مقالات مختارة

بناء التصورات على ضوء القرآن الكريم وأهميته في الإصلاح

بقلم د. محمد الأمين مقراوي الوغليسي

إن ابتعاد الكثير من النخب عن بناء التصورات من خلال الهدي القرآني أدى إلى الغفلة عن منهج قراءة الحياة وظواهرها ودوائرها وفق السنن الكونية، وسنن الله في الأنفس والأفاق، مع التلبس بمناهج قاصرة أو فاسدة، مبنية على قراءات تجزيئية للحياة وأحداثها، ما جعل الأمة تدور في حلقة مفرغة. ومن أمثلة سقوط الكثير من المسلمين في هذا المطب المنهجي الخطير: الخطأ في قراءة مسيرة الثورات العربية عند فئة كبيرة من المنظرين والكتاب، فقد ذهب بعض من خاض في الثورات العربية إلى ربط حتمية تحقق النتائج – وبسرعة ودون ضريبة – التي نادت بها الشعوب؛ بسبب الآلام والمآسي التي عاشها أهل الإسلام في العالم العربي، بينما ذهب البعض إلى ربط حاضر الثورات العربية بالتضحيات فقط، دون ربطها بالأهداف العظيمة التي قامت لأجلها، بل والتي مات لأجلها مئات الآلاف من أمة الإسلام – خاصة في سوريا بسبب المؤامرة الروسية الإيرانية الأمريكية – بينما راح الكثير من الذين تناولوا هذا الحدث التاريخي الحاسم يؤكدون فشله، بعدما رأوا ما حدث في بعض دول الربيع، وأغلبية النّقاد قد حمّلت هذا الحدث العالمي الكبير حملا لا يمكن أن يحمله في سنوات معدودة، بل إن نتائجه ستظهر بعد عقود من الزمن. وهذه الثورة الفرنسية التي يتغنى بها الكثيرون لم تؤت ثمارها إلا بعد مرور أكثر من قرنين من الزمن.

الثورات موجات تتوالى لا موجة واحدة:

إن تحريم الخمر على المسلمين قد خضع لمراحل معروفة، تناولها القرآن الكريم، وقد كانت الخمر التي هي أم الخبائث أحب الملذات إلى قلوب العرب في ذلك الوقت، فراعى القرآن الضعف البشري، الذي لا يمكنه التخلي عن تعلقه السحيق بشيء ما إلا عبر تهيئته نفسيا وعبر مراحل تحرق الولع بالمطلوب تركه شيئا فشيئا، وفق تدرج يراعي التراكمات السابقة ويبني عليها الأحكام، وإن استقراء تاريخ وحقيقة الثورات عبر التاريخ يكشف المعادلة التالي: الثورات عبارة عن موجات تراكمية متتابعة بطيئة الظهور والأثر بسبب التكدسات والتراكمات الضخمة التي لا يمكن أن تزول في يوم أو سنة أو عقد واحد، لكن تحقق النتائج وزوالها إذا استمر فعل التغيير وفق المنهج القرآني – ولو طال الزمن – أمر مؤكد في الأخير ووفق  فقه السنن الكونية أيضا، فلا يوجد ثورة عبر التاريخ قد حققت كل نتائجها من خلال موجة واحدة؛ لذلك يجب تقرير حقيقة هامة وهي: أن الثورات التي شهدها الوطن العربي هي عبارة عن موجات، كل موجة تهدف إلى إزالة عقبة من العقبات، وقد شهدنا الموجة الأولى، والتي أعقبتها انقلابات عسكرية وأخرى في زي مدني وثورات مضادة، وكلها تتفق والهدف الذي يصر عليه النظام العالمي وأزلامه: نشر اليأس وترسيخه لهزم الروح الثورية والمقاومة للمسلمين، عن طريق نشر مشاهد الدمار الهائل في سوريا مثلا، وترويج صورة سوداء لليبيا على سبيل المثال؛ ليصل إلى هدفه الأكبر وهو: الرضى بالواقع، وإبطال كل أشكال الإصلاح والتغيير والمقاومة.

هل تم رسم مسارات قطار الثورة بشكل صحيح؟

مع بداية ثورات الربيع العربي انطلقت الكثير من الحناجر والأقلام مبشرة بنهاية عصر الاستبداد، الذي استبدل هوية الأمة الإسلامية بهوية غربية، رأسها تحكيم قوانين وضعية مصادمة تماما لحقيقة المسلمين، خاصة أن صدى الثورة التونسية قد وجد رجيعه في دول عربية متنوعة، من ليبيا إلى مصر مرورا باليمن ووصولا إلى سوريا ثم العراق، ودفع مشهد إسقاط رموز الاستبداد العربي  – بتلك السرعة التي شاهدناها – الحماسة إلى حدها الأقصى، لكن الأمور لم تكن في الحقيقة بتلك البساطة التي تصورتها النخب العربية المحسوبة على الشعوب العربية، حيث سقطت في فخ التسرع ومد الجماهير بجرعات غير محدودة من الأمل، دون وعي ولا تبصر، ولا إلمام بفقه التغيرات الكبرى، ويرجع هذا إلى أمور كثيرة منها أن الكثير من النخب التي عول عليها المسلمون كانت قد غرقت في بحر التنظير الفلسفي والفكري وبعيدا عن جعل القرآن مركز التصورات، وصار بينها وبين الواقع بون شاسع ما جعلها لا تتنبأ أصلا بهذا الحدث وتفشل في قراءته واحتوائه وتوجيهه. لو رجعنا إلى القرآن الكريم لوجدنا أن الكثير من الآيات تتحدث عن الصبر والمصابرة، واعتبار الزمن، وأن ضريبة التغيير كبيرة، وأن الأذى لابد وأن يقع بأهل الحق المصلحين، ولا يوجد تغيير ناعم عبر التاريخ، وقد حكى القرآن الكريم الأذى الشديد الذي تعرّض له الأنبياء عليهم السّلام في تبليغهم دعوتهم إلى أقوامهم، وإن كان خيرة الخلق قد لاقوا في سبيل دعوتهم الكثير من العقبات  والشدائد فإن هذا يجب أن يُستحضر في كل مشاهد التغيير والإصلاح.

التاريخ والتغيير .. بين المشاهد الكبرى والصغرى:  

يحمل التاريخ بين طياته نوعان من التغيرات: صغرى وكبرى، وقد كان مشهد سقوط أصنام الاستبداد المشهد الأصغر للتغيير، وكان الأولى بالنخب والمفكرين أن يلحظوا ذلك جيدا، وأن يقولوا للجميع: أنّ ما رأيناه هو: المشهد الأول للثورة، وأنّ العرض الأكبر لم يبدأ بعد، أي صراع الشعوب مع فئات كثيرة ظلت تنتفع وتتغذى من الاستبداد، وأن زوال أصنام الظلم لا يعني زوالها؛ ولذلك سوف تقاوم بكل الطرق غير المشروعة، بعد بيعها لكل شيء ثمين داخل الوطن العربي والإسلامي، وهو ما حدث فعلا، حيث ظهرت الأيادي الآثمة بسرعة بعد أن نظمت صفوفها، وكشفت عن نفسها كردة فعل خياني كبير، لن يسكت على ما فقده من نفوذ وثروات، بل يود استرجاعها، مع إرجاع الشعوب المسلمة إلى ما قبل المربع الأول، أي إلى مرحلة الاستبداد الشمولي الذي كان في أشد صوره قبل الثورات ببضع سنين، والذي كان يستهدف كل شيء بلا هوادة ولا خوف، وهو ما تجسد في: مصر واليمن وسوريا وحتى العراق وتونس، وظلت ليبيا تقاوم تهديدا مباشرا، يستهدف إنهاء الثورة بصورة نهائية، أو تدمير البلد في حال فشل ذلك.

هل غالطنا الشعوب عندما أخطأنا التصور؟

يجب أن يطرح هذا السؤال على أهم الشخصيات التي تناولت نصرة ثورات العالم العربي بشكل حماسي عاطفي بحت، حتى نجد مكمن الخلل الذي أدى إلى غياب وتغييب التصورات الصحيحة المبنية على المنهج القرآني، ووفق فقه الأنفس، وفقه سنن التاريخ وسنن التغيير وفقه التراكمات الاجتماعية والإنسانية. صحيح أن الحماسة والعاطفة ظلت عبر التاريخ القوة الدافعة للثورات عند بدايتها فهذه الأخيرة تشبه الطائرة في إقلاعها والتي تحتاج إلى الصعود عموديا وبسرعة كبيرة، لكنها سرعان ما تستقيم أفقيا عند ارتفاع محدد وسرعة معينة، تراعي فيها أشياء كثيرة مثل: الوزن وقوة الرياح وكمية الوقود، وأي خلل في تقدير أمر من هذه الأمور قد يؤدي إلى نهاية مأساوية، كذلك الثورات تنطلق عموديا، ترفعها الحماسة والمشاعر المشتعلة؛ لأن أغلب من يقودها: جماهير متعطشة للتغيير لكنها محدودة في جانب التبصر التاريخي، وقاصرة عن النظر في مآلات الأمور، وهذا ما يجعل دور النّخب هاما وخطيرا، إذ عليها أن تحدد بدقة ووعي الفترة التي يجب عليها أن تجعل الثورات تسير بعقلانية، وتواصل المسير وفق مسار أفقي، يراعي التراكمات الثقيلة والسلبية والخطيرة، التي ورثتها عن عصر الاستبداد، انطلاقا من عدم تجاهل أي معلومة ترصد تحركات الصف الخياني والانقلابي المناهض لإرادة الشعب، وصولا إلى عدم التردد في الاستعانة بخليط من السياسيين الذين يملكون فكر وفقه الدولة وسيرة مقبولة، وغير ذلك من الإجراءات التي ليس هذا محل تفصيلها، ويجب التأكيد على أهمية عدم الاستخفاف وتجاهل أي معلومة تفيد بتحرك أعداء الشعوب، فإنذار مبكر خير من ألف مدد كما كان يقول خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهذا منهج قرآني ونبوي معروف. وهو ما غاب في بعض الدول العربية، فكان ثمن تغييب العقلانية والمسارات الأفقية معاناة ملايين الناس وانتشار اليأس.

نحو تصحيح المسار:

إن الابتعاد عن رسم التصورات من خلال القرآن الكريم، والسذاجة السياسية والفشل في إدراك أهمية إدارة العلاقات السياسية الداخلية والخارجية وفق فقه التراكمات، والعمى الإداري، والانتقال فجأة من المعارضة إلى الحكم، واعتقاد أنّ ما يملكه الفرد أو الجماعة من معرفة وكوادر يمكن أن يقصي عنصر الخبرة والسماع للآخر؛ كلها عوامل أدت مجتمعة إلى فشل الكثير من النخب والأحزاب السياسية في مرافقة التغيير والمحافظة عليه، بعد أن كانت الغلبة لتيارات المغالبة المطلقة، بدل تيار المحافظة على المكتسبات والمرونة والواقعية والدهاء، الذي لا يعني التنازل والتراجع بقدر ما يعني القدرة على المناورة والاستفادة من الجميع، وإبقاء جذوة الثورة متقدة في قلوب ونفوس الجماهير.

إن النقد البنّاء فريضة شرعية، وضرورة حضارية، تهدف إلى تلافي الأخطاء التي أثرت في مسيرة الإصلاح والتغيير، وتسعى لبناء عقلية فذة تُحسن السير، وتعتني بالمكتسبات، ولا يعني النّقد انتقاصا من أي تجربة بشرية يتناولها؛ ولذلك وجب على العاقل الفاحص الاستفادة من المراجعات والانتقادات، بدل الغرق في نظريات المؤامرة، وتحميل الخصم كل شيء، خاصةّ أن القرآن الكريم يركز على المسلمين والمصلحين، في حديثه عن الهزيمة والتعثر، ولا يركز على الأعداء، ومن قرأ وتدبر الآيات التي نزلت في شأن غزو أُحد تبيّن له ذلك، فإن كان القرآن قد قوّم تلك المحطة الهامّة في حياة أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم السّلام، فإنّ التقويم واجب أيضا في حقنا وفي حق تعاملاتنا مع الأحداث الكبرى التي دارت وتدور في ساحاتنا اليوم.

المصدر: الاسلام اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى