بحوث “المثلية” وتحديات الخطاب الإسلامي والعمل الدعوي
بقلم أحمد التلاوي
طالعتنا قبل أيام نتائج دراسة علمية أُجرِيَتْ في بريطانيا وأوروبا عن الشذوذ الجنسي أو الميول الجنسية المثلية (أي ميل الإنسان جنسيّاً إلى نفس النوع).
الدراسة التي جرت في بريطانيا، في إطار مشروع “UK Biobank”، بالتعاون مع شركة أمريكية تعمل في مجال الاختبارات الوراثية، وشمل نصف مليون متطوِّع بريطاني، جرت مقارنة النتائج التي وصلوا إليها مع بيانات ومعلومات عشرات الآلاف من الأفراد ذوي الأصول الأوروبية، انتهت إلى أن هناك جينات –قليلة العدد– ترتبط بالسلوك الجنسي المثلي للإنسان بشكل واضح.
وأشارت الدراسة إلى أن هذه الجينات، مع عوامل بيئية أخرى، هي التي ترسم السلوك الجنسي للأفراد.
صحيح أنها لم تتوصل إلى رابط دقيق بين هذه الحالة وبين جينٍ بعينه، إلا أن مجمل النتيجة يمس قضية ذات أهمية في المجال العلمي/ الطبي والنفسي، والمجال الحقوقي، وهي قضية طبيعة الميول الجنسية المثلية، هل هي مرض، عضوي أو نفسي، أو كلاهما معاً، أم فطرة ولكن أصحابها أقلية، مثل أصحاب العيون الزرقاء أو الخضراء أو الرمادية لأن الشائع في ألوان العيون، الأسود والبني، أم هي انحراف سلوكي!
وفي حقيقة الأمر، فإن توصيف هذه الحالة هذا في غاية الأهمية بالنسبة لنا كمسلمين لأن أي توصيف علمي محايد أو موضوعي لها يمس صميم توصيف الشريعة الإسلامية وأحكامها فيما يخص اللواط (العلاقة الجنسية بين اثنين من الذكور) أو السحاق (العلاقة الجنسية بين اثنتين من الإناث)، وبالتالي يجب الوقوف عندها.
وعموماً فإنه حتى الآن فإن منظمة الصحة العالمية لا تعد الشذوذ أو المثلية مرضاً.
وقبلاً، فإنه من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن مصطلح “الشذوذ الجنسي” ليس مصطلحاً شرعيّاً؛ فلم يرد في القرآن الكريم ولا في السُّنَّة النبوية الشريفة، ومثله “اللواط” و”السحاق” لم يرد فيهما أصلاً أو نصّاً شرعيّاً.
وقد تفرض بعض قواعد الخطاب السليم، أنه إذا ما أردنا وصول الرسالة إلى الطرف الآخر، فإنه ينبغي ضبط المصطلح بما يضمن جذب الجمهور الآخر -أيّاً كان- لسماعك.
ويفرض ذلك عددٌ من الأمور:
أولها/ التطورات العميقة الحاصلة في المجال الاجتماعي والإعلامي في زمننا المعاصر، وفي قواعد الاتصال الإنساني، وفي تقنياته، وفي طبائع الإنسان بشكل عام في ظل السيولة والانفتاح في عصر ما بعد الحداثة.
وأبسط أدلة ذلك، هو ما نراه من تبدلات في سياقات العلاقة بين الأب والأم وبين الأبناء، بما فيها الأسر التي تتبنى أنساق التربية الإسلامية.
وثانيها/ أن الجمهور العام -سواء المسلم أو غير المسلم- ينظر للعاملين في حقول العمل الإسلامي المختلفة -وبالذات الدعوة- على أنهم –أي هؤلاء العاملون والدعاة– أمرٌ مختلف عن الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وقت البعثة، فما هو مقبول من النبي -عليه الصلاة والسلام- وطرائق مخاطبته لنا كمسلمين، غير مقبول من غيره.
وكلا النقطتَيْن ليستا من نافل القول، والاستطراد فيهما ليس خروجاً عن القضية الأساسية لهذا الموضع من الحديث بل هما مرتبطتان بصلب الحديث في هذا الموقف، وهو في إطاره أو عنوانه العام، ضرورة ملاءمة الخطاب والعمل الدعويَّيْن، والأساس الفكري والعقلي الذي ينطلقان منه، لمستجدات واقع الحال، أيّاً كان مجال هذه المستجدات عِلْم، مجتمع وسلوك… إلخ.
وكنا قبلاً قد كتبنا على موقع “بصائر” أكثر من مقال وورقة عن التحدي الكبير الذي تمثله المكتشفات العلمية الحديثة للدعوة، وذكرنا فيها خصوصاً المكتشفات المتعلقة بالعلوم الحيوية، وعلوم الأنثروبولوجي؛ لأنها التي تتماس مع حقائق كثيرة ذُكِرَت في القرآن الكريم، ونصَّت عليها آياته، ووردت في شأنها أحكام شرعية.
وتُجدِّد الدراسة الأخيرة -التي نُشِرَت نتائجها قبل أيام- طبيعة النقاشات والمواقف التي قدمتها أصوات بعض الناشطين في حقول العمل الإسلامي المختلفة، وشباب كثيرون.
فهناك من أصحاب العقليات السطحبة من غير المتخصصين، ولكن تغلب عليهم الحماسة الدينية، تصدُّوا للأمر بمنطق: “الدين على حق ولو خالف مكتشفات العلم”، وهذا خطأ؛ فلابد -في مثل هذه الحالات- من بحثٍ وتفسير واضح، بل شديد الوضوح إلى درجة الانسجام والتطابق الكاملَيْن.
هذه الطريقة في تناول مثل هذه الأمور، تعكس فهماً ضعيفاً بدوره في استيعاب مفهوم العِلْم؛ لأن العِلْم ومنجزاته ومكتشفاته ليس مخترعاً إنسانيّاً، ولا هو بالأمر المادي البعيد عن الدين والعقيدة، فهو في جذره وصميمه، عبارة عن اكتشاف الإنسان لقوانين الخَلْق التي وضعها اللهُ -عز وجل- في خلقه: في الإنسان، وفي الكون، وفي كل شيء.
العِلْم ومنجزاته ومكتشفاته ليس مخترعاً إنسانيّاً، ولا هو بالأمر المادي البعيد عن الدين والعقيدة، فهو في جذره وصميمه، عبارة عن اكتشاف الإنسان لقوانين الخَلْق التي وضعها اللهُ -عز وجل- في خلقه: في الإنسان، وفي الكون، وفي كل شيء
ونحن عندما نقول إن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان فإننا نقول ذلك لأسباب وبواعث كثيرة، منها أن الشريعة تُوَائِم وتواكب الفطرة؛ لأن الشارِع والخالق واحد، وهو اللهُ -عز وجل- وبالتالي، ووفق المبدأ القرآني: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]؛ فإنه ينزِل أحكاماً تتوافق مع طبيعة الخَلْق فهو – حاشاه – لن يأمر الإنسان بما لا يطيق، والقرآن الكريم أكد على ذلك في قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۚ} [البقرة: 286].
وفي موضوع المثلية/ أو الشذوذ الجنسي، هذا الأمر يمس نقطة خطيرة؛ لأن الجدل يخص قضية الفطرة، كيف تحرِّم وتجرِّم الشريعة أمراً “أثبت” العلم أن للفطرة علاقة فيه ولو كانت ضعيفة!
هذا السؤال بحاجة إلى جهد علمي وشرعي واسع، ولن ننتصر فيه بمجرَّد الحماسة الدينية.
وهذا ليس بدعاً من المنهج الدعوي السليم؛ فالقرآن الكريم ذاته احتوى على مئات الآيات التي خاطب فيها اللهُ جل وعلا ذاته، العقل الإنساني، وتبنى صيغة الإقناع، بينما لا نجد وصفاً لما نجده من البعض بين ظهرانينا، سوى أن فينا ضعيفي الفهم الصحيح للدين، وكأنهم لم يقرأوا القرآن الكريم.
فلا يمكن بحال وأنت تناقش القرآن الكريم والشريعة، أن تتجاوز العِلْم وفق هذه النظرة الفلسفية الإسلامية له؛ فمكتشفات العِلْم ليست من صنع الإنسان.
ونوضِّح هنا بأمثلة: فالإنسان ليس هو الذي وضع صفات اليورانيوم التي تجعله يفرِز كل هذا الكَم من الطاقة الحرارية لو قذفت ذرته بنيوترون حُر، هذا –ببساطة- هو خلق اللهِ تعالى لهذَيْن العنصرَيْن، قدرة النيوترون على اختراق ذرة اليورانيوم، وتوليد الذرة التي قُذِفت لهذه الطاقة الحرارية.
والعلماء الذين اكتشفوا الجاذبية الأرضية لم يصنعوها، وما اكتشفوه من أدوات لتجاوز تأثيرها إنما هي كذلك عبارة عن مكتشفات لخواص وصفات وضعها اللهُ تعالى في المواد التي استخدمها العلماء، متى استخدمت بترتيب وتركيب معيَّنَيْن لهذا الغرض.
وكل ما فعلناه نحن، هو أننا قد اكتشفنا ذلك، بل وأزيد هنا أن التواتر والتراكمية في هذه النقطة إنما هي بإرادة الله تعالى، وفق ما شاءته حكمته في صيرورات التطور البشري والحضارة والعمران على الأرض، وكل ذلك يجري وفق معادلة كونية تجمع بين قانون مهم، هو قانون التسخير، وبين عملية تحقيق سُنن ثابتة، وهي الاستخلاف وعمارة الأرض، إلى أن يأذن اللهُ تبارك وتعالى وتنتهي الدنيا.
فالعلم بهذا المعنى، ليس من ممتلكات أديسون؛ فهو لم يخلق الإلكترون، ولم يمنحه صفاته هذه، لقد اكتشف خصائصه فقط، وطوَّعه بالصورة التي استفدنا منها في المصباح الكهربائي وكذا.
هذا لا ينفي أسبقية العلماء، ولا ينفي نسب المجد لهم، فيُحسَب للعلماء الماديين أنهم توصلوا إلى هذه القوانين والصفات من خلال اجتهادهم طبعاً، وللعلماء المسلمين باعٌ طويل عبر التاريخ في مجال العلم التجريبي.
إنما هنا فقط نرُدُّ الأمور إلى أصلها، ففي النهاية هم لم يخلقوا شيئاً لكي أخرج أنا -كمسلم- وأقول: “الشريعة أسمى من أن يثبتها العلم أو أن تكون شريطةً له”، كلا… ما ثبت من خواص للمادة والمخلوق هي من لدن اللهِ تعالى، ويجب إن حدث تضاد ظاهري بينها وبين حكم شرعي أن أبحث في كيفية المواءمة بين الأمرَيْن، وأن تكون مواءمة يقبلها غير المسلم قبل المسلم.
ما ثبت من خواص للمادة والمخلوق هي من لدن اللهِ تعالى، ويجب إن حدث تضاد ظاهري بينها وبين حكم شرعي أن أبحث في كيفية المواءمة بين الأمرَيْن، وأن تكون مواءمة يقبلها غير المسلم قبل المسلم
وثمة نقطة مهمة تجب الإشارة إليها هنا؛ لكي نستكمل أركان الصورة كافة، وهي أن بعض ما يعلن عنه من مكتشفات علمية يثبت خطأه فيما بعد، هذا سليم، ولا يتناقض مع ما سبق، وفي النهاية فإن البحث العلمي في معناه القريب إنما هو أداة قياس وتجريب، وبالتالي فإن هناك عوامل كثيرة للخطأ ، مثل أن يخطئ العالِم في العَدِّ أو في ضبط شروط وظروف التجربة، أو أن يكون متحيِّزاً، والتحيُّز في البحث العلمي مصطلح منضبط وواسع، ومن أخطر الأمور التي يمكن أن تدمِّر التجربة.
لكن ليس هذا ما نقصده في هذا السياق عندما تحدثنا عن أهمية أن نضع العِلْم ومكتشفاته نصب أعيننا، وبالذات في مجال العلوم التي ذكرنا أنها تتماس مع أمور كثيرة في القرآن الكريم وفي أحكام الشريعة.
فما نقصده هو أن ما يثبت قطعاً حول طبيعة الخَلْق من حولنا لا يجب أن نتلقاها عقليّاً بالمعنى القاصر أنها عبارة عن منجز أو جهدٍ بشري.
من دون ذلك سوف ينهار بنيان الدين بالكامل لدى كثير من معتنقيه ولدى مجتمعات الدعوة، فسوف تنفصل عُرى المعادلة الأساسية للتوحيد، بل والإيمان بوجود الله تعالى نفسه، وهي أن المشرِّع والخالق واحد.
وفي الأخير، فإن -وفق نتائج الدراسة الجديدة- مسألة أن الشذوذ أو المثلية الجنسية، هو فطرة أو طبيعة إنسانية ليس أمراً ثابتاً، ولكن جذر المشكلة، هي طرائق التعاطي مع مثل هذه الأمور من جانب جمهور واسع من المسلمين، ومنهم علماء لا يضعون في حسبانهم نقطة أن إقناعك لغير المسلم باعتناق الإسلام بهذه الطريقة، وبالذات في المجتمعات المتقدمة في المجال العلمي، والتي تُعْلي من سطوة العقل سوف تقود مجرد التجربة معها إلى فشل مبين.
والأخطر من ذلك أن: في ظل أننا لدينا أجيال من المسلمين ممَّن يمكن أن نطلق عليهم “مسلمين بالوراثة”، ولا يعلمون عن دينهم الكثير، وفي ظل الفوضى والسيولة التي تحكم كل شيء في عالمنا المعاصر فإننا سوف نقف أمام ظواهر سيئة مثل التفلُّت من الدين، وصولاً إلى الإلحاد الصريح.
وفي حقيقة الأمر فإن ذلك بحاجة إلى جهد مزدوج، في الاتجاه الدعوي والتربوي، لترسيخ المفاهيم السابقة، وآخر في اتجاه أكثر صعوبة، وهي مزج العمل الدعوي بطابع علمي، يعمل على كسر الصورة الذهنية الخاطئة بوجود تعارض ظاهر بين الشريعة وأحكامها، وبين مكتشفات العلم الحديث، مع الوضع في الاعتبار أهمية الاهتمام بما هو ثابت يقيناً من قواعد ومكتشفات علمية، وليس بما هو لا يزال في طور البحث وعدم اليقين.
(المصدر: موقع بصائر)