل لأمر الرَّبِّ، ورضوا بشاؤول ملكًا “فَقَالَ صَمُوئِيلُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: «أَرَأَيْتُمُ الَّذِي اخْتَارَهُ الرَّبُّ، أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي جَمِيعِ الشَّعْبِ؟» فَهَتَفَ كُلُّ الشَّعْبِ وَقَالُوا: «لِيَحْيَ الْمَلِكُ!»” (سفر صموئيل الأوَّل: إصحاح 10، آية 24). أمَّا الرواية القرآنيَّة في سورة البقرة، فتقول “وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” (سورة البقرة: الآية 247).
انتصر بنو إسرائيل على الفلسطينيين، ودخلوا القدس بعد أن قتل نبيُّ الله داود جالوت، أو جليات، وهذا ما ترويه سورة البقرة “وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ” (سورة البقرة: آيتان 250-251). وبرغم الانتصار، فقد كانت الملكيَّة الإسرائيليَّة الأولى فشلًا ذريعًا، حيث كان شاؤول شديد الشك والغيرة، وإن كان شهمًا ومُهابًا. مع ذلك، كان ضعيف الإرادة وحاد الطباع. على أي حال، فقد كانت مملكة شاؤول هي أول دولة وحَّدت بني إسرائيل تحت لواء واحد، وأصبح تاريخ تلك الأمة يبدأ بشاؤول. وتعتبر صورة نبيِّ الله داود في التوراة أكثر صورة تجمع بين نقيضين على الإطلاق، فهو تارة مقاتل الفلسطينيين الشجاع، وتارة معاونهم ضد اليهود؛ هو أيضًا الفارس المغوار، وفي الوقت نفسه المغني وعازف القيثار في بلاط شاؤول.
داود في سفري صموئيل كذلك عاشق للنساء وميال لخطفهن من أزواجهن بالقوة، ومن هؤلاء بتشبع، أم نبي الله سليمان، التي يدَّعي العهد القديم أنَّه زنا بها وأنَّ النبيَّ هو ثمرة السفاح، بل وأراد أنَّ يظنَّ الناس أنَّ الجنين ابن أوريا، زوج بثشبع، وكل ذلك ينفيه القرآن جملةً وتفصيلًا. تذكر الرواية التوراتيَّة قصَّة داود وبثشبع، امرأة أوريا الحثِّي، أنَّ داود أُعجب بها، وطلبها لفراشه، ثمَّ حملت في طفل منه “أَرْسَلَ دَاوُدُ وَسَأَلَ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ وَاحِدٌ: «أَلَيْسَتْ هذِهِ بَثْشَبَعَ بِنْتَ أَلِيعَامَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ؟». فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلًا وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا. وَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ، فَأَرْسَلَتْ وَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ وَقَالَتْ: «إِنِّي حُبْلَى»” (سفر صموئيل الثَّاني: إصحاح 11، آيات 3-5). ما كان من داود لكَّا عرف بحمل بثشبع إلَّا أن أمر بقل زوجها، غدرًا بطعنه في ظهره وهو في مقدِّمة الصفوف في معركة إسرائيل مع الفلسطينيين “وَفِي الصَّبَاحِ كَتَبَ دَاوُدُ مَكْتُوبًا إِلَى يُوآبَ وَأَرْسَلَهُ بِيَدِ أُورِيَّا. وَكَتَبَ فِي الْمَكْتُوبِ يَقُولُ: «اجْعَلُوا أُورِيَّا فِي وَجْهِ الْحَرْبِ الشَّدِيدَةِ، وَارْجِعُوا مِنْ وَرَائِهِ فَيُضْرَبَ وَيَمُوتَ» …فَخَرَجَ رِجَالُ الْمَدِينَةِ وَحَارَبُوا يُوآبَ، فَسَقَطَ بَعْضُ الشَّعْبِ مِنْ عَبِيدِ دَاوُدَ، وَمَاتَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ أَيْضًا” (سفر صموئيل الثَّاني: إصحاح 11، آيات 14-17).
أمَّا بخصوص ما جاء في سورة ص، واعتُبر ردًّا من الله لهذه الرواية “إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ. قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ” (سورة ص: آيتان 23-24)، فقد أشار علماء التفسير إلى عدم وجود صلة بين هاتين الآيتين وقصَّة أوريا مع داود، حيث تتضمَّن بعض التفاسير أنَّ داود طلَّق بثشبع من زوجها لمَّا رأى حُسنها، برغم أنَّه كان له وقتها تسع وتسعون امرأة. وقد فُسِّرت الآيتان (23-24) في سورة ص بأنَّهما عتاب من الله تعالى لنبيِّه داود لاعتزاله النَّاس وتفرُّغه في المحراب للتعبُّد، ويثبت ذلك دخول الرَّجلين خلسة إليه من فوق السُّور “وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ” (سورة ص: آيتان 21-22). عاتب الله داود على اعتزاله النَّاس في خلوته، آمرًا إيَّاه بالحُكم بين المتخاصمين بالحقِّ والابتعاد عن حُكم الهوى “يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ” (سورة ص: آية 26). يذكِّرنا الله تعالى بأنَّ من استُخلف في الأرض وحُمِّل الأمانة، عليه الحُكم بالحقِّ، دون اتِّباع الأهواء؛ لأنَّ في اتِّباع الأهواء إصابة لمنفعة آنيَّة وخسران لفضل الله في الآخرة.
ترد في سفر صموئيل الثَّاني نبوءة ميلاد المُخلِّص من نسل داود، لتبدأ العقيدة في الترسُّخ في الذهنيَّة الإسرائيليَّة منذ ذلك الحين، بالطبع وفق الرواية التوراتيَّة، “مَتَى كَمُلَتْ أَيَّامُكَ وَاضْطَجَعْتَ مَعَ آبَائِكَ، أُقِيمُ بَعْدَكَ نَسْلَكَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ وَأُثَبِّتُ مَمْلَكَتَهُ. هُوَ يَبْنِي بَيْتًا لاسْمِي، وَأَنَا أُثَبِّتُ كُرْسِيَّ مَمْلَكَتِهِ إِلَى الأَبَدِ. أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا. إِنْ تَعَوَّجَ أُؤَدِّبْهُ بِقَضِيبِ النَّاسِ وَبِضَرَبَاتِ بَنِي آدَمَ” (سفر صموئيل الثَّاني: إصحاح 7، آيات 12-14). نلاحظ من قول الربِّ “أُثَبِّتُ كُرْسِيَّ مَمْلَكَتِهِ إِلَى الأَبَدِ” وعدًا بمُلك أبدي لهذا المُخلِّص، وهذا لم يحدث أبدًا، سواء بسبب مرحلة السَّبي البابلي ووقوع دولة بني إسرائيل تحت السَّيطرة البابليَّة، ثمَّ الفارسيَّة، بعد العودة من السَّبي، ثم الإغريقيَّة، ثمَّ الرومانيَّة، إلى أن تأسست دولة يهودا المكابي في القرن الثاني قبل الميلاد، ثمَّ دُمِّرت على يد الرُّومان عام 70 ميلاديًّا. ونلاحظ كذلك اعتبار الربِّ المُخلِّص ابنًا له “أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا“، على أساس حلول رُوح القُدُس عليه، وهذا ما ينفه قول الله في سورة التوبة، موضحًا أنَّ هذا الزَّعم ببنوَّة البشر له انتشر لدى الأمم الوثنيَّة من قبل “وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” (سورة التوبة: آيتان 30-31).
(المصدر: رسالة بوست)