بربروسا.. القائد العثماني الذي أنقذ مسلمي الأندلس وفرنسا
بقلم حسن المختار
سجل الدولة العثمانية حافل بالأبطال الأشداء الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل الله والوطن لرفع الظلم عن المسلمين الذين عانوا الويلات من الجيوش الصليبية أثر سقوط الخلافة العباسية مروراً بعهد المماليك والفاطميين حيث بقيت حالة الفوضى وعدم الاستقرار في العالم الإسلامي حتى بداية نهوض الدولة العثمانية سنة 678 للهجرة، البطل الذي تدور حوله قصتنا هو القائد فخر الدين بربروسا “ذو اللحية الحمراء” والذي سعت السينما الغربية إلى تشويه صورته بشكل كبير عبر العديد من الأفلام التي انتجتها هوليود والتي أظهرته على أنه قرصان شرير يجوب البحار.
لدرجة لو ذكرنا اسم بربروسا لدار في مخيلتنا صورة ذلك القرصان أعور العينين ذو القدم الخشبية واليد الحديدية، متناسين سيرة ذلك البطل المسلم الذي خاض العديد من الحروب العظيمة ضد الجيوش الصليبية والتي كانت تخوض حروب مقدسة برعاية الكنيسة الكاثوليكية ضد المسلمين خلال العصور الوسطى وقد ذاع صيته أبان حكم السلطان العثماني سليم الأول بعد نجاحه بالعديد من المهمات التي كلفه بها والتي سنتحدث عنها في هذا المقال حيث يعتبر أبرزها انقاذ مسلمي الأندلس من محاكم التفتيش الإسبانية إثر سقوط دولة المسلمين في الأندلس وصولاً إلى إنقاذ فرنسا عقب سقوط ملكها فرانسوا الأول بقبضة شارلكان ملك إسبانيا والعسكرة داخل ميناء طولون الشهير المطل على البحر الأبيض المتوسط.
ولد خضر بن يعقوب ٱغا أو ما بات يعرف بلقب خير الدين بربروس سنة 1478 للميلاد في جزيرة لسبوس اليونانية أو ما تعرف باسم مدللي التابعة لولاية الأرخبيل أبان حكم الدولة العثمانية، كان والده انكشارياً نسبة لعمله مع الفرقة الانكشارية وهي فرقة عسكرية من جنود المشاة العثمانية عُرِفت بالقوة وشدّة البأس من فاردار، في حين كانت والدته “كاتالينا” مسيحية تقول بعد المصادر أنها أرملة لقس نصراني، وله أربعة إخوة أكبر منه هم إسحاق، وعروج، وإلياس، ومحمد، وقد نشأوا نشأة إسلامية قويمة فعكف أحد أشقائه إلى تعلم القرآن الكريم ودراسة علوم الدين، في حين كان لخير الدين بربروسا ولع كبير بركوب البحار فأقتنى وأخيه عروج مراكب بحرية وعملوا بالتجارة قبل دخولهم الميدان العسكري.
لدى القائد بربروسا سجل حافل من الإنجازات والانتصارات التي دونها التاريخ بماء من ذهب على الرغم من اختلاف العديد من المؤرخين في ذلك على اختلاف توجهاتهم، ومن ابرز المعارك التي خاضها فتح الجزائر وتأمينها من هجمات الإسبان مروراً معركة بروزة البحرية التي انتصر فيها على الاسطول الأوربي المؤلف من 600 قطعة بحرية وأسر ما يزيد عن 3000 آلاف مقاتل دون خسارة أي قطعة عثمانية وصولاً لحصار نيس و العسكرة داخل ميناء طولون، بينما الحدث الأكبر بحياة بربروسا بنظر الكثيرين تلبية نداء الأندلسيين المسلمين لإنقاذهم من حملات الإبادة الإسبانية، حيث كان لبربروسا موقف مشرف تجاه مسلمي الأندلس الذين كانوا يعانون من الاضطهاد والتميز العنصري في أقسى صوره على يد الكنيسة الكاثوليكية واتباعها إثر سقوط دولة الأندلس الإسلامية سنة 897 للهجرة الموافق لسنة 1492 للميلاد، حيث اعتمدت مبدأ التطهير العرقي للقضاء على المسلمين فيها، وذلك بعد أن أعطى ملك اسبانيا فريداند وزوجته ايزابيلا وعود كثير لملك الاندلس محمد الثاني عشر قبل استسلامه بعدم التعرض للمسلمين.
وسرعان ما نكث الإسبان بالعهد وبدأت للكنيسة الكاثوليكية بفعل ما تشاء بحق مسلمي الأندلس الذين سقتهم الويلات، فقد عمدت إلى قتلهم وتعذيبهم داخل معتقلات مظلمة تحت الأرض عرفت بمحاكم التفتيش، والتي بدورها بدأت بارتكاب الفظائع والجرائم التي لا تعد ولا تحصى بحق المسلمين، من قتل جماعي وتشريد واعتقال، ويذكر المؤرخين بأن محاكم التفتيش أجبرت آلاف الأندلسيون على ترك الإسلام والدخول بالدين النصراني، كما أجبرتهم على حرق ما يملكونه من نسخ للقرآن الكريم والكتب الإسلامية والعربية بمختلف المجالات، والتي كانت تعتبر بمثابة كنزٍ لا يقدر بثمن يتفاخر به الأندلسيون، آلاف المسلمين قتلوا أثناء الحملات الكاثوليكية في حين نجح آخرون بالهروب إلى دول شمال إفريقيا والقسم الأكبر منهم بقي عالقاً تحت رحمة محاكم التفتيش العنصرية.
في هذه الأثناء كانت عروج بربروسا شقيق القائد خير الدين قد ذاع صيته في البحار وبدأت دولته الفتية التي اسسها في الجزائر تنمو وتتوسع بشكل ملحوظ، لاسيما بعد نجاحه بطرد الاسبان من السواحل التي احتلوها شمال إفريقيا كما نجح بضم مصر إلى دولته وبعث برسالة للسلطان العثماني سليم الأول يعلن فيها عن ولائه وطاعته لدولة الخلافة العثمانية.
عندها استشعر الاسبان خطر الدولة الفتية فأعدوا حملة ضخمة مكونة من 15 ألف مقاتل للقضاء عليها، وبالفعل تمكنوا من التوغل داخل الجزائر وحاصروا مدينة تلمسان التي كان يتحصن فيها الحاكم عروج وتمكنوا من قتله برفقة شقيقه إلياس سنة 1518 للميلاد، فأقترح وجهاء الجزائر على القائد فخر الدين خلافة شقيقه الأكبر وأصبح بذلك حاكماً لولاية الجزائر العثمانية.
على أثر ذلك طلب السلطان سليم الأول من بربروسا إنقاذ مسلمي الأندلس فأبحر من أقصى الشرق في تركيا إلى أقصى الغرب في الأندلس لمحاربة الجيوش الصليبية (الإسبانية، والبرتغالية، والإيطالية، وسفن القديس يوحنا). وبالفعل نحج في اختراق حصون الصليبين والسيطرة على مدن غرب الأندلس، و تمّ نقل 70 ألف مسلم أندلسي في أسطول مؤلف من 36 سفينة، في سبع رحلات في عام 1529، وتم تأمينهم في الجزائر وتوطّنوا فيها.
بعد أن انتصر إمبراطور الإمبراطورية الرومانية وملك إسبانيا شارلكان على ملك فرنسا آنذاك فرانسوا الأول وأسره إثر معركة بافيا سنة 1525 للميلاد وإجباره على توقيع اتفاقية مدريد المذلة للفرنسيين والتي قدوا فيها الكثير من التنازلات لصالح الإسبان، بعث فرانسوا الأول برسالة استغاثة للسلطان العثماني آنذاك سليمان القانوني يطلب فيها منه إنقاذه من عدوهم المشترك شارلكان، وجاءه الرد على طلبه من السلطان العثماني سليمان القانوني برسالة مطولة مما جاء فيها، بعناية حضرة عزة الله جلّت قدرته وعلت كلمته، وبمعجزات سيد زمرة الأنبياء، وقدوة فرقة الأصفياء محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم الكثيرة البركات، وبمؤازرة قدس أرواح حماية الأربعة، أبى بكر وعمر وعثمان وعلى، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وجميع أولياء الله.
أنا سلطان السلاطين وبرهان الخواقين، أنا متوج الملوك، ظلّ الله في الأرضين، أنا سلطان البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر والأناضول والروملّى وقرمان الروم، وولاية ذي القدرية، وديار بكر وكردستان وأذربيجان والعجم والشام ومصر ومكة والمدينة والقدس وجميع ديار العرب والعجم وبلاد المجر والقيصر وبلاد أخرى كثيرة افتتحتها يد جلالتي بسيف الظفر ولله الحمد والله أكبر.. أنا السلطان سليمان بن السلطان سليم بن السلطان بايزيد.. إلى فرانسيس ملك ولاية فرنسا.
وعلى اثر ذلك تم عقد تحالف مشترك بين فرنسا والدولية العثمانية على الرغم من اعتراض الكنيسة وتسميته من قبل الكاثوليك بالتحالف الأثيم، لكن لملك فرنسا كان له رأي آخر فقد وقع خيار فرانسوا في طلبه للنجدة على السلطان العثماني لكثير من الأسباب أهمها أن الدولة العثمانية في ذاك الزمان كانت تعتبر أقوى دولة في العالم وكانت بأوج ازدهارها إبان حكم السلطان سليمان القانوني والذي لقبه الغرب بسليمان الرائع، لذلك كأن يأمل بتحقيق الكثر من المكاسب على حساب الإسبان.
وفي عام 1543 أمر السلطان العثماني سليمان القانوني القائد خير الدين بربروسا بالإبحار إلى فرنسا بأسطول قوامه 100 سفينة و30 ألف جندي لمساعدة الفرنسيين بتحرير مدينة نيس من أساطير دوقية سافوي الموالية لشارلكان، وقد نجح بربروسا من تحرير المدينة والانتصار على جيوش الرومان والإيطاليين. وإثر هذا الانتصار العثماني الكبير عرض ملك فرنسا على بربروسا إقامة قاعدة عثمانية في ميناء طولون الفرنسي المطل على البحر الأبيض المتوسط لحماية فرنسا من هجمات الإمبراطورية الرومانية مقابل مساعدة العثمانيين بتحرير تونس، وقد قبل بربروسا العرض بعد أخذ موافقة السلطان العثماني وسرعان ما تحولت مدينة طولون إلى مركز عسكري ضخم للحملات العثمانية، واستمر التحالف العثماني الفرنسي ما يقارب ثلاثة قرون حتى إقدام نابليون على مهاجمة مصر والتي كانت تعتبر إحدى أراضي الدولة العثمانية منطلقاً من ميناء طولون نفسه الذي قدمه فرانسوا الأول للعثمانيين من أجل حماية فرنسا من الخطر الروماني.
(المصدر: مدونات الجزيرة)