مقالاتمقالات المنتدى

بشرى الفتح المبين (4)

بشرى الفتح المبين (4)

بقلم الشيخ: أنور بن قاسم الخضري (خاص بالمنتدى)

* فَجَاسُوا خِلالِ الدِّيَارِ:
لفظة “جاسوا” لفظة مفردة في القرآن الكريم، لم ترد في غير هذا السياق. وعادة تكون الكلمة المفردة في مواطن مِن القرآن الكريم حلًّا للغز الذي يكتنف مقصود الآية، حيث يأتي استخدام هذه المفردة لتكون ذات دلالة عميقة للسرِّ الكامن في النصِّ.
و(جَاسَ) فِعلٌ بمعنى تردَّد جيئة وذهابًا، ورجع مرَّة بعد أخرى. يُقال: جَاسَ، يَجوُسُ، جُسْ، جَوسٌ وجَوَسَانٌ، وجَائِسٌ. وجَاسَ النَّاس تخطَّاهم، وجَاسَ خِلاَلَ الدِّيَارِ طاف فِيهَا وتَرَدَّدَ بَينَهَا بالإِفسَادِ، كما قال بعض المفسِّرين، وقال بعضهم: الجوس طلب الشيء بالاستقصاء؛ وقال الفرَّاء: “جاسوا.. قتلوكم بين بيوتكم”.
وقد جاء في القرآن الكريم كلمة شبيهة بها وهي “تجسَّسُوا”، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعضَ الظَّنِّ إِثمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغتَب بَّعضُكُم بَعضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُم أَن يَأكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيتًا فَكَرِهتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ))، الحجرات: 12. وأصلها مِن (جَسَسَ). يُقال: جَسَّ نَبضِهِ أي لمِسه بيده وتَحَسَّسه ليدرك نبض قلبه مِن خلال عروقه. ويقال: جَسَّ الأَمرَ أَي اختبَرَه وامتحَنَه وفحصه وسَبرَ أَغوَارَه. والمعنى: لا تتطلَّبوا ما خُفي عنكم مِن بواطن الأحوال والأخبار ممَّا ستر وغاب عنكم؛ وهذا لا يكون إلَّا بطرق خفيَّة أيضًا، لأنَّ السؤال عنها بشكل ظاهر لا يعدُّ تجسُّسًا. والجاسوس هو الذي يتطلَّب الأخبار والأنباء بالتخفِّي والتنكُّر، وفي حديث “الدجَّال” أنَّ له “جسَّاسة” تتبَّع له الأخبار. والجَسَّاس الأَسدُ لأنَّه يبلغ فريسته دون شعور مِنها.
وقريبًا مِن فعل “تجسَّس” “تحسَّس”، ومِن ذلك قوله تعالى: ((فَتَحسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ))، لكن قِيل: التجسُّس في الشرِّ والتحسُّس في الخير، وقيل: التحسُّس بالحواس والتجسُّس بالسؤال والتقصِّي. وجاء في القرآن الكريم: ((وَلَقَد صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعدَهُ إِذ تَحُسُّونَهُم بِإِذنِهِ..))، آل عمران: 152. وأصله مِن “الحسِّ” الذي هو الإدراك بالحاسَّة، ومعنى حسَّه أذهب حسَّه بالقتل، كما جاء في تفسير القرطبي. وفي الحديث: (ولا تَجَسَّسُوا، ولا تحسَّسوا)، كما في الصحيحين.
إذن معركة الذين سيبعثهم الله تعالى على اليهههود في فلسطين بعد إفسادهم الأوَّل تقوم على فكرة “الجس” خلال الديار، جيئة وذهابًا، وقتل اليهود بين هذه الديار. و”الديار” جمع دار، كما تجمع دار على دور، غير أنَّ القرآن الكريم استخدم في سياق الآيات التي نحن بصددها لفظة “الديار”، وهي لفظة أُطلِقت في القرآن الكريم غالبًا على الدور التي خرج أهلها مِنها، أو أُخرجوا مِنها بفعل طرف آخر. وهذه شواهد مِنها:
قال تعالى: ((وَإِذ أَخَذنَا مِيثَاقَكُم لَا تَسفِكُونَ دِمَاءَكُم وَلَا تُخرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُم…))، البقرة: ٨٤؛ وقال سبحانه: ((ثُمَّ أَنتُم هَٰؤُلَاءِ تَقتُلُونَ أَنفُسَكُم وَتُخرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِم تَظَاهَرُونَ عَلَيهِم بِالإِثمِ وَالعُدوَانِ…))، البقرة: ٨٥؛ وقال: ((أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم وَهُم أُلُوفٌ حَذَرَ الـمَوتِ..))، البقرة: ٢٤٣، وقال: ((وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَد أُخرِجنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبنَائِنَا…))، البقرة: ٢٤٦، وقال: ((فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا…))، آل عمران: ١٩٥، وقال: ((وَلَو أَنَّا كَتَبنَا عَلَيهِم أَنِ اقتُلُوا أَنفُسَكُم أَوِ اخرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنهُم…))، النساء: ٦٦، وقال: ((وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ..))، الأنفال: ٤٧، وقال: ((الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ…))، الحج: ٤٠، وقال: ((هُوَ الَّذِي أَخرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِم لِأَوَّلِ الحَشرِ مَا ظَنَنتُم أَن يَخرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُم حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِن حَيثُ لَم يَحتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعبَ يُخرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيدِيهِم وَأَيدِي الـمُؤمِنِينَ فَاعتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبصَارِ))، الحشر: ٢، وقال: ((لِلفُقَرَاءِ الـمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم وَأَموَالِهِم يَبتَغُونَ فَضلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))، الحشر: ٨، وقال: ((لَا يَنهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَم يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَم يُخرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُم أَن تَبَرُّوهُم وَتُقسِطُوا إِلَيهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الـمُقسِطِينَ))، الممتحنة: 8، وقال: (إِنَّمَا يَنهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُم فِي الدِّينِ وَأَخرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُم وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخرَاجِكُم أَن تَوَلَّوهُم وَمَن يَتَوَلَّهُم فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))، الممتحنة: ٩، وقال: ((وَأَورَثَكُم أَرضَهُم وَدِيَارَهُم وَأَموَالَهُم وَأَرضًا لَّم تَطَئُوهَا))، الأحزاب: ٢٧.
وفي هذا الإطار يمكن القول إنَّ جيش الفتح والنصر سوف يجوس في ديار خالية، خرج مِنها أهلها أو أخرجوا، وسواء كان ذلك حاصل في غزَّة بفعل العدوان الإسرائيلي، أو في فلسطين عمومًا بفعل هجرة اليهههود هربًا، فيوقع في الأعداء قتلًا لهم، بما يحطَّم شوكتهم بما يتمتَّع به مِن بأس في الأنفس والقدرات. فضلًا عن أنَّ هذا الجسُّ يكون بخفاء وخلال الديار عبر أنفاق مغيَّبة تحت الأرض، تمكِّنهم مِن الطواف الآمن بين الديار غير المسكونة.
فهذه العلامات جميعًا، مع ضخامة التضحيات والصمود، فضلًا عن فحش الصصصهاينة في الإجرام والبغي والعدوان والظلم والإفساد، كفيلة بنصرة الله وانتقامه مِن هذه الشجرة الخبيثة والدولة المارقة.
والله غالب على أمره ولا يخلف وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى