مقالاتمقالات المنتدى

بمَ تميّزت قصة كليم الله موسى (عليه السلام) في سورة القصص؟

بمَ تميّزت قصة كليم الله موسى (عليه السلام) في سورة القصص؟

 

 

بقلم د. عليّ محمد الصّلّابي (خاص بالمنتدى)

 

تُعد قصة نبيّ الله موسى عليه السلام الأكثر ذكراً في القرآن الكريم؛ حيث كرّرت القصة في مقابلته مع فرعون أكثر من عشرين مرة، وذكر اسم موسى في القرآن أكثر من مئة وثلاثين مرة. وجاءت قصة موسى عليه السلام مفصّلة في سورة القصص أكثر من غيرها، فهي تفصيل لما أوجز في الشعراء والنمل، حيث تعرضت لحلقات القصة المتعلقة بمولده، والتقاط آل فرعون له، ورضاعته وتربيته داخل بيت فرعون وتذبيحه بني إسرائيل وقتله القبطي خطأ، ثم فراره إلى مدين، فسقيه للمرأتين، فاتصاله بأبيهما، فزواجه من إحداهما ثم عودته ومناجاته لربه. (تصريف القول في القصص القرآني، محمَّد صافي المستغانمي، ص٢٤٣)

وتتسم قصة موسى عليه السلام في سورة القصص بسمات أهمها:

  • جاءت بأسلوب فيه إطناب وتفصيل في كثير من المواضع.
  • جاء فيها مشاهد لم تأت في غيرها مثل: الحديث عن مولده والتقاط آل فرعون له ورضاعته وفراره إلى مدين وسقيه المرأتين، واتصاله بأبيهما وزواجه بإحداهما ثم القفول إلى مصر من جديد.
  • السورة على الرغم من اسمها الدال على أكثر من قصة إلا أنها لم تعالج إلا قصة موسى عليه السلام، وكأن في ذلك إشارة إلى أن هذه القصة لما اشتملت عليه من دروس وعبر وما اشتملت عليه من مواقف، فإنها تستحق هذا الاسم الجامع “القصص”، ففيها عبرة القصص القرآني ودلالاتها جميعها، وسورة القصص تقدم قصة كليم الله عليه السلام في مسار واضح محدد فهي تتحدث عن بنية المجتمع، وكيف يمكن معالجة الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيه؟

وقد ورد في سورة القصص حديث عن معظم الشخصيات الأساسية التي كانت في القصة القرآنية عموماً، كما قدمت تصوراً واضحاً عن بنية هذا المجتمع وأطراف الصراع فيه. ففي الشخصيات تحدثت عن مواقفها، وعن خصائصها وعن دورها في سياق بناء المجتمع أو هدمه، وهذه الشخصيات هي:

  • موسى عليه السلام.
  • قارون.
  • السحرة.
  • الملأ.
  • أم موسى.
  • هارون عليه السلام.
  • الرجل الصالح.
  • البنتان.
  • امرأة فرعون.
  • أخت موسى.
  • فرعون.

وفي جانب المجتمع، قدمت سورة القصص ثلاثة أطراف رئيسة:

الأول: فرعون، والذي يمثل حقيقة نموذج الاستبداد؛ “فهو يشكل مؤسسة ومنهجاً للاستبداد”.

الثاني: الفئة المستضعفة، وتتشكل من بني إسرائيل وبقية الشعب المستضعف.

والثالث: الفئة المسؤولة عن الإصلاح والتوجيه والإرشاد الذي من هدفه وشأنه أن يمسّ بالفئتين السابقتين، وهذه الفئة يمثلها موسى وهارون عليهما السلام، والمصلحين معه كمؤمن آل فرعون.

وآيات السورة تحدد ذلك بوضوح تام؛ فهي تقدم لنا أولاً مؤسسة الاستبداد والظلم، حيث يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾]القصص:٤[، هذه هي الفئة المستقوية التي ظَلمت وبَطشت وتَعدت وأَفسدت ومارست التفريق والتقسيم بين أبناء المجتمع والبُعد الشخصي فيها واضح وبارز، لأن فرعون جعل الأمور كلها تدور في فلكه الشخصي، ومن هنا جاءت أوصافه كثيرة ومتعددة في القرآن بما يشير إلى طبيعة هذا المنهج وخطورته. وإليك سرد هذه الأوصاف التي تتصل بفرعون: (القصص القرآني أهدافه وخصائصه ومنهج الكتابة فيه، الدقور، ص١٦٩)

  • التألّه: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾]القصص:٣٨[.
  • الاستعلاء: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾]القصص:٤[.
  • الاستكبار: ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ﴾]القصص:٣٩[.
  • الظلم: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾]القصص:٤٠[.
  • الإفساد: ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾]القصص:٤[.
  • الخطأ والتجاوز والتعدي: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾]القصص:٨[.
  • الفسق: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾]القصص:٨[.
  • الغفلة: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾]القصص:٣٩[، وكذلك قال عنه في سورة غافر: ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾]غافر:٢٧[.
  • الاستخفاف: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ﴾]الزخرف:٥٤[.
  • التولي: ﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾]الذاريات:٣٩[.
  • الاستعباد: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾]الشعراء:٢٢[.
  • الاستقواء: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾]الزخرف:٥١[.
  • مسرف مرتاب: ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾]يونس:٨٣[، ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ﴾]غافر:٣٤[.

ولا شكّ أن هذه الأوصاف لما لها من خطورة وأثر في تكريس سلطة الظلم والاستبداد، فالقرآن يبصّرنا بمنهج التعامل معها، لذلك فقد ذكرت لنا هذه السورة الكريمة مكونات هذه الفئة المستبدة، وبيّن لنا مواقفها ومصيرها وتقوم هذه الفئة على السعي لتحقيق مشروعها من خلال تجميع جهود مكوناتها الأساسية، وتتشكل مكونات هذه المؤسسة المستبدة مما يلي:

  • الزعامة القيادية: فرعون.
  • الزعامة الاقتصادية: قارون.
  • الزعامة السياسية: هامان.
  • الدعامة العسكرية: الجند.
  • الدعامة الإعلامية: السحرة.
  • الدعامة الاستشارية: الملأ.

وفي مقابل هذه الفئة تقدم لنا السورة الفئة المستضعفة المكونة من بني إسرائيل وبقية الشعب الذي قسمته تلك الفئة المستبدة الظالمة لتجعله مشرذماً بشعاً وطوائف، وتوضح لنا السورة أن هذه الفئة فئة مستسلمة مستضعفة، لذلك فهي تحتاج إلى تقوية مسارها الاجتماعي وتفعيله وتحويله لتخرج من حالة الاسترقاق إلى حالة الحرية، ومن حالة الاستخفاف إلى حالة الاستثقال، وقد فصل لنا القرآن الكريم في حياة هذه الفئة وتحديداً في حالة بني إسرائيل حيث ذكر لنا مواقفهم وتطور حالهم وهو ما أخذ مساحة لا بأس بها من أحداث القصة عموماً.

وإذا كان رهان أصحاب المشروع الاستبدادي في بقاء تلك الفئة المستضعفة على حالها، فإن الرهان أيضاً عند الفئة المصلحة يتمثل في جانبين:

  • أن يُخرجوا هؤلاء المستضعفين عن حالهم إلى حالة الوعي والرشد والفاعلية.
  • كما أن واجبهم أيضاً منع استبداد أولئك وتعديهم وإفسادهم ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾]القصص:٥-٦[.

إن هذه الفئة المصلحة لها مشروعها الذي تمتلكه وتعمل لتحقيقه، فإن المشروع لا يواجه إلا بالمشروع، والمشروع في هذه القصة يمثل منهج الدعوة والإيمان، ومنهج بناء القيم الذي يقدم للإنسان -مستضعفاً أو مستقوياً- هوية جامعة تحقق له مساره الإيماني المبني على توحيد الله تعالى وتحقيقي العبودية له وحده.

وتقدم السورة الكريمة (سورة القصص) هذا المشروع في معالم محددة واضحة، فإذا كان مشروع فرعون يقوم على الاستبداد والظلم والاستقواء والفساد وتحقيق مصلحة الفئة الخاصة على حساب المجتمع، فإن هذا المشروع تتكامل مقوماته لتحقق الحرية للإنسان ليحقق عبوديته المطلقة التي تحرره أولاً من الخضوع لغير الله تعالى، ويقوم هذا المشروع على أسس رئيسة هي:

  • الارتباط بالله تعالى وإخلاص التوجه إليه فالله تعالى هو من يوقف أصحاب هذا المشروع ويرشد سعيهم فيمُن عليهم بذلك ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾]القصص:٥[.
  • وضوح هدف المشروع وقيمه، فهي ترتبط بتحقيق قيم الدين التي جاءت لتحرير الإنسانية فتربطها بالله تعالى، وهذا يؤكد قيام هذا المشروع على قيم الدين الحق الذي جاء به جميع الأنبياء ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾]القصص:٥[.
  • السعي نحو نتيجة جامعة لكل أبناء المجتمع الذين يتفاعلون مع هذا المشروع وينتمون إليه، فهم يسعون إلى تحقيق التمكين المجتمعي الذي يقوم على تلك القيم الواضحة المحددة النابعة من الإسلام، دين جميع الأنبياء ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾]القصص:٦[.
  • ضبط نقطة البداية وتوجيهها، فإن الفاعلية في العمل لهذا المشروع لا تتحقق بمجرد الأماني، ولا تتم في يوم وليلة، بل تحتاج إلى إعداد، وبناء مشروع جديد لمواجهتها ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾]القصص:٧[، فالإعداد يكون من المراحل الأولى في حياة الأجيال وبناء توجهها.
  • شمولية المشروع واستهدافه للجميع، بحيث لا يغيب عنه أي مكون من مكونات المجتمع حتى لو كان متعدياً متجاوزاً، فإن له فيه مكاناً، وإن عارضه أو رفضه فإنه يحكم على نفسه بالزوال والاندثار ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾]القصص:٦[.

إن أصحاب المشروع هم الذين يأخذون على عاتقهم الوقوف في كل ما يستهدف مجتمعهم، هم الذين يحرصون على المحافظة على سفينتهم وتوجيهها.

في ضوء ما تقدم يمكن أن نفهم أحداث هذه القصة وتفصيلات مواقفها، ويمكننا كذلك معرفة الجهود التي بذلها موسى وهارون (عليهما السلام) في سعيهم لتحفيز الفئة المستضعفة وتفعيل طاقاتها وتحويل مسارها نحو النصر والتمكين ومعرفة كل ما واجهه في سبيل ذلك. (القصص القرآني أهدافه وخصائصه ومنهج الكتابة فيه، الدقور، ص 171 – 172)

إن سورة القصص نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة، والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان، نزلت هذه السورة لتضع الموازين الحقيقة للقيم والقوى، نزلت تقرر أن هناك قوّة واحدة في هذا الوجود هي قوة الله تعالى، وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون هي قيمة الإيمان، فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه، ولو كان مجرداً من كل مظاهر القوة، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع القوى، ومن كانت له قيمة الإيمان فله الخير كله، ومن فقد هذه القيمة فليس بنافعه شيء أصلاً. (في ظلال القرآن، ٥/٢٢٦٧٤).

استفاد المقال مادته من كتاب: ” موسى – عليه السلام – كليم الله “، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • تصريف القول في القصص القرآني، محمَّد صافي المستغانمي.
  • القصص القرآني أهدافه وخصائصه ومنهج الكتابة فيه، الدقور.
  • في ظلال القرآن، سيد قطب.
  • موسى عليه السلام كليم الله عدو المستكبرين وقائد المستضعفين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى