مقالاتمقالات مختارة

بعد مذبحة نيوزيلندا.. كيف نفسر التعاطف الغربي مع المسلمين؟

بعد مذبحة نيوزيلندا.. كيف نفسر التعاطف الغربي مع المسلمين؟

بقلم د. ناصر الزيادات

في تسجيل متلفز، في أوائل ثمانينييات القرن المنصرم، وموثق على يوتيوب ظهرت رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك، مارغريت تشاتشر، أمام حشد من “المجاهدين” الأفغان وقالت لهم أنهم يدافعون عن العالم “الحر” وأن قلوب ذالك العالم الحر تقف مع “المجاهدين” في حربهم ضد السوفييت! في تلك الحقبة كان مصطلح الإرهاب حديث التدوال إبان عهد الرئيس الأمريكي ريغان. وكان ذلك المصطلح -ولا يزال- “مخيطاً” ليتوافق مع المقاييس الأمريكية لوسم كل من يتعارض ما مصالحها بـ”الإرهاب”.

لم يكن “المجاهدون” آنذاك “إرهابيين”، ببساطة، لأهم كانوا يتماشون مع مصالح أمريكا الرأسمالية خاصة والغرب عامة في محاربة المد الشيوعي. وكان “الجهاد” في أفغانستان مدعوماً معنوياً ومادياً من قبل العديد من الأنظمة العربية. لا زلت أذكر بيت من الشعر كان يردده أحد المشايخ المروجين للـ”جهاد” الأفغاني والمقربين من الأنظمة آنذاك: “الحق أبلج والسيوف عوار .. فحذار من صولات حكمتيار”. فما الذي بدل الحال وجعل “الجهاد” والإسلام إرهابيين؟ وما الذي جعل الأنظمة العربية تقفز إلى الطرف النقيض وتحارب “الإسلام” بدعاوى سخيفة؟ وما الذي جعل بعضاً من الشعوب الغربية تعتنق الإسلاموفوبيا؟ وما الذي بدل حال الأنظمة والإعلام الغربي ليتعاطف مع المسلمين بعد مذبحة نيوزيلندا الإرهابية؟

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في أوائل تسعينيات القرن المنصرم كان لا بد من خلق “بعبع” جديد للشعوب الرأسمالية الديموقراطية التي تدرك أنظمتها أن شعور الشعوب بعدم الأمان من متطلبات ديمومة تلك الأنظمة. فالأمن والأمان هو على سلم أولويات الطبيعة البشرية. في تلك الحقبة بدأت بوادر تشكيل تنظيم القاعدة في أفغانستان على أنقاض فصائل “المجاهدين”، ودخلت حركة طالبان الأفغانية من باكستان وبرعاية باكستناية -عندما نقول باكستنانية يجب أن نعلم أن باكستان جزء من تحالف استخباراتي فيه دول عربية وبرعاية أمريكية- لتحكم أفغانستان. أذكر أن المخابرات الأمريكية عرضت ذات مرة فيلم لأسامة بن لادن يتصيد الغزلان في أفغانستان مع أحد أمراء العرب، وقد كان بن لادن مطلوباً في تلك الأيام! اللافت أن تفجيرات “القاعدة” للسفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام كانت قد حصلت قبل لقاء ذلك الأمير ببن لادن! ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر.

المشكلة هنا أن الإعلام يؤرخ للإرهاب من بعد 11 سبتمبر ويتغاضى عن الأحداث التي قبلها والتي قد عرجت عليها آنفاً بشكل مقتضب. وما يهم هنا هو عدم انقطاع التسلسل التاريخي للأحداث التي تسارعت لتشهد الغزو الأمريكي للعراق، و”مقتل بن لادن” وبروز “داعش” على أنها قائد التطرف الإسلامي. لا يمكن لعاقل أن ينكر الدور السيء الذي لعبته “داعش” في تشويه صورة الإسلام والمسلمين، ولا يمكن لعاقل أن يتغافل عن ربط تحركات وتصرفات “داعش”على الأرض في تدمير الثورة السورية وخدمة نظام بشار الأسد، والإسهام في تدمير حواضر المدن العراقية مثلما حصل في الموصل. مما يثير السخرية أنه ومع ظهور مؤشرات انتهاء “داعش”، التي سمح لها أن “تبقى وتتمد”، بدأت أمريكا العميقة بتطوير فيلم جديد اسمه “حمزة بن لادن”، ربما نشهد فصوله خلال قادم الأيام حتى تستمر القصة، أو يتبدل الحال بـ”جهاد” جديد يخدم المصالح النيوليبرارلية الأمريكية ومصدري دولارها.

يعد اليمين الأمريكي المتصهين أبرز المستفيدين من ظاهرة الإسلامفوبيا (رهاب الإسلام). فهو يستخدمها في خطابه السياسي لتحقيق أهداف متعددة: أولها المحاربة الفعلية للإسلام الذي يشكل خطراً على وجود “إسرائيل”، وثانيها إضعاف أهل الإسلام لاسيما في الشرق الأوسط تمهيداً لمعركة “أرماجيدون” التي يؤمن بها اليمين المتصيهن والتي ظن بوش الإبن أنه قائدها عندما غزا العراق. وقد استطاع اليمين المتصهين أن يجذب الحركة الشعبوية لا سيما التي تؤمن بتميز “العرق الأبيض” ضمن حملات المعاداة للهجرة والمهاجرين مع التركيز على المهاجرين المسلمين كأولوية في العداء. هذا بعض مما كشف عنه بيان منفذ مذبحة المسدين في نيوزيلندا. لكن اليمين المتطرف أو المتصهين سيتم توقيفه أو محاربته إن لزم الأمر من قبل الدولة العميقة في أمريكا لا سيما الفيدرالي الأمريكي مصدر الدولار الذي يتحكم في اقتصاد العالم ويجعل أمريكا دولة عظمى.

لقد علمت الأنظمة الديكتوارية العربية أنها لن تستمر في حكمها إن احتكمت إلى شعوبها. فهي أنظمة مسقطة في أعين الناس ووجدانهم، أفسدت البلاد ونهبت خيراتها واحتكرت كل المنافع لصالح الطغمة الحاكمة. تلك الأنظة هي التي نشرت الفقر والجهل وضعف الأنظمة التعليمية والصحية والكبت وامتهان حقوق الإنسان. تلك الأنظمة التي تذهب طغمتها للعلاج في الخارج وترسل أبناءها للدراسة في الجامعات الغربية في الوقت الذي يفتقر فيه الإنسان العربي إلى أبسط حقوقه الإنسانية. تلك الأنظمة التي تستخدم الإسلام عبر مشايخ السلطة من أجل أن تثبت عروشها وتسحق وتقتل وتسجن كل من تسول له نفسه المطالبة بحقوقه. ولما جاء الربيع العربي اتجهت تلك الأنظمة للتحالف مع اليمين المتصهين من أجل ضمان بقائها في السلطة. لقد لعبت تلك الأنظمة على وتر تشويه الإسلام وتخويف الغرب منه كمقايضة رخيصة لتستمد بها مشروعيتها الديكتاتورية التي تسحق الشعوب. وما انقلاب السيسي إلا مشهد من تلك المشاهد التي تدل على ذلك التحالف. ولكن، هل سيتستمر تحالف الغرب العميق مع تلك الأنظمة أم أن “الإسلام” له استخدام آخر؟

يبدو أن عملية نيوزيلندا الإرهابية أدت إلى إدارك الخطر المحدق بالمجتمعات الغربية من اليمين الأبيض المتطرف. هذا اليمين ينبثق من منطلقات دينية حتى وإن لم تظهر صراحة في خطابه. فهم يرون أن مكان المرأة المناسب هو البيت، وأن حقوق الرجل مهضومة، وأن الملاهي الليلية عمل مشين إلى غيرها من الأفكار الدينية التي لطالما وصفها الغرب بالمتطرفة إن كانت لها علاقة بالمسلمين. أما الخطر الأكبر الذي يمثله اليمين المتطرف يتمثل في كونه شعبوي في طرحه وهو ما يؤثر بشكل كبير على الرأسمالية النيوليبرالية التي تخدم مصالح المتنفذين الاقتصاديين في العالم. فأتباع اليمين الأبيض المتطرف يرون أن الدولة يجب أن تعود مغلقة الحدود، وأن الدول يجب عليها أن تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع، وأن الدولة يجب أن تستعيد ممتلكاتتها من القطاع الخاص، وأن البنوك وشركات النفط والاتصالات والكيانات الضخمة يجب تفكيكها ، وأن الدولة يجب أن تكون ريعية.

لا تنحصر المعضلة التي تواجه النيوليبراليين الغربيين في خطر اليمين الأبيض المتطرف والأحزاب التي تركب موجته والتي تنامى صعودها منذ عقد من الزمان، ولكن هناك مارد الصين الذي بدأ يشكل تهديدات كبيرة للاقتصاد الأمريكي من خلال السعي لإسقاط الدولار حتى تسقط أمريكا تلقائياً. فكيف ستعمل الدول العميقة الأمريكية لحماية مصالح المستفيدين من استمرار النيوليبرالية؟ عند ربط ردة فعل الكثير من الإعلام الغربي (غير إعلام ميردوخ) المتعاطفة مع المسلمين بعد أحداث نيوزيلندا، وردة فعل الحكومات في استخدام تلك الحادثة كذريعة للبدء في محاصرة اليمين الأبيض المتطرف، لا يمكن لعاقل أن يتوقع أن الموضوع برمته تعاطف مع المسلمين، بل يمكن توقع الأسوأ من خلال البدء بالتمهيد لعلاقة طيبة مع المسلمين ثم استخدامهم لمواجهة الصين في حرب “جهادية” شبيهة بالجهاد الأفغاني. فمنذ فترة بدأت التقارير الإخبارية الغربية تتوافد عن المعسكرات “التأهيلية” التي تحتجز الصين فيها ملايين المسلمين من الإيغور، وبدأت منظمات حقوق الإنسان الدولية بإظهار سوء معاملة الصين لمواطنيها الإيغور، اللافت في أمر أن هذا متزامن مع بدء مفاوضات بين أمريكا وطالبان، ألد أعدائها بأفغانستان، تمهيداً لسحب قواتها من البلاد. فهل هذا يشي بمخطط مستقبلي لاستخدام أفغانستان كمنطلق لمرحلة “جهادية” مستقبلية.

تحتل أفغانستان موقعاً استراتيجياً قد يصيب طريق الحرير الجديد بقصبتيه بمقتل. هذا الطريق الذي تسعى من خلاله الصين إلى السيطرة على التجارة العالمية وجعل جل أجزاء العالم أسواقاً لمنتجاتها. ثم إن أفغانستان تشترك بحدود جغرافية مع الصين تبلغ حوالي ست وسبعين كيلومتراً. الأهم من ذلك كله، أن أفغانستان لا تزال تشتمل على كل المقومات التي من شأنها إعادة إنشاء القواعد “الجهادية” من جديد. أما من حيث التمويل، فالأنظمة العربية التي مولت “الجهاد” الأفغاني في السبينيات والثمانينيات من القرن المنصرم حتماً ستكون جاهزة لتمويل “جهاد” آخر طالما أنه يخدم مصالح أمريكا وحلفائها. وكأني أنظر إلى مشايخ السلطة يدعون “بحي على الجهاد” من على مآذن المساجد، وأرى آلاف المغرر بهم يلبون النداء، وأرى أحد رؤساء أمريكا يجتمع مع “المجاهدين” في كابل ليدعم جهادهم ضد الصين، وأرى حشد “المجاهدين” يكبرون ويهللون! كل هذا السيناريو قد يتم العمل به بعد أنهاء صفقة القرن التي يعتقد عرابوها أنها ستوجه “الجهاد” نحو شرق آسيا ووسطها.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى