بعد عامين من سقوط البشير… السودان إلى أين؟
منذ ما يقرب من عامين وبالتحديد في ديسمبر ٢٠١٨م انقدحت شرارة حَراك شعبي سوداني، اندلع إثر قيام حكومة الرئيس حينذاك عمر البشير بزيادة أسعار الخبز ثلاثة أضعاف سعره، كان ذلك السببَ المباشر لاندلاع انتفاضة وصفها البعض بأنها ثورة شعبية.
ولكن كانت هناك أسباب أخرى دفينة، وغضبٌ مكبوتٌ ظل يتراكم طوال الثلاثين عاماً التي حكم فيها الجيش السوداني بزعامة عمر البشير بعد انقلابه على حكم مدني منتخَب آنذاك.
وتصاعدت حدَّة مظاهرات عام 2018م منددة بانخفاض مستوى المعيشة وممارسات المجموعة الحاكمة، ثم قام المتظاهرون بالتصعيد ليبدؤوا اعتصاماً أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، وسرعان ما تطورت مطالبها إلى الإطاحة بالنظام الذي ما لبث أن انهار بعدها بعدة أشهر في أعقاب قيام كبار ضباط الجيش بانقلاب أطاح بحكم البشير.
وبعد مفاوضات شاقة أفرز الواقع الجديد تحالفاً يحكم فترة انتقالية لمدة محدودة بين قيادات الجيش ومجموعة من المدنيين المنتقاة من قبل الجيش أو التي فرضت عليه من جهات خارجية يغلب عليها الطابع اليساري سواء كانت شيوعية أم قومية، كما ضمت بعض الاتجاهات الليبرالية والقَبَلية وخَلَت تقريباً من أصحاب الاتجاهات الإسلامية.
الآن بعد مرور تلك المدة على الانتفاضة، هل نجحت بالفعل في تحقيق أهدافها بإقامة سودان جديد قائم على العدالة والحرية ورفاهية المواطنين وهي الشعارات التي تم رفعها في تلك المظاهرات؟
للإجابة عن هذا السؤال يلزمنا تحليل دقيق لفترة حكم البشير وما أسفر عنه هذا الحكم، وبعدها نتتبع مكونات الحكم الانتقالي الجديد والتفاعلات داخله، وفي النهاية نجري تقويماً لفترة الحكم الانتقالي من إيجابيات وسلبيات.
ثلاثون عاماً في الحكم… ماذا فعل البشير في السودان؟
في عام 1989م قام العميد وقتها عمر البشير بانقلاب عسكري، وكان على رأس الحكم في تلك المرحلة حكومة الصادق المهدي الضعيفة، فقد توالت انتصارات الحركة الشعبية لجنوب السودان بزعامة جون قرنق مستغلة جو الفوضى السائد في الخرطوم حتى أصبح الجنوب بأكمله على وشك السقوط في أيديها.
في البداية كانت آليـة عمل النظام تسيِّرها عناصر الجبهة القومية الإسلامية بزعامة حسن الترابي من وراء الستار، بينما بقيت مجموعة الضباط التي قامت بالانقلاب مجرد واجهة فقط أمام العالم الخارجي. وكان من الطبيعي أن يبدأ هؤلاء الضباط في التململ من ذلك الوضع حينما أخذت خبراتهم تتراكم في العمل السياسي، في حين اشتد الحصار على النظام الحاكم من قِبَل المعارضة المدعومة من الخارج وبالذات المجموعات المعارضة التي تبنَّت العمل المسلح وتأزمت العلاقة مع مصر، كل ذلك بينما الأداء السياسي كان سيئاً للمجموعة الحاكمة؛ بسبب ظهور التناقض والقرارات المتضاربة في العلن بين التنظيم الحاكم من وراء الستار ومجموعة الواجهة؛ وهو ما حدا بالترابي إلى أن يتخذ قراراً بالظهور علانية هو وأفراد تنظيمه واشتراكهم في الحكم تحت مسمى حزب المؤتمر الوطني وقانون التوالي، وعبر هذا الحزب وتشكيلاته أراد الترابي أن يظل ممسكاً بدفة الحكم في السودان متحكماً في توجيهه واستئثاره بصنع القرار، ولكن وربما للمرة الأولى يظهر عجز الترابي عن مسايرة الواقع وعن فهم متغيراته، وهو الذي اشتُهر عنه سبقه للأحداث، وواصل تحديه للمجموعة المناوئة لزعامته التي اضطرت إلى إبعاده من منظومة الحكم.
تركزت إستراتيجية النظام الجديد في البداية وقبل التخلص من الترابي على إضفاء الطابع الإسلامي للنظام وبالتحديد في السنوات العشر الأولى من حكمه، التي كان فيها الترابي وجماعته الأكثر تأثيراً في النظام، مع إحاطة نفسه بالمجموعات الإسلامية لكي يقاوم السودان محاولات تفتيته، ولكي يوقف المد القادم من الجنوب بزعامة جون قرنق النصراني المتعصب والمتحالف مع المجموعات العلمانية السودانية، وسمح النظام لدعوات الجهاد بالانتشار بين الشباب لكي يشكل منها مجموعات قتالية تساند الجيش في قتاله ضد المتمردين الجنوبيين، كما أخذ في أسلمة بعض القوانين السودانية ومحاولة تطبيق بعضها في المجتمع السوداني حتى وصل الأمر إلى ذروته في عام 1998م حين صدر الدستور السوداني الذي كان يعبِّر بدرجة كبيرة عن هذه الأسلمة؛ عندما نص في بنوده على أن «الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاءً ودستوراً وعرفاً هي مصادر التشريع ولا يجوز التشريع تجاوزاً لتلك الأصول»، كما يشير الدستور ذاته إلى مفاهيم إسلامية أخرى كالجهاد والزكاة… كان الأمر برمَّته أشبه بالأسلمة الباكستانية التي جرت في عهد الرئيس الباكستاني الأسبق الجنرال ضياء الحق في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، والتي تدور حول إعادة الإسلام إلى الواجهة السياسية كمشروع يمنع تفتت البلاد إزاء المشاريع القبلية أو القومية أو الانفصالية على وجه العموم، بصرف النظر عن مدى حضور الإسلام على المستوى الشخصي والحياتي للقائمين عليه.
ولكن هذه العشرية انتهت بدخول السودان في حالة حصار من الدول المجاورة ومن المجتمع الدولي والإقليمي، وكان عنوان الحصار هو وَقْف أسلمة السودان وارتباطه بتيارات إسلامية، وكان أشد تداعيات هذا الحصار ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في صيف عام 1993م، حين فوجئ السودانيون بوضع بلادهم ضمن القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، بدعوى أن نظام السودان، «وفَّر ملاذاً لتنظيمات نفذت عمليات إرهابية» في تسعينيات القرن الماضي.
ولمدة ثلاثة عقود عانى السودان من تبعات القرار الأمريكي، بعد أن خضع لعقوبات اقتصـادية صارمة أنهكته بالفعل نتيجة تقييد التجارة الخارجية سواء التصدير أم الاستيراد وتعاملات النظام مع بنوك العالم، وعانى السودان من تداعيات اقتصادية خطيرة.
وعلى الصعيد السياسي، كان الوضع مهيَّأً لزحف عسكري من تحالف المعارضة مدعوم بجيوش دول الجوار (إثيوبيا وإريتريا وأوغندا) وخاصة بعد أن أصبحت مصر على الحياد بعد المحاولة التي لم تنجح لاغتيال الرئيس حسني مبارك في إثيوبيا، وبدا النظام السوداني شبه معزول.
من هنا جاءت المرحلة الثانية من عمر نظام البشير بإستراتيجية جديدة، تقوم على وقْفٍ تدريجيٍّ للأسلمة العلنية، وإظهار النظام بمظهر الراغب في إيجاد الحلول والتوافق مع الآخرين، فبدأ النظام تنفيذ إستراتيجيته الجديدة عام 1999م بإزاحة حسن الترابي وفريقه المدني من المشاركة في الحكم وهم المحسوبون تاريخياً على الحركة الإسلامية، ولم يجد البشير صعوبة في إزاحته من القيادة والحدِّ من نفوذه ووضع الإطار المناسب لدوره الذي لا يتعداه في المستقبل.
ثم كانت الخطوة الثانية بتغيير دستور عام 1998م واستُبدل به دستور عام 2005م الذي بدا أقل تمسكاً بالشريعة من سابقه بالرغم من أنه ميزال متمسكاً بوجود نصٍّ واضح على كون «الشريعة الإسلامية والإجماع مصدراً للتشريعات».
ولكن هذا التوافق ومحاولة الظهور بمظهر التخفيف من حدَّة الأسلمة لم تقنع الغرب وأعداء النظام، وما لبثت أن تم فتح جبهة جديدة لاستنزاف النظام، الذي شن هجمات ضد الجماعات الانفصالية المسلحة في إقليم دارفور، وأعقبها طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية توقيف الرئيس السوداني عمر البشير لاتهامه بالتورط في أعمال إبادة جماعية مزعومة في دارفور، وانتهت تلك المرحلة بموافقة النظام السوداني على التخلي عن جنوب السودان وانفصاله.
لقد بدت إستراتيجية النظام التي تقوم على مبدأَي التخلي الجزئي عن الأسلمة، والتوافق مع المعارضة غير مقنعة لأعداء النظام.
وجاءت المرحلة الثالثة والأخيرة في عمر النظام وكان سمتها الرئيسي البراغماتية الفجة؛ ولكن حتى هذه لم تفلح في بقاء النظام الذي في أصل نشأته ارتكز على ركيزتين: مقاومة الانفصال وبقاء السودان موحداً. ثم الركيزة الثانية: وهي المساندة من قبل الذين يعتبرون النظام أملاً في إقامة الإسلام وشرائعه.
وبدأ النظام يفقد هاتين الركيزتين:
فالجنوب انفصل وبدأ شبح الانفصال يهدد دارفور وشرق السودان، أما الذين يساندون النظام باعتباره أملاً لسيادة الشريعة وأحكام الإسلام، فقد أصابهم الإحباط من الفساد الذي بات يستشري في مؤسسات الحكم والجمود الذي سيطر على ممارساته، وأصبحت السمة الغالبة للنظام التدوير بين أشخاص ثابتين في وزارات الحكم؛ فوزير العدل بعد عدة سنوات يصير وزيراً للداخلية ثم ينتقل إلى وزارة الأوقاف ثم يعود مرة أخرى للعدل، فالنخبة الحاكمة تدور في فلك أشخاص قليلين ولا يتم التجديد فيها، فضلاً عن انتشار الفساد والرشى في أجهزة الحكم المختلفة.
ومما زاد من شعور الإحباط العام أن تلك الممارسات أصبحت محسوبة على تيار الساعين إلى أسلمة السودان، وصاروا في مأزق: فلا السودان صار إسلامياً والأنكى أنه بات نموذجاً فاشلاً محسوباً على تجارب الدول التي تسعى للأسلمة.
وبدلاً من أن يحاول النظام محاربة الفساد المتغلغل في أركانه وتجديد نخبته، اتجه لإنقاذ نفسه إلى مزيد من البراغماتية في تعاملاته مع الخارج لكي يتقوى به.
هذه البراغماتية لم تكن بعيدة عن فكر من قاموا بحركة الإنقاذ في السودان عام 1989م؛ فمجموعة الضباط الذين قاموا بهذه الحركة ينتمون في الأصل لمدرسة الترابي الفكرية وتربَّوا فيها، وبالرغم من انفصال هذه المجموعة عن الترابي تنظيمياً، لكن ظل فكر الترابي هو المسيطر عليهم … ويستمد الترابي أصولَه الفكرية من المدرسة العقلية في التعامل مع النصوص الشرعية التي باتت تعرَف بفقه المقاصد في العقدين الأخيرين، وتتلخص في توسيع دائرة المصالح والمقاصد على حساب قواعد الفقه والشرع بدعوى التجديد في الفقه والنظر إلى الواقع وتستخدم البراغماتية في تعاملاتها السياسية… ونتائج هذه المدرسة تجلَّت ذروتها في ذهاب البشير إلى دمشق ولقائه مع بشار الأسد الذي اشترك مع إيران وروسيا في ذبح الشعب السوري، ومن ثمراتها أيضاً تعاملات صلاح قوش رئيس المخابرات السابق مع جهاز المخابرات الإسرائيلي، وانتهى الحال بالنظام السوداني إلى أن يسوِّق نفسه ويحاول تمرير رسالة تؤكد أن نظام السودان يمكن أن يكون حليفاً قويّاً في الحرب ضد أسلمة المجتمعات ومن يسعون لذلك.
الحكم الانتقالي الجديد:
وجاء عام 2019م وكانت كل الدلائل تشير بوضوح إلى أن عمر البشير قد استنفد ما في جعبته لوقف النقمة الشعبية المتصاعدة التي أصبحت تطالب برحيله وإسقاط النظام برمَّته.
وبعد أربعة أشهر من المظاهرات والاحتجاجات المستمرة بلا انقطاع، وفي اليوم الحادي عشر من أبريل أعلن الجيش عزل البشير، وتكوين مجلس عسكري.
لحظة الانقلاب يحيطها غموض كبير؛ ففي البداية أعلن وزير الدفاع في نظام البشير الفريق عوض بن عوف الانقلاب وبدأ بيانه بحمد الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي أثناء ذلك كنت أتابع (كاتب المقال) قناة الجزيرة التي كانت تستضيف إحدى الليبراليات السودانيات لتعلِّق على الانقلاب، وبمجرد أن انتهى ابن عوف من إلقاء بيانه حتى عبَّرت الناشطة السودانية عن عدم رضاها عن البيان، وقالت: إن الحكم لم يتغير، وكان الانطباع حينها أنها قالت ذلك بناءً على أن مقدمة البيان فيها شَبَه من بيانات النظام السابق أي فيها السمت الإسلامي، ويبدو أن هذه كانت أيضاً وجهة نظر قيادات المنتفضين وبعض الدول الراغبة في إزاحة البشير الكارهين أصلاً للإسلام والراغبين بإزالة أي سمة إسلامية لنظام الحكم حتى وإن كانت مجرد شعارات، وهكذا صعد الفريق أول عبد الفتاح البرهان ليحل محله.
وبعدها نجحت الوساطة الإقليمية التي قادتها إثيوبيا والاتحاد الإفريقي بدعم المجتمع الدولي، إثر مفاوضات ماراثونية وضغوط مكثفة على المجلس العسكري والقوى التي ادَّعت تمثيل المتظاهرين، وهي تجمع المهنيين السودانيين الذي دخل في إطار عام تَسمَّى بقوى إعلان الحرية والتغيير… نجحت في التوقيع على اتفاق سياسي لتقاسم السلطة في 17 أغسطس، وينص الحل الوسط الذي تفاوض عليه الاتحاد الإفريقي، على إنشاء مجلس سيادي مكوَّن من خمسة مدنيين وخمسة عسكريين على أن ينتخب هؤلاء العضو الحادي عشر، ومن المفترض أن تستغرق الفترة الانتقالية مدة تزيد قليلاً عن ثلاث سنوات وبالتحديد 39 شهراً على أن تجري الانتخابات في نوفمبر 2022م.
كانت الجهة السياسية المدنية التي أبرم قادة الجيش معها الاتفاق منتقاة بعناية وتثور حولها تساؤلات مريبة: هل قادة الجيش هم الذين اختاروا تلك الجهة؟ أم تم فرضها من جانب دول إقليمية أو جارة أخرى؟
كما أن ثمة من رأى أنه كانت هناك ترتيبات خارجية لتغيير النظام، فثمة وثيقة من وثائق ويكيليكس نشرت عام 2008م أي قبل الانقلاب بنحو 11 عاماً، ورد فيها أن الولايات المتحدة الأمريكية ناقشت عام ٢٠٠٧م طرح وزير الدفاع في نظام البشير عوض بن عوف بديلاً للرئيس السوداني عمر البشير، ولكن الاعتراض حينها جاء من الحركة الشعبية لجنوب السودان بزعامة سلفاكير (قبل الانفصال)؛ لأنها اعتبرت بن عوف نسخة أصغر أكثر راديكالية من البشير، وقالت الوثيقة: إن دوائر في حزب المؤتمر الوطني الحاكم سعت إلى إيجاد حلٍّ يجري بموجبه إزاحة بسيطة وسريعة لرأس النظام السوداني عمر البشير، خلال أشهر (عام 2008م)، على أن يتوجه البشير إلى منفىً اختياريٍّ، مع ضمانات بعدم تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية.
نحن إذن أمام ترتيبات دولية كانت تجري منذ أكثر من عشر سنين لإزاحة البشير؛ فما حدث في السودان أكبر من مجرد ثورة شعبية تزيح ديكتاتوراً؛ خاصة أن شبهات تحوم حول تجمع المهنيين السودانيين الذي يقود هذا الحَراك.
فقد باشرت الحكومة السودانية الجديدة التي تقودها قوى الحرية والتغيير بإجراء تشريعات وقوانين منها إلغاء تجريم الردة، والسماح لغير المسلمين بتناول المشروبات الكحولية، بالإضافة إلى تجريم ختان الإناث، وإلغاء إلزام النساء بالحصول على تصريح من أفراد عائلاتهن الذكور للسفر مع أطفالهن.
ومما زاد من الشبهات حول ما جرى هو الجدال بين المجلس العسكري الانتقالي في السودان وقوى ائتلاف الحرية والتغيير، فقد طالب الأول بإدراج الشريعة والأعراف المحلية في مسودةِ وثيقةٍ دستورية اقترحها الائتلاف، بينما ردَّ الثاني أن الأمر يتعلق بمزايدات وإثارة قضايا غير ذات صلة.
ولكن يعود السؤال ليطرح: هل ورقة أسلمة المجتمع في يد الجيش لتفجير التحالف مع القوى العلمانية إذا هي أصرت على إخراجه من الحكم أو الحد من نفوذه المسيطر؟
ومن الملاحظات الهامة التي تندرج في هذا السياق، أنه منذ إزاحة البشير يتم الإعلان كلَّ عدة شهور عن انقلاب تم كشفه ويتم القبض على عدد من الضباط أصحاب التوجهات الاسلامية داخل الجيش السوداني أو تسريحهم… ويبدو أن قيادة الجيش تزيح هؤلاء من داخل الجيش بناء على مطالب قوى الحرية والتغيير وكذلك المطالب الإقليمية والدولية.
مستقبل السودان وآفاق المرحلة المقبلة:
ولكن ما نتائج ما جرى خلال العامين على الوضع السوداني؟ وما مدى درجة الرضا الشعبي عن حجم الإنجازات؟
يكاد يُجمِع كثير من المراقبين على وجود حالة من الإحباط وعدم الرضا ما زالت تسيطر على جموع الشعب السوداني بعد عامين من رحيل البشير.
فهناك ثلاثة تحديات كبرى يمر بها السودان بعد تغيير 2019م:
الأول: الأزمة الاقتصادية والمالية المزمنة: فالإصلاحات التي يديرها صندوق النقد الدولي تهدد بتوسع الفجوة الاجتماعية؛ فقد بلغ التضخم وَفْقاً للمكتب المركزي للإحصاء السوداني 170% في أغسطس الماضي، وتصل تكاليف استيراد الدقيق والمحروقات والدواء إلى نحو مليار ومئتي مليون دولار شهرياً، وهي فاتورة ضخمة على بلد أنهكته الحروب والعقوبات الدولية، وتقول الأمم المتحدة في الأول من أكتوبر الماضي: إن أسعار المواد الغذائية في السودان تضاعفت ثلاث مرات خلال سنة، بينما ارتفعت تكلفة الخدمات الصحية بنسبة 90%. ويواجِه السودانيون أزمة خبز حادة، حيث يصطف الناس في طوابير طويلة تمتد لساعات يومياً، في محاولات شاقة للحصول على رغيفِ العيش.
الثاني: الصراع حول هوية السودان: فقوى الحكومة المدنية التي قفزت على السلطة وتشارك العسكر في الحكم تريد علمانية صريحة في دستور السودان، وتحاول إنجاز ذلك قبل انتهاء الفترة الانتقالية لتفرض واقعاً غير قابل للتغييـر؛ خاصة أن الانتخابات التي ستعبِّر عن رأي السودانيين الحقيقي لن تكون مضمونة النتائج بالنسبة للتيار العلماني.
الثالث: التفكك، وهو خطر لا يزال يتهدد البلاد حتى بعد انفصال الجنوب؛ فإقليم دارفور يعج بالحركات المسلحة التي تتخذها بعض الدول المعادية للسودان رأس حربة لتطويع النظام السوداني وجعله يقبل بالخيارات الغربية التي تُفقِد السودان هويته العربية والإسلامية.
أخيراً:
فالسودان اليوم بأَمَسِّ الحاجة إلى صدق النوايا والتوجهات بعيداً عن أي استقطاب أيديولوجي، وإلى من يريد حل مشكلات الناس المعيشية والحياتية وفي الوقت نفسه ترك الناس يعبِّرون عبر الانتخابات عن اختياراتهم لهوية سودان المستقبل دون ضغوط عسكرية أو أمنية أو خارجية، وهذا هو الطريق الوحيد لمنع خطر انزلاق البلاد إلى التفكك والتحول إلى دولة فاشلة.
(المصدر: مجلة البيان)