بناء الحارس قبل السور
بقلم د. سلمان السعودي (خاص بالمنتدى)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين … وبعد.
من قرأ تاريخ الصين فمن المؤكد أنه مر على سورها العظيم، والذي يعد من عجائب الدنيا السبع.
فقدماء الصينيين قد بنوا سورا عظيما مرتفعا حول المدينة لحمايتها من الغزاة، ولا يستطيع أحد من تسلقه، ليعيشون في أمن وأمان، وسلامة من الغزو وأخطاره، ولكن الأعجب من هذا السور أن الصين قد تم غزوها ثلاث مرات مع وجود هذا السور.
يا ترى كيف تم غزوها ثلاث مرات رغم سورها العظيم الذي لا يستطيع أن يتسلقه أحد ؟!!!
المسألة كانت سهلة جدا، فالغزات لم يفكروا في السور واقتحامه، أو هدمه، أو إحداث خرق فيه!!!
بل فكر الغزاة في الحراس الذين يحرسون بوابات السور، واستطاع الغزاة أن يشتروا الحراس، فكان من السهل غزو المدينة رغم سورها العظيم.
فالصينيون اهتموا كل الاهتمام ببناء السور، وأهملوا بناء الحارس ولهذا فشلوا في حماية المدينة.
فبناء الإنسان يأتي قبل بناء أي شيء، لأن الإنسان هو الحارس، والسور، والقلعة التي تحمي الوطن ومقدراته، كما أنه يحمي الفكرة، والدين والمنهج.
ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم في أول دعوته بالإنسان وهذا هو المنهج الرباني لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينطق عن الهوا قال تعالى: “وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ” فمكث النبي صلى الله عليه وسلم بإذن من ربه ثلاث عشرة سنة وهو يربي الإنسان على العقيدة السليمة والعزيمة الراسخة، والإرادة القوية، فبنى الساجد قبل أن يبني المساجد، ولهذا عندما حزم الأمر، كان صحابته صلى الله عليه وسلم فرسان في النهار، رهبان في الليل، لا يصدهم عن الحق شيء، ولا يثنيهم عن الجهاد في سبيل الله متاع، ولم يكن هذا منهم لولا وجود القائد القدوة، الذي لم يؤثر نفسه على أحد من أمته، ولم يكن يتأخر عن الفعل قبل أن يأمرهم به، فرباهم بالقدوة ثم الكلمة، وكان بين هذا وهذا الحب والود، والعطف، وخفض الجناح، كيف لا وقد رباه ربه فأحسن تربيته فقال عنه: ” وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ” وأمره أن يخفض جناحه للمؤمنين فقال: ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ” وأمره أن ينذر عشيرته ويرشدهم للخير فقال: ” وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ” كما أنه صلى الله عليه وسلم علمهم العقيدة الراسخة وإنكار الذات من أجلها فقال صلى الله عليه وسلم موجها أصحابه والأمة من بعدهم: ” لا يُؤمِنُ أحدُكُم حتى يكونَ اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سِواهُما ” وذلك انطلاقه من قوله تعالى: ” قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ “.
ثم علمهم صلى الله عليه وسلم عقيدة الدفاع عن الحق والتضحية من أجله وإن أدى ذلك إلى القتل، فقال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ . ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ . ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ ”
انطلاقه من قوله تعالى: ” كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ” وقوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ “.
ثم علمهم صلى الله عليه وسلم على الوحدة والتناصر والفداء فقال صلى الله عليه وسلم: “المُؤْمِنَ للمؤمنِ كالبُنْيانِ يشدُّ بَعضُهُ بعضًا ” انطلاقه من قوله تعالى: ” وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا “.
وقد رباهم على عدم الغدر والخيانة والكراهية والحسد، فقال صلى الله عليه وسلم: ” لا تَحاسَدُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَناجَشُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا ”
كما رباهم على نصرة بعضهم بعضا وعدم الخذلان كحراس سور الصين، فقال صلى الله عليه وسلم: ” انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، هذا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكيفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ “.
بمثل هذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني جيلا فريدا قويا في إيمانه وعقيدته وعزيمته مخلصا في عمله وقوله، يفتدي دينه ووطنه وأمته بروحه ودمه وماله.
النبي صلى الله عليه وسلم ربى الحارس على عقيدة الفداء بكل ما يملك من أجل دينه ووطنه، جعل منه حارسا يحمي الثغر من اي غزو وأن يستبسل بروحه ودمه وماله في سبيل حماية حدود الدين والدولة، حتى لا يؤتى الدين من قبله، ولا يغره في ذلك كل زينة الدنيا ومتاعها، ولنا في الصحابة خير مثال.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان الفدائي الأول في الإسلام، ضحى بنفسه ونام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة وهو يعلم أن قريشا ستجتمع لقتل النبي صلى الله عليه وسلم في فراشه.
وصهيب الرومي رضي الله عنه خيرة الشباب، ضحي بكل ما يملك من أجل دينه وحماية عقيدته.
وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، كان من أغنى قريش وكبار التجار، يملك مالا وعقارات وتجارة، وفي مفهوم العصر مليونير، ضحى بكل هذا من أجل دينه وعقيدته، والأمثلة في ذلك تطول.ولقد زكاهم الله تعالى فقال: ” رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ”
فمن أراد أن يبني الدولة بناء سليما وقويا، فعليه أن يبني الحارس أولا، لأنه هو اللبنة الأولى والأهم في عماد هذه الدولة، فقوة الدولة من قوة رجالها، وضعفها وانهيار من ضعفهم.
يقول أحد المستشرقين: إذا أردت أن تهدم حضارة أمة وتجعلها تحت نفوذك فعليك بثلاث وسائل.
الوسيلة الأولى: هدم الأسرة، وإذا أردت أن تهدم الأسرة فعليك أن تغيب دور الأم، وتجعلها تخجل من وصفها ربة بيت.
الوسيلة الثانية: هدم التعليم، وإذا أردت أن تهدم التعليم فغيب أهمية المعلم.
الوسيلة الثالثة: إسقاط القدوة والمرجعية: وإذا أردت أن تسقطهم فعليك أن تطعن فيهم حتى تفقد الثقة بينهم وبين الناس.
وهذا ما فعله الاستعمار في الشرق الأوسط بالغزو الفكري، واستطاع أن يجعل من الوطن العربي عبارة عن كانتونات يتحكم بها الغرب الكافر.
وبفضل الله تعالى ومع الصحوة الإسلامية في أواخر السبعينات وأوئل الثمانينات كان هناك جيل مثقف وواعي، وقف على أسباب ضعف الأمة الإسلامية وهزيمتها، واستوعب فكرة بناء جيل فريد قوي بعقيدته وإيمانه، مرتبط بربه ودينه، ثائر لوطنه المسلوب، وقدسه واقصاه المغتصب، فبدأ ببناء الأجيال على التكاملية بين التربية والإعداد، زاوج بين البندقية والقرآن، حتى عاد للمسجد دوره المميز، وأصبحت أفواج الشباب والصبايا تسرد القرآن الكريم كاملا غيبا على جلسة واحدة، بالتجويد والاتقان، هذا إلى جانب الدورات الشرعية في جميع مجالاتها، من فقه، وسيرة، وعقيدة، وتفسير، وثقافة إسلامية.
كل هذا من أجل بناء الحارس اليقظ، القوي في عقيدته وعزيمته وإرادته، المضحي بروحه ودمه وماله لحماية المشروع الإسلامي، وهذا هو سر صمود المقاومة أمام جحافل الأحزاب في معركة الإبادة في غزة.
وطوفان الأقصى هو موجة من أموج الاتسونامي الذي سيقتلع ما يسمى زورا بدولة إسرائيل من فلسطين بإذن الله تعالى، وتحقيق وعد الله تعالى: ” فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ”
وتصديق لقوله صلى الله عليه وسلم: ” لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس”.