“برنار ليفي” .. عرّاب الفتن والفوضى والخراب
بقلم أحمد مصطفى الغر
أثارت زيارة الصحفي والمفكر الفرنسي “برنار ليفي” إلى ليبيا قبل أيام قليلة، ردود فعل غاضبة وأحدثت جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والشعبية هناك على مختلف مشاربها، وأعادته هذه الزيارة الخاطفة إلى واجهة الأخبار مجددًا، فأينما وُجِدَ هذا الرجل تتواجد الفوضى والخراب والفتن، في سيرته السياسية يمكن تعريفه بأنه جنرال عسكري يمهد الميدان للمعركة، فهو صاحب نظرية الحرب من أجل التغيير، فمن هو “برنار ليفي”؟
وُلِدَ “برنار هنري ليفي”، في عام 1948م لعائلة يهودية ثرية كانت تعيش في مدينة بني صاف بالجزائر، هاجرت عائلته إلى فرنسا بعد ولادته بأشهر قليلة، وهناك تلقى تعليمه في المدارس الفرنسية اليهودية، حيث درس الفلسفة في معاهد باريس، وقد نفسه على أنه أحد الفلاسفة الجدد، اشتُهِرَ في مقتبل حياته كصحفي، حيث ذاع صيته كمراسل حربي من بنجلادش خلال حرب انفصالها عن باكستان عام 1971م، وكانت هذه التجربة مصدر إلهام لكتابه الأول (بنجلادش.. قومية داخل الثورة)، وفي عام 1981م نشر كتابه المثير للجدل عن (الإيديولوجيا الفرنسية)، وفيه قدم صورة قاتمة عن التاريخ الفرنسي، وهو ما عرّضه للانتقاد بشدة من قبل الأكاديميين الفرنسيين نظرًا للنهج غير المتوازن والقراءة الانتقائية والاختزالية في صياغة التاريخ الفرنسي.
في عام 1985م؛ وقّع “ليفي” على عريضة لدعم القوات المتطرفة في نيكاراغوا، كما برز اسمه كداعية لتدخل حلف الناتو في يوغوسلافيا السابقة وروّج لتفكيكها، وكان من أوائل الداعين إلى ضرورة التدخل الأوروبي والأمريكي في حرب البوسنة عام 1990، تعددت زياراته إلى بؤر الصراع الساخنة ودول صناعة القرار، زار أفغانستان وباكستان والهند ومختلف دول أوروبا والولايات المتحدة، كتب أشياء غير حقيقية، بعضها تمّ كشف زيفها لاحقًا، ولعل أبرزها ما كتبه عن “دانيال بيرل”، صحفي جريدة “وول ستريت جورنال” الذي تمّ اغتياله في باكستان، واضطرت أرملة الأخير إلى وصف ليفي بأنه “دمر نفسه بالأنا الخاصة به”، واتهمته بالكذب وتزييف الحقائق، فضلا عن أن المؤرخ البريطاني “وليام دالريمبل”، الذي دان “ليفي” كونه يكتب أشياء من خياله، ويقنع الناس بها باعتبارها حقائق!، وفي عام 2008م؛ زار أوستيا الجنوبية، وقابل رئيس جورجيا “ميخائيل سكاشفيلي”، خلال الحرب التي جرت مع روسيا وقتها، كما كان من أكبر الداعين للتدخل الدولي في دارفور غرب السودان، هذا إلى جانب دعمه لثورات إيران ومصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا وكردستان العراق وأوكرانيا، ومن المعروف أن الدعم الذي كان يقدمه “ليفي” لهذه الثورات كان دعمًا للفوضى قبل أن يكون دعمًا لهذه الأوطان لتحقيق أهدفها بوطن أفضل.
يجمع “ليفي” في شخصيته العديد من المفارقات والأضداد، فبينما كان ينشر كتاباته على أنه يساري، ولكنه في نفس الوقت نجده يعارض الاشتراكية إبّان فترة السبعينيات، وبالرغم من أن الصهيونية العالمية قد أشهرته على أنه فيلسوفًا ومفكرًا يساريًا، فإن كل أفعاله تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أنه يميني صهيوني متعصّب لإسرائيل على صعيد المواقف والممارسة السياسية، وكان من أبرز الموقّعين على بيان في عام 2006م بعنوان “معا لمواجهة الشمولية الجديدة”، ردًا على مظاهرات شعبية واسعة في دول العالم الإسلامي احتجاجًا على الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، والتي نشرتها آنذاك صحيفة دنماركية. وبينما كان ينتقد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بشدة في بدايات ظهوره، هاهو الآن يمتلك 7 شركات لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وله استثمارات واسعة في هذا المجال، حيث وصلت ثروته، عام 2004، إلى 150 مليون يورو. وبينما يرى في نفسه مناصرًا لحقوق الإنسان والحريات وداعية ضد التسلط، فإن خصومه يصفونه بأنه خير مثال لبورجوازية مخملية تتبادل المصالح والصداقات والخدمات وتمارس الضغط، ربما يبدو ظاهريًا من خلال كتاباته أنه يقوم بدور الباحث اليائس عن الإسلام المتنور، لكنه في الحقيقة يحمل كرهًا دفينًا للشريعة الإسلامية، ويرى في تطبيقها شكلًا من أشكال التخلف والرجعية، وهو من أشد منتقدي الحجاب وتعدد الزوجات وضد تزايد عدد المسلمين في أوروبا، هذه التناقضات التي يجمعها في شخصيته دفعت فلاسفة فرنسيون كبار، من أمثال “جيل دولوز” وأستاذه “جاك دريدا” والمؤرخ “بيار فيدال ناكيه”، إلى وصفه بـ”الخديعة الثقافية”، كما أسماه الفيلسوف “كورنليوس كاستورياديس” بـ”أمير الفراغ”.
يُعرف “ليفي” بمواقفه شديدة العداء للعرب والمسلمين، ولا شك في ذلك لكونه من أشرس المدافعين عن إسرائيل، فهو أول من دخل إلى مدينة جنين محمولًا على ظهر دبابة إسرائيلية ليبدي إعجابه بتفوق الجيش الصهيوني في التطهير العرقي والإبادة الجماعية بحق شعب فلسطين، كما أن “ليفي” من أبرز المشاركين في حملات تبييض سمعة إسرائيل أمام المجتمع الدولي، ودائما ما يقدم النصائح وينسق المؤتمرات الخطابية ويدلي بالتصاريح لوسائل الإعلام الشهيرة وينشر المقالات التسويقية التي تعيد تسويق إسرائيل مجددًا، حيث روّج مرارًا لـ”الهولوكوست” تحت شعار حريات الشعوب، وفي نهاية التسعينات أسس مع يهود آخرين معهد “لفيناس” الفلسفي في القدس المحتلة، وهو صاحب مقولة أن “الجولان أرض إسرائيلية مقدسة”، وفي كثير من مقالاته وتصريحاته كان يرفض أن يتم وصف حروب إسرائيل على غزة بـ”الإبادة”. وفي عام 2010م؛ دافع عن بابا الفاتيكان “بنيدكت السادس عشر” في وجه الانتقادات الموجهة إليه، معتبرًا إياه صديقًا وفيّا لليهود. وفي نفس العام وخلال زيارته لتل أبيب؛ أكد “ليفي” أن “الصهيونية هي الحركة العظيمة الوحيدة في القرن العشرين التي نجحت ولم تتحول إلى كاريكاتير بفضل الشعب اليهودي الذي بنى إسرائيل قادمًا من ظلام النازية والشيوعية والشعوب العربية الشمولية”، كما أطرى على الجيش الصهيوني معتبرًا إياه أكثر جيش ديموقراطي وأخلاقي في العالم!
في عام 2011م؛ كان “ليفي” مرشحًا ليصبح رئيسًا للكيان الإسرائيلي، ولا عجب في ذلك كونه من أشد المساندين لفكرة توسع إسرائيل على كامل تراب فلسطين التاريخية، وداعم لعمليات تهويد القدس وتوحيدها تحت السلطة الإسرائيلية لتكون عاصمة أبدية للدولة اليهودية، بالإضافة إلى عدم اعترافه باحتلال أراضي الضفة الغربية والجولان، وفي فبراير 2016؛ نشر كتابه “روح اليهودية”، حيث تحدث فيه عما أسماها “العبقرية اليهودية”، ويستكشف الكتاب اعتبارات وجودإسرائيل، كونها اختبارًا لليهود، فضلًا عن جذور معاداة السامية وأسبابها. وفي كتابه “يسار في أزمنة مظلمة موقف ضد البربرية الجديدة” يزعم أن اليسار بعد سقوط الشيوعية قد استبدل قِيَمهُ بكراهية مَرضيّة تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل واليهود، وأن النزعة الإسلامية لم تنتج من سلوكيات الغرب مع المسلمين، بل من مشكلة متأصلة لدى المسلمين أنفسهم، وأن النزعة الإسلامية تهدد الغرب تمامًا كما هددتها الفاشية يومًا ما، مؤكدًا على أن التدخل في العالم الثالث بدواعي إنسانية ليس مؤامرة إمبريالية بل أمر مشروع تمامًا، أما في كتابه “الحرب بدون أن نحبها”؛ يؤكد “ليفي” أن فرنسا قدمت بشكل مباشر أو غير مباشر كميات كبيرة من الأسلحة إلى المجموعات المسلحة في بعض مناطق النزاع، وإنه صاحب الفضل في إقناع الرئيس الفرنسي السابق “نيكولا ساركوزي” بتنفيذ ضربات في ليبيا، وهناك ادعاءات قوية بأنه يؤدي دورًا مهمًا في التواصل بين سياسيين ومثقفين وأثرياء فرنسيين مع الموساد الإسرائيلي.
بالرغم من أن كتبه قد تجاوزت الـ38 مؤلفًا، إلا أن جميعها بالكاد تُباع، وبالرغم من هزلية كتاباته وضحالتها إلا أن الصحف والمجلات الغربية دائما ما تفتح أبوابها أمامه لنشر أراؤه ومقالاته، وفى عام 1997م قرر أن يخوض تجربة الكتابة والإخراج السينمائي، وذلك عبر فيلم تمّ عرضه لأول مرة في مهرجان برلين السينمائي الدولي، وكانت المفاجأة أن الأغلبية الساحقة من النقاد صنفوا هذا الفيلم باعتباره أسوأ فيلم لعام 1997م، وذهب بعض النقاد باعتباره أسوأ فيلم فرنسي منذ عام 1945م. لكن بالرغم من فشله الأدبي والفني الذريع، إلا أنه لا يمكن بأيّ حال الاختلاف على نجاحه الباهر في تأجيج الفتن والطائفية أينما حلّ، فحيثما مـرّ تفجرت حروب أهلية وتقسيم ومجازر مرعبة وخراب كبير، ولا عجب أن تضعه صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية في مرتبة متقدمة على لائحتها لأكثر 50 يهوديًا مؤثرًا في العالم.
(المصدر: مجلة البيان)