بطلان الصلوات خلف الإذاعة والقنوات
بقلم د. مسعود صبري
انتشرت في الآونة الأخيرة أقوال لبعض أساتذة الشريعة والدراسات الإسلامية بجواز الصلاة خلف التلفاز في صلاة التراويح، معللين ذلك أنه يتوسع في النافلة ما لا يتوسع في الفريضة، وأن المتابعة حاصلة بين المأموم والإمام..
وقبل بيان الرأي والاجتهاد في المسألة، لابد من تقرير حول قواعد الاجتهاد المعاصر.. والاجتهاد في النوازل لابد أن يمر بمراحل عدة؛ يكاد يكون متفقاً عليها بين العلماء.
أولا- مرحلة التصوير:
من أهم تلك المراحل وأولها: ( مرحلة التصوير)، ويقصد بها جمع المعلومات حول المسألة المسئول عنها، والتعريف بالمصطلحات وبيان دلالاتها، من الناحية اللغوية والشرعية والعرفية؛ لأنه يترتب على التعريف ودلالاتها أثر في الاجتهاد والتنزيل.
وهذه هي المرحلة الأخطر؛ إذ يترتب عليها ما بعدها، فالقول بجواز الصلاة خلف التلفاز والإذاعة ينقصه تصور المسألة تصورا واقعيا، وهذا الشرط الذي هو معرفة الواقع من الشروط المتفق عليها بين الفقهاء في الاجتهاد، وأن الخطأ في معرفة الواقع؛ يترتب عليه خطأ في الاجتهاد.
وإذا أردنا أن نتصور المسألة، وهو مثلاً حين يصلي رجل – أو جماعة- في بيت في بلد ما خلف إمام الحرم المكي بمكة المكرمة، فهو يتابعه عبر البث الفضائي المباشر، فيركع حين يراه في البث الفضائي يركع، ويسجد حين يراه في البث المباشر يسجد، والتساؤل هنا: هل الصورة المنقولة عبر البث الفضائي وهي ركوع الإمام أو سجوده هل نقلت في نفس الزمن الذي وصل إلى المصلي في بيته، والذي قد يبعد عن الحرم آلاف الكليو مترات؟ بمعنى: هل زمن حصول الركوع والسجود لإمام الحرم مثلا، هو نفس زمن نقل صورته على البث المباشر، فتصح المتابعة؟ أم أن المأموم يتبع الصورة المنقولة إليه عبر البث الفضائي والتي تنقل في زمن غير الزمن الحقيقي، فهو مثلا حين يركع وراء إمام الحرم المكي في التلفاز، كيف تكون حركات إمام الحرم المكي في نفس اللحظة؟
تعريف التلفزيون الفضائي:
فالتلفزيون الفضائي هو تلفزيون تقدمه وسائل الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، ويستقبل بواسطة طبق القمر الصناعي وجهاز فك التشفير، ويمر النقل عبر مراحل متعددة، بينها فارق زمني؛ ذلك أن الأطباق لابد لها من فك التشفير لاستقبال المعلومات.
والبث الفضائي المباشر للمنزل يتكون من خمسة عناصر،هي: مركز البرامج ، ومركز الإرسال، وقمر البث، وطبق الاستقبال (الدش) وجهاز الاستقبال (الريسيفر). ومركز البرامج يمثل الاستوديوهات التي تصنع البرامج وتصورها وتعدها للبث.
أما مركز الإرسال فهو محور النظام ويستقبل البرامج في صورة موجات رقمية ثم يرسلها إلى القمر الصناعي في مداره حول الأرض.
ويستقبل القمر الصناعي موجات البث من محطة الإرسال الأرضية ثم يعيد بثها مرة أخرى للأرض. أما طبق الاستقبال (الدش) يستقبل الموجات من قمر البث أو من عدة أقمار بث ثم يوجهها إلى جهاز الاستقبال (الريسيفر) الذي يعالج الموجات ثم يعرضها على جهاز التليفزيون.
ولاشك أن هذه العملية تستغرق وقتا من الزمن، يجعل زمن الاستقبال ليس هو زمن الحدوث نفسه.
وهذا يعني أن رؤية حركة الإمام وهو يسجد في القناة الفضائية ليس هو نفس الزمن، فالصورة المنقولة تصل إلينا في زمن متأخر عن زمن الحصول في الواقع.
المرحلة الثانية: التكييف:
بعد مرحلة التصوير وجمع المعلومات وتكوّن صورة ذهنية لدى المجتهد، يبحث الفقيه المجتهد عن إلحاق هذه النازلة بباب فقهي معين، وهل لها متشابهات في مسائل الفقه القديم؟ ومدى الاتفاق أو الاختلاف بين المسألة المستجدة وبين المسائل القديمة؟ فإن كان التشابه تاما أو غالبا بين المسألة الجديدة والمسائل القديمة؛ أعطيت المسألة الجديدة نفس الحكم، وإن كان ثم فروق بين المسألة الجديدة والمسائل القديمة كان من الواجب على الفقيه البحث عن الحكم المناسب لها، من خلال استقراء نصوص القرآن والسنة، وإعمال دلالات الألفاظ فيها، ثم إعمال أدلة الاجتهاد من القياس والمصالح المرسلة والاستحسان وإعمال الذرائع سدا وفتحا، والاستصحاب والبراءة الأصلية وغير ذلك من أدلة الاجتهاد.
التكييف في الصلاة خلف التلفاز والإذاعة:
والناظر في كتب الفقه يجد أن المسألة تندرج تحت قضية الإمامة وشروط الائتمام والاقتداء بالإمام في صلاة الجماعة، وقد تحدث عنها الفقهاء، ووضعوا لها شروطا، غالبها شروط غير متفق عليها، فذكروا من تلك الشروط نية الاقتداء، وعدم تقدم المأموم على الإمام، واتحاد صلاة المأموم وصلاة الإمام، وعدم الفصل بين المقتدي والإمام، بما في ذلك بعد المسافة وتحديد مسافة معينة، وتحديدها برؤية الإمام، أو سماع صوته، وناقشوا مسألة وجود حائل بين الإمام والمأموم، كنهر تجري فيه السفن، أو طريق يمشي فيه الناس، أو يكون بينهما جدار أو دار يمنع دخولها إلا بإذن صاحبها، واشترط البعض اتحاد المكان بين الإمام والمأموم، وعلو موقف المأموم على الإمام والعكس، والعلم بحركات الإمام وانتقالاته بسماع أو رؤية له، أو لبعض المقتدين به.
وغالب هذه الشروط اجتهادية، والقدر المتفق عليه هو العلم بحركات الإمام وصحة المتابعة؛ لأن هذا هو شرط الاقتداء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري وغيره:” إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما، فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا، ولا تركعوا حتى يركع، ولا ترفعوا حتى يرفع”.
والناظر في كلام الفقهاء يجد أن المسألة الجديدة تتشابه مع المسائل القديمة في بعض الجزئيات، لكنها ليست واحدة، فتصوير المسألة الجديدة ليس هو تصوير المسائل القديمة، وإسقاط القول بالجواز في بعض الصور القديمة ليس كما هو في الصورة الجديدة، ولا يقال إن الفقهاء جوزوها، كيف جوزوها ولم يروها أصلا؟ ولم يعرفوا بها، ولم تحصل في واقعهم، وهي ليست واقعة متكررة، بل هي صورة مختلفة تماما.
على أن الاستئناس ببعض أقوال الفقهاء لا بأس به، من بيان خدمة الرأي المجتهد فيه، لكنه لا يكون نصا في بيان الحكم الشرعي لحادثة جديدة.
ثالثا- مرحلة التنزيل:
يقصد بها تنزيل الحكم على الحادثة، والذي يبدو أن الصلاة خلف التلفاز أو الإذاعة باطل، يحرم فعله، ويأثم فاعله، ومن فعله؛ وجب عليه إعادة الصلاة مرة أخرى، وذلك لما يلي:
أولا- لابد أن يفرق بين الواقع – وهو وجود إمام في المسجد والناس يصلون خلفه في المسجد، أو حتى يصلون خلفه في بيوتهم عبر مكبرات الصوت، على رأي من يجيز هذا، وبين البث المباشر، فقول النبي صلى الله عليه وسلم:” إنما جعل الإمام ليؤتم به”، فالمقصود هو إمام المسجد الذي يصلي فيه الناس، وإن توسع لمن يصلي خلفه ممن هم خارج المسجد؛ فلا بأس في هذا، والآثار فيه كثيرة، أما الصلاة خلف المذياع؛ فهي ليست صلاة خلف الإمام، بل هي صلاة خلف شاشة نقل للصورة، فحركات الإمام غير حركات المأموم، فهو يتبعون الصورة المنقولة التي لا تتوافق زمنيا مع الحركة الأصيلة للإمام؛ فبطل الاقتداء بالكلية.
ثانيا- البعد الزماني والمكاني:
مما هو معلوم أن من يصلي في مصر أو العراق أو أمريكا وراء إمام الحرم المكي أو المدني مثلا، أن هناك فوارق كبيرة في الفترة الزمنية والمكانية أيضا، فخطوط الطول والعرض تختلف من بلد لآخر، مما يعني عدم الاتحاد في المكان والزمان، ومن يستشرف النصوص النبوية في مجال الإمامة والاقتداء؛ ليدرك الفارق بين الصورتين، وأن الصلاة خلف التلفاز والإذاعة لا تنطبق عليه مثل هذه النصوص، بل ليست هناك إمامة ولا اقتداء.
ثالثا- غياب الإمام:
فمن يصلي وراء التلفاز أو الإذاعة إنما يأتم بالصورة البعيدة ولا يأتم بالإمام، ومن المعلوم أن صلاة الجماعة لا تصح بلا إمام، فإذا فقد الإمام؛ بطلت صلاة الجماعة.
رابعا- غياب الهدي في صلاة الجماعة:
إن الصورة التي يفتي فيها البعض بجواز الصلاة خلف المذياع أو الإذاعة تخالف ما جاء به الإسلام من هدي في صلاة الجماعة، وهي وجود جماعة حقيقية لها إمام يأتم به الناس، ثم إن امتلأ المسجد عن بكرة أبيه، وصلى الناس خارجه، فهذا للحاجة والضرورة، وكذلك إن منع الناس من الذهاب للمسجد، كما هو الشأن، فالجماعة تكون في البيت، أو يصلي الإمام والمؤذن وبعض العمال، ويمكن لمن حول المسجد أن يأتم به؛ وذلك للضرورة، وفي الحديث عند أبي داود قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تبارك وتعالى شرع لنبيه – صلى الله عليه وسلم- سنن الهدى، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق بين النفاق، ولقد رأيتنا وإن الرجل ليهادى بين رجلين حتى يقام في الصف، وما منكم أحد إلا وله مسجد في بيته، ولو صليتم في بيوتكم، وتركتم مساجدكم، تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم”.
وفي حال العذر وحين يحول بين المسلمين والمسجد حائل؛ فصلاة الجماعة في البيوت، كما في الصحيحين عن عتبان بن مالك – رضي الله عنه -: قال: «يا رسول الله، إن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي، فأحب أن تأتيني في مكان من بيتي أتخذه مسجداً، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: سنفعل، فلما دخل النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: أين تريد؟ فأشار إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فصففنا خلفه، فصلى بنا ركعتين» .
على أن الصلاة في البيوت للعذر تكون بالاختيار، ما أمن الضرر، ففي حديث مسلم والترمذي وأبي داود أن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -: قال: «خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فمطرنا، فقال: ليصل من شاء منكم في رحله».
وما دام ولاة الأمور قد رأوا إغلاق المساجد بالكلية- مع ما في ذلك من التحفظ- فإن الواجب على المسلمين صلاة التراويح جماعة في البيوت، فيصلي الرجل بأهل بيته، أو يصلي بهم أحد أبنائه ممن يجيد قراءة القرآن، ويصلي من في البيت خلفه، صلاة التراويح، ويحرم صلاة التراويح خلف التلفاز أو الإذاعة، ولا مانع من القراءة من المصحف في صلاة التراويح على ما ذهب إليه بعض الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء السلف.
(المصدر: مجلة المجتمع)