اسم الكتاب: نظرات في فكر الإمام المودودي.
اسم المؤلف: د. يوسف القرضاوي.
عدد الصفحات: 120 صفحة.
الناشر: دار المقاصد، توزيع دار الروضة باسطنبول.
الطبعة الأولى. 1436 هـ – 2015م.
تقديم الكتاب –بقلم الشيخ د. وصفي عاشور أبو زيد:
رغم أن فضيلة الشيخ الإمام د. يوسف القرضاوي شارف التسعين من عمره، فإن قلمه ما يزال فياضًا، يكتب الجديد، وينتج المهم، ويضيف النافع للمكتبة العربية والإسلامية، ومن آخر ما نشر له مؤخرا كتاب: “نظرات في فكر الإمام المودودي”، الذي أودع فيه خلاصة آرائه عن الشيخ العلامة الإمام أبي الأعلى المودودي [(12 رجب 1321 هـ – 31 ذو القعدة 1399 هـ) – (25 أيلول 1903م – 22 أيلول 1979م]؛ حيث يمر على وفاته اليوم ستة وثلاثون عاما ميلاديا بالتمام والكمال.
ولا يرتاب مسلم دارس – كما يقول شيخنا الإمام يوسف القرضاوي في مقدمة كتابه – في إمامة المودودي وعبقريته، في فكره الإسلامي الرحب، الذي تناول فيه قضايا الإسلام، من تفسير ختم فيه القرآن الكريم، ومن دراسة للسنة، وردٍّ على الذين زعموا أنفسهم قرآنيين، بدعوى أنهم يهملون حديث رسول الله r، الذي روته الأمة وخدمته وأقامت لخدمته تسعين علما من علوم الحديث، وقامت مكتبة ضخمة لهذه العلوم، عكف عليها العلماء .. واشتغل الأستاذ المودودي بكلِّ القضايا التي تهمُّ الأمة المسلمة في كلِّ جوانب الحياة: حياة الفرد، وحياة الأسرة، وحياة المجتمع، وحياة الأمة، وحياة الدولة، والعلاقات بالعالم كلِّه، على اختلاف توجُّهاته.. فكتب في العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والتشريع، والاقتصاد، والسياسة، والتاريخ، وكلِّ شؤون الحياة، ونقد كلَّ المخالفين للرسالة الإسلامية، والحضارة الإسلامية، والشريعة الإسلامية، وفكره تقرؤه الأمة كلُّها من أقصاها إلى أدناها.
محتويات الكتاب .. نظرات تحليلية
جاء كتاب “نظرات في فكر الإمام المودودي” في ثلاثة محاور: الأول: المودودي المفكر، والثاني: المودودي مصلحا وداعية للتغيير، والثالث: المنتقدون لفكر المودودي وأصنافهم.
المودودي المفكر
ففي هذا المحور يؤكد المؤلف أنه ليس كل من ملك ناصية البيان، وأحسن التعبير عن الأفكار، وأجاد الخطابة باللسان محسوبا بالضرورة في عداد المفكرين، إنما المفكر مَن أوتي موهبة التأمُّل والتعمُّق، وكانت له رؤية خاصَّة، ورأي مستقلٌّ، وكذلك فإن المفكرين أنواع، فمنهم الإقليمي أو المحلي، والمفكر العالمي الإنساني، ومنهم المفكر الحر، الذي لا يتقيَّد بمبدأ موروث، ولا يلتزم بفكرة شائعة.
وقد كان الإمام المودودي مفكرًا إسلاميًّا عالميًّا فذا، قلَّما يتكرَّر مثله في الأمم؛ ولكي تظهر القيمة الفكرية لآثار المودودي استعرض المؤلف الحركة الفكرية في عصره، وتيارات التفكير التي صاحبت ظهور فكره على الساحة، وقسمها إلى سبعة تيارات، هي: الفكر التقليدي الذي يجمد أصحابه على القديم، والفكر الخرافي الذي يزعم أصحابه الانتماء للتصوف وهو منهم براء، والفكر الغربي الذي يمالئ أصحابه الحضارة الغربية ويتبعونها ويقبلون كل ما فيها، وقد أسماهم الشيخ “عبيد الفكر الغربي”، والفكر التبريري أو الانهزامي الذين يقعون فريسة للهزيمة النفسية أمام الانبهار بالحضارة الغربية وتفوقها ولهذا يبررون بعض الأوضاع والظواهر التي فرضتها تلك الحضارة، والفكر الدفاعي أو الاعتذاري، الذي يفترض أصحابه أن الإسلام في قفص اتهام وقد أقيمت ضده الدعاوى وهم يدافعون ويعتذرون للواجبات والمحرمات التي لا تعجب الفكر الغربي ولا يستسيغها العقل الغربي، وفكر منكري السنة، الذي يؤمن أصحابه أن القرآن يغني عن السنة متجاهلين أن القرآن لا يبين إلا بالسنة، والفكر القادياني، الذي اخترع أصحابه نبوة جديدة شرعت لهم إبطال الجهاد، وطاعة المستعمر الكافر! .. وفي هذا الجو المزدحم بالمتناقضات ، والذي لم يكد أحد ينجو من رذاذه أو دخانه، ظهر فكر المودودي وانتشرت آراؤه في الدين والحياة، وكان من خصائص هذا الفكر وتلك الآراء ثلاث خصائص، هي: الالتزام بالإسلام كل الإسلام، والمعاصرة، والمواجهة.
المودودي مصلحا وداعية للتغيير
وفي المحور الثاني من الكتاب يوضح المؤلف أن المودودي لم يكن مفكرا تنظيريًّا كما هو حال بعض المفكرين، وإنما كان المودودي “المفكِّر” هنا طبيبا نطاسيًّا لأمَّته، عرَف حقيقة دائها وجرثومته الأصلية، وحدَّدها في كلمة واحدة هي: الجاهلية، وبيَّن المودودي أن هناك صراعا تاريخيا دائما، كان – وسيظلُّ أبدا – بين الإسلام دين الأنبياء جميعا، أي الإسلام بمعناه العام، وبين الجاهلية بكلِّ معانيها، وأن مهمَّة المجدِّد الحقيقي: انتزاع القيادة من يد الجاهلية، فالجاهلية ليست مرحلة زمنية انتهت بظهور الإسلام، كما يظنُّ الكثيرون، بل هي أفكار ومشاعر وأوضاع ذات سمات معيَّنة، فإذا وُجدت وُجدت الجاهلية، ولو لبست أزهى الثياب.
ولم تكن الفكرة الإصلاحية عند المودودي فكرة جزئية ترقيعية، تُبقي الأوضاع الجاهلية المستوردة على ما هي عليه، مكتفية بإدخال تعديلات تخفِّف من غلوائها، وتقرِّبها من الإسلام، وتقف بالأمة المسلمة في منتصف الطريق .. لم يقبل المودودي الصلح مع الجاهلية، ولم يرضَ معها بأنصاف الحلول، أو اللقاء في منتصف الطريق، بل كانت فكرته تهدف إلى التغيير الكلِّي، التغيير من الجذور، أي تغيير الفلسفة والأفكار والقيم والمعايير، قبل تغيير القوانين واللوائح.
كما تميز فكره في هذا الجانب بأنه كان حركيًّا، فلقد كانت للمودودي بجوار رسالته الفكرية العظيمة رسالةٌ عمليَّة أخرى لا تقلُّ عظمة عن الأولى، وهي: أن يحوِّل فكره إلى حركة إيجابية بنَّاءة، تعمل على (تأليف الرجال) بعد تأليف (الكتب والرسائل)؛ ذلك أن الفكرة الصحيحة لا تفرض نفسها على الناس بمجرَّد صحَّتها، إنما تنتصر بمَن ينصرها من المؤمنين بها، العاملين لها، المجاهدين في سبيلها، ومن ثم أنشأ الجماعة الإسلامية التي أورد المؤلف من كلام المودودي شرح أصول دعوته وبيان أهدافها ومطالبها الأساسية التي تتلخص في ثلاثة، هي: التوحيد، والتزكية، والعمل على استعادة حكم الله في الأرض، كما طالب المودودي أعضاء جماعته بأن يتصفوا بعدد من الصفات، مثل: جهاد النفس، والهجرة إلى الله، ودعوة المجتمع إلى الله، وحسن العلاقة مع الله ووسائل ذلك ومقاييسه، وأطال المؤلف في نقل كلام المودودي هنا.
المنتقدون لفكر المودودي وأصنافهم
وفي المحور الثالث يتناول العلامة القرضاوي أصناف المنتقدين للمودودي بما هو رجل علم وفكر، ودعوة وجهاد، وحركة وإصلاح، ولم يرد في تاريخنا رجل بهذه الخصائص ولم يظهر له أعداء ومنتقدون، لا سيما في الظروف التي عاشها المودودي.
ومن الأصناف التي انتقدت المودودي: العلمانيون والماركسيون الذين أسماهم المؤلف “عبيد الفكر الغربي”، هؤلاء الذين لم يكرهوا دعوة المودودي فقط، وإنما يكرهون الإسلام ذاته، وخصومتهم معه خصومة جذرية؛ لأنهم لا يريدون أن تقوم للإسلام قائمة، ولا أن تحكم له دولة، ولا يسود له نظام.
ومن منتقدي المودودي “المتاجرون بالتصوف”، الذين أدخلوا على الإسلام ما ليس منه، فأفسدوا حقائقه، ولوَّثوا تعاليمه؛ أفسدوا توحيده بالشركيَّات، وعباداته بالمبتدعات، وأخلاقه بالمداهنات، وبعض هؤلاء الجهلة يفتقرون إلى أن يعلموا الإسلام من جديد، وبعضهم مرتزقة ليس لهم من التصوُّف إلا اسمه أو رسمه، ولقد كرهوا من المودودي أن يفضح زيفهم، ويكشف دجلهم، ويأخذ أتباعهم منهم، لينضمُّوا إلى الركب المستنير بعقل الإسلام، بدل القطيع المسوق بعصا الخرافة والتهويل.
ومن منتقدي المودودي من لم يفهمه، ولم يدرك أغواره، لاختلاف التكوين الثقافي، واختلاف الاهتمامات، وتوافر سوء الظنِّ، وعدم وجود الثقة من بعض العلماء المدرِّسين الكبار، الذين يعيشون في دائرة غير دائرته، وأفق غير أفقه، ولهموم غير همومه، ولا يواجهون من التيارات ما يواجهه، فهم يبحثون عن زلاَّته يضخِّمونها، ويؤاخذونه باللوازم ويحاسبونه عليها، ومنهم مَن ينتقده حسدًا وبغيًا، وهو شأن البشر بعضهم مع بعض، حتى وإن كانوا علماء، فليسوا ملائكة مطهَّرين، وهذا يحدث كثيرا من انفعال طارئ، وغضب عارض، فيفقد الإنسان اتزانه في الحكم.
وممن انتقدوه دعاة فضلاء ومفكرون كبار أمثال الإمام أبي الحسن الندوي، الذي انتقده في بعض الأفكار، والمفكر الكبير د. محمد عمارة الذي كان نقده له لاذعًا؛ حيث رآه غلا في وصف المجتمعات المعاصرة، والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية؛ حيث وصف كل هذا بالجاهلية!. وعقب المؤلف هنا على هذا الانتقاد بأن ضم كلام المودودي بعضه إلى بعض؛ ليوضح الصورة، ويكشف عن حقيقة رأيه.
كتابة القرضاوي عن المودودي وعن سيد قطب
والكتاب رغم قلة عدد صفحاته فإن شيخنا القرضاوي – وقد علَّمنا ألا نكون نُسخًا منه، وأن نمارس النقد البناء في حضرته تعليمًا وتربية – فإنه نقل فيه عن المودودي الصفحات الطوال، وبخاصة وهو يتحدث عن الجانب الحركي في فكر المودودي أورد نقولا استغرقت من ص 36-49، ثم من ص: 53-73، ثم في دفاعه عن المودودي أورد نقولا من ص: 96-105، والواقع أن هذه النقول كثيرة وطويلة، كما أنه في الفصل الأول الذي تحدث فيه عن المودودي مفكرا غلب على الكتابة الجانب الوصفي دون نقول ولو قصيرة تدلل على كلامه، فضلا عن عدم قوة الجانب التحليلي أيضا.
وأود هنا أن أتوقف عند فكرة جديرة بالتأمل والتوقف والنظر، وهي دفاعه عن المودودي ضد منتقديه، حتى من أعمدة المفكرين المسلمين، أمثال الندوي وعمارة .. اتبع شيخنا الإمام منهجه الذي عهدناه منه، وهو ضم كلام المؤلف بعضه إلى بعض، ورد جزئياته إلى كلياته، ومتشابهه إلى محكمه، وفروعه إلى أصوله، وقديمه إلى جديده، وهو منهج شرعي وفكري معتبر، وطريقة متبعة وأصيلة في مؤلفات شيخنا ومنهجه في التعامل مع النصوص الشرعية من قرآن وسنة، وكذلك في فهمه لأقوال العلماء واجتهاداتهم، وهو ما أكد عليه بالقول: “وإذا كنا نفعل ذلك في فَهمنا لكلام الله الحكيم، وفي فَهمنا للقرآن الكريم، فكيف لا نفعله في فَهمنا لكلام المخلوقين، وحكمنا لهم أو عليهم؟!”. ثم أورد نصوصا من كتب المودودي استغرقت عشر صفحات لينفي بها وصفه للمجتمعات والتاريخ والثقافة بالجاهلية بإطلاق، ويدلل بها على إيمان المودودي من كلامه بأن الإسلام انتشر في العالم، وأن عصور الملكية الإسلامية تمتعت بوجود حكام صالحين كثيرين، وإذا كانت الحاكمية لله وحده، وهذا حق وصدق، فإن المودودي يرى من حق البشر أن يقننوا الأحكام، ويجتهدوا للحياة الإسلامية، ويستخدموا في ذلك الاستنباط والقياس والاجتهاد، ثم قال الشيخ – وما أحسن ما قال -: “ويجب على الدراس المنصف هنا: أن يضمَّ كلام المودودي بعضه إلى بعض، ولا يكتفي بكتاب عن آخر، ولا بفترة عن أخرى، فربَّما صنَّف بعض الكتب والرسائل وهو في سنِّ الشباب الدافق المتحمِّس، قبل تقسيم الهند وظهور دولة باكستان الإسلامية، وقبل اكتمال نضجه وتجربته”.
والذي أود قوله هنا أن هذا المسلك لم يتخذه شيخنا القرضاوي في حديثه عن شهيد الإسلام سيد قطب، الذي تأثر في بعض ما كتب – كما قيل – ببعض أفكار المودودي، فقد وصف بعض كتاباته بأنها تكفر المجتمعات، وأنها تصفها بالجاهلية، وأن في كتابه الأشهر “الظلال” ما يخالف منهج أهل السنة والجماعة، ونقل نصوصا من كلامه ليدلل بها على هذا القول في مقالته الشهيرة التي أحدثت ضجة، واستدعت ردودًا مطولة ومتنوعة، وكتب هو بعد ذلك ردًّا على الردود مقالة بعنوان: “كلمة أخيرة حول سيد قطب”، ثم تحدث نفس الحديث على قنوات فضائية أخرى، من دون أن يرد كلام قطب بعضه لبعض، ويفهم جزئياته في ضوء كلياته، وفروعه تحت أصوله، لا سيما ولسيد قطب كلمات ونصوص واضحة تنفي هذا الفهم عنه، بل تناقض تماما هذا الاستنتاج، فكيف نضم كلام المودودي بعضه لبعض، ثم لا نقيم نفس المنهج مع أحد أعمدة الفكر الإسلامي في العصر الحديث؟!