بعد إغلاقه بسبب كورونا.. الحراس والسدنة يتكفلون بالأقصى
وسط فراغ وصمت مهيبين، لم يشهدهما المسجد الأقصى منذ عشرات السنين، يتظلل أحدهم تحت شجرة زيتون يقرأ القرآن، ويتعهد آخر قطة عمياء بالطعام، وقبالة قبة الصخرة تنثر إحداهن قمحا لأسراب الحمام، هؤلاء كانوا الصفوة التي حظيت بدخول المسجد بعد إغلاقه وتعليق حضور المصلين، خُصّوا بذلك لأنهم حراس الأقصى وسدنته.
وكان مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية علّق في 23 من مارس/آذار الجاري حضور المصلين من جميع أبواب المسجد الأقصى لفترة مؤقتة، استجابة لتوصيات العلماء والجهات الطبية، حفاظا على صحة وحياة المصلين بعد وصول فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) إلى القدس المحتلة.
واستثنى تعليق الحضور جميع الموظفين والعمال والحراس، كما استمر رفع الأذان في كافة الصلوات على أن يؤدي الموجودون الصلوات في الساحات مع مراعاة الإرشادات الصحية.
وأغلقت أبواب المسجد كلها باستثناء بابي الأسباط والسلسلة، ولم يخل الأمر من شرطة وقوات الاحتلال في محيط الأقصى وداخله حيث يتجوّل أفرادها داخله، ويواصلون دخول مصلى باب الرحمة بأحذيتهم.
بث مباشر “كأنك فيه”
يُبكّر حارس الأقصى منذ 21 عاما، عصام نجيب، في دخول الأقصى. يصلي تحية المسجد، ويمسك هاتفه المحمول ليبدأ بثا مباشرا على حسابه في فيسبوك، ذلك البث الذي ينتظره المئات بشوق ولهفة، فقد حُبسوا عن دخول المسجد وتعلّقوا ببثه المباشر الذي يضعهم افتراضيا في الأقصى”كأنهم فيه”.
مثل نجيب، يوثق بعض زملائه يومياتهم في الأقصى، فأحدهم وثّق إنقاذ الحارس خليل الترهوني لقِطة علق رأسها في علبة طعام معدنية، وآخر وثّق إطعام حارس لقطة عمياء تعيش بين بابي الناظر والغوانمة.
وحارس آخر عند باب الملك فيصل سمع صوت نشيد حزينا يأتي من خلف الباب المغلق، فوثقه صوريا ليكتشف أنه صوت المنشد أبو حذيفة البسطامي الذي اعتاد الدخول من ذلك الباب وأداء صلاة الضحى قربه يوميا.
يدخل نجيب الأقصى من باب الأسباط تاركا وراءه مصلين وقفوا في ساحة الغزالي على أعتاب المسجد يتوسلون للحراس ليدخلوهم لأداء ركعة واحدة، فقد اعتادوا الصلاة يوميا فيه وغدا جزءا من كيانهم، كالمسنة “بدريّة” التي تعتبر المسجد بيتها الأول لا الثاني.
يقول نجيب للجزيرة نت، إن فراغ الأقصى محزن، حتى الجنائز لا تدخل إليه، ويدخل إليه الحمام والقطط التي اعتادت إطعام المصلين لها، وغدت تجتمع حول الحراس الذين تكفلوا بإطعامها.
انخفض عدد الحراس في زمن كورونا كثيرا نظرا لإغلاق الطرق، وتعليق الدخول إلى الأقصى، وغياب الحراس من كبار السن والمرضى، فتطوّع بعضهم ممن يستطيع دخوله، كما تطوّع آخرون لتنظيف مصلى باب الرحمة الذي لا سدنة له.
حسنات الإغلاق
ورغم الحرقة التي خلفها إغلاق الأقصى، فإن نجيب يرى حسنات له، فتعليق حضور المصلين يمنع تفشي الفيروس ويحمي المصلين والحراس، كما أن إغلاق باب المغاربة أمام حركة السياحة واقتحامات المستوطنين وفر جهدا كبيرا على الحراس الذين يلاحقون يوميا تجاوزات بعض السياح المهولة التي لم يستطع نجيب الإفصاح عنها، إضافة إلى انتهاكات المقتحمين.
وأضاف نجيب “هذه المحنة وطدت العلاقة أكثر بيننا وبين المكان، أصبح تركيزي ينصب على تأمل المسجد، اكتشفت أماكن وحجارة لم أعلم عنها رغم أنني أحفظ الأقصى مثل اسمي، اكتشفت نمو ظهور نبات الفطر على إحدى المصاطب”.
فرحة مزجت بألم
حين طلبنا الحديث إلى رئيسة قسم الحارسات في الأقصى زينات أبوصبيح دويك، طلبت منا الانتظار لانشغالها بإطعام القطط، حدثتنا لاحقا أنها خبأت في مكتبها طعاما كثيرا لحيوانات وطيور الأقصى لإطعامها كل يوم، أما في يوم عطلتها فتوكل أحدا آخر بهذه المهمة.
تحدثت زينات للجزيرة نت كثيرا لكنها بكت أكثر، كل جملة أتبعتها بتأوهات حزينة وطويلة نقلت لنا جليّا حبها للأقصى وحزنها على حاله، حيث تحاول هي وحارسات المسجد وسادناته تعبئة فراغه والصلاة كثيرا ليعوضن غياب الصلوات فيه.
تقلّص عدد حارسات الأقصى في زمن كورونا إلى أربع بالفترة الصباحية وثلاث بالمسائية، حيث يقضين وقتهن بحراسة المسجد ورعايته وحضور جولات تعليمية في رحابه.
تحرص زينات على التقاط صورٍ لبساتين المسجد التي اخضرّت في فصل الربيع التي وصفتها بـ”جنة الله في أرضه”، وتقول إنها تشعر بفرح عظيم لأن الله اصطفاها لتكون داخله، لكن فرحها يمزج على الدوام بحزن وحنين الأقصى لمصليه فهي تشعر به “كأنه كائن حيّ يشتاق ويحزن”.
تختم رئيسة الحارسات بأن “ما بعد الضيق إلا الفرج.. كورونا وما تبعه من إغلاق الأقصى ابتلاء من الله، ليشعر الناس بأهمية الأقصى وقيمته”.
(المصدر: الجزيرة)