باسم العلمانية.. هكذا تحارب فرنسا الإسلام والمسلمين
إعداد إبراهيم العلبي
يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كلّ فرصةٍ تُتاح له، ربطَ الإسلام بمصطلحاتٍ سلبية. لماذا تحارب فرنسا الإسلام والمسلمين؟
من التطرف إلى “الإرهاب الإسلامي” مروراً بـ”الإسلام السياسي” وانتهاء بـ”الانفصال الإسلامي”، لم يوفر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مصطلحاً يمكن أن يربط بين الإسلام ومفاهيم سلبية إلا واستخدمه على نحو متكرر وفي مناسبات عدة، في نهج لا يمكن أن يُفهم منه إلا تعمد وَصْم الإسلام بكل ما هو مسيء، فهل هذا مجرد خطاب لمغازلة اليمين المتطرف أو أنه يعكس عداء صريحاً للمسلمين ودينهم نتجت عنه سلوكيات عملية على أرض الواقع؟ وما أبعاد هذا العداء؟
خلال العام الماضي، هاجم الرئيس الفرنسي “الإسلام السياسي” وقال إنه “ليس له مكان” في الجمهورية الفرنسية، وكرر هجومه الشهر الماضي باتهامه بأنه يمثل تهديداً وأنه “يريد أن يحدث انقساماً داخل جمهوريتنا” على حد قوله. وسبق أن استعمل ماكرون خلال زيارته إلى مصر العام الماضي ولقائه الرئيس عبد الفتاح السيسي مصطلح “الإرهاب الإسلامي”، قائلاً إن مباحثاته مع السيسي تطرقت إليه.
ولأن مصطلح “الإرهاب الإسلامي” سبق أن استخدمه زعماء غربيون آخرون، حاول الرئيس الفرنسي على ما يبدو أن يسجل براءة اختراع في نحته لمصطلح يؤدي الوظيفة نفسها ويثير الرعب ويَصِمُ الإسلام بأسوأ النزعات، ليخرج في أواخر العام الماضي بمصطلح “الانفصال الإسلامي”، الذي اعتبره ظاهرة داخل فرنسا وأعلن عن خطة لمكافحتها بسلسلة إجراءات وُصفت بأنها تتويج لسنوات من التضييق والضغط على المسلمين وحملات الكراهية المتصاعدة ضدهم في هذا البلد.
إغلاق مساجد
شهدت فرنسا حملة غير مسبوقة ضد الإسلام والمسلمين منذ عام 2015، عقب هجوم شارلي إيبدو وهجمات باريس، في ظل حالة الطوارئ التي أعلنتها الحكومة آنذاك التي امتدت حتى نهاية 2017، وحل محلها قانون “الأمن الداخلي ومحاربة الإرهاب” بعد رفعها، وهو ما نجم عنه إغلاق عشرات المساجد وقاعات الصلاة بدعوى ترويجها للتطرف.
وكشفت جمعية “العمل من أجل حماية حقوق المسلمين في فرنسا” في تقرير لها أنه منذ 2017 حتى نهاية 2019 وضع 106 أشخاص تحت الإقامة الجبرية وأجريت 97 زيارة لأفراد، صاحبها ضبط بعض المقتنيات الشخصية، كما صدرت أوامر بإغلاق سبعة أماكن للعبادة.
وذكرت جمعيات فرنسية أن السلطات تعتبر أن مجرد اقتناء كتاب “رياض الصالحين” الذي ألّفه الإمام النووي في القرن الخامس الهجري مؤشر على التطرف يستوجب إخضاع الشخص للإقامة الجبرية أو البحث الإداري أو إغلاق المسجد.
وذكرت وزارة الداخلية الفرنسية فعلاً اسم هذا الكتاب في حيثيات سبب إغلاقها مسجدَي سارتروفيل والسنّة في منطقة هومون.
في يناير/كانون الثاني 2019، أسس ماكرون “الجمعية الإسلامية للإسلام في فرنسا” لتكون مسؤولة عن مراقبة جمع التبرعات وجمع مداخيل ضريبة المنتجات الحلال، بالإضافة إلى تدريب الأئمة واستقدامهم، في خطوة كان ينظر إليها على أنها تهدف إلى التحكم بتمويل المساجد، لكنها أيضاً مهدت لإعلان خطة للتضييق على المسلمين، وهي التي قال ماكرون إنها تهدف إلى مواجهة “الانفصال الإسلامي”.
تقوم خطة ماكرون هذه على منع المساجد من تلقِّي تمويل من الخارج وإنهاء برنامج “الأئمة المبتعثين” في فرنسا تدريجياً حتى عام 2024، والاعتماد على الجمعية التي أسسها قبل عام لتقوم بمهمة تزويد المساجد بالأئمة المدربين في فرنسا، بالإضافة إلى إلغاء دروس اللغة الأجنبية، بما في ذلك دروس اللغتين العربية والتركية في جميع مدارس فرنسا، اعتباراً من أيلول/سبتمبر القادم.
وجرت منذ سنوات محاولات عدة من قبل رؤساء بلدية ومسؤولين لوَصْمِ اللغتين العربية والتركية بالإرهاب، ومن ذلك على سبيل المثال قرار عمدة مدينة ميغان الفرنسية فرانسوا بوشير منع تدريس اللغتين في المدارس الحكومية بمدينته، ليحرم بذلك أكثر من 90 تلميذاً من أصول مهاجرة من تعلُّم لغاتهم ضمن نظام يسمى نظام “تعلُّم اللغات الأصلية”، الذي تموُّله تسع دول عربية وتركيا، بحجة أن تعلم الأطفال هاتين اللغتين يؤدي إلى انعزالهم وتورطهم في أدبيات “الإرهاب”.
وتضمنت الخطة كذلك وضع 47 حيّاً تقطنها الجاليات الإسلامية تحت المراقبة الدقيقة بدعوى محاربة التطرف و”الاتجار بالمخدرات”، ومنع المسلمين من الاستفادة من أوقات الاستحمام المنفصلة في حمامات السباحة العامة وساعات الصلاة في النوادي الرياضية.
علمانية عوراء
من المعروف أن فرنسا تعد واحدة من أسوأ الدول الغربية في التعامل مع مواطنيها المسلمين، نتيجة تبنّي نموذج متطرف في العلمانية لا يفصل بين الدولة والدين فحسب بل بين الدين والحياة، إلا أن هذا النموذج لا يفسر هذا القدر من السياسات المتراكمة في كيل العداء للمسلمين ومحاربة ثقافتهم وخصوصيتهم الدينية.
ولطالما استُخدم النموذج العلماني الذي تتبناه الجمهورية الفرنسية كمبرر للتمييز ضد المسلمين، إلا أنه وعلى الرغم من أن بعض الإجراءات المجحفة تطال ديانات أخرى في فرنسا إلا أن المسلمين يبقون الضحية الأكبر ويواجهون قدراً كبيراً من التضييق المتصاعد لا يواجه أياً من أبناء الديانات والأقليات الأخرى.
فضواحي باريس المهمشة والفقيرة من نصيب المسلمين فقط، ومشكلة الحجاب في المدارس والجامعات ومؤسسات الدولة لا تواجه الديانات الأخرى ما يشبهها، بل وصل الحال في العداء ضد الإسلام ومحاربة جوهره المتمثل بالقرآن الكريم حد توقيع عريضة من قبل شخصيات سياسية ومسؤولين سابقين ومشاهير وعلى رأسهم الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي لإبطال آيات قرآنية بدعوى “المعاداة الجديدة للسامية” والخوف على حياة السكان اليهود.
وعلى الرغم مما سبق، تصدر تصريحات عن المسؤولين الفرنسيين بين الفينة والأخرى تدعو المسلمين إلى بذل جهود أكبر في عملية الاندماج ومحاربة التطرف، دعوات يرى الدكتور بدران بن لحسن أستاذ الحضارة وتاريخ الأديان في جامعة حمد القطرية أن المقصود منها هو “إلغاء الوجود الإسلامي المتميز”.
ويضيف بن لحسن في حديث لـTRT عربي، أن “دعوة الدولة الفرنسية المسلمين للاندماج المقصود بها أن يتخلى المسلم تماماً عن أي شيء يتعلق بإسلامه وبنظرته إلى الحياة وبممارسة شعائره”، لافتاً إلى المعايير المزدوجة التي تتعامل بها فرنسا مع أبناء الديانات المختلفة، إذ إن “النموذج العلماني الفرنسي هو نموذج استئصالي مع المسلمين يضيق عليهم بشدة، لكنه متسامح مع اليهود والنصارى لا يتدخل في شؤونهم ويحترمهم”.
وحول مشكلة التطرف في الخطاب الرسمي الفرنسي، يعتقد الأكاديمي الجزائري وجود “صناعة للتطرف وليس محاربة للتطرف، فالتطرف صنع من خلال عدم السماح للمسلمين بإفراز قيادات دينية يرضونها وإنما فرض نماذج مشوهة لقيادة المسلمين مثل الأئمة الشواذ، والأشخاص الذين يحاربون الإسلام من داخله، والتعامل مع هؤلاء على أنهم قادة المسلمين وممثلوهم، ويجري تصديرهم في الإعلام بهذه الصفة”.
ويرى أستاذ الحضارة وتاريخ الأديان أنه يجري استغلال المسلمين في الحملات الانتخابية في فرنسا من أجل استمالة الناخب وتخويفه من التطرف ودفعه إلى انتخاب اليمين.
محاربة الإسلام في الخارج
ولا تقتصر سياسة التضييق والإلغاء على مواطني فرنسا المسلمين، فعند النظر في الحروب التي تشارك فيها فرنسا في أماكن مختلفة حول العالم نستنتج أنها تكاد تقتصر على بلدان إسلامية وتحت ذريعة محاربة الإرهاب، كما في مالي ودول الساحل، حيث تشن حرباً على جماعات مسلحة، وكما في سوريا، إذ تشارك بوصفها عضواً في التحالف الدولي ضد داعش، إلا أنها تساهم على الأرض في دعم مشروع منظمة YPG الإرهابية، القائم على الانفصال والتمييز العنصري والإرهاب العابر للحدود.
وحتى الماضي القريب، كانت فرنسا لا تخجل من إبداء دعمها المطلق لأنظمة قمعية في العالم العربي وظيفتها الأولى محاربة الهوية الإسلامية، كما كان الحال مع نظام الجزائر، سواء خلال حقبة العشرية السوداء التي ارتكبت خلالها فظاعات وشُنت “حرب قذرة” برعاية فرنسية على حد تعبير أحد جنرالات الجزائر. وكذلك الحال مع النظام التونسي، سواء في عهدَي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، الذي تمسكت به فرنسا حتى بعد سقوطه عام 2011، وصدرت تصريحات عن وزيرة خارجيتها آنذاك ميشيل إليو ماري تؤكد استعداد بلادها لتقديم يد المساعدة لبن علي في قمع الثورة التونسية.
وتنطلق السياسات الفرنسية في مستعمراتها القديمة وبخاصة شمالي إفريقيا من قاعدة واحدة، وهي “تعويض ما فقدته من وجود عسكري بنفوذ سياسي وثقافي واقتصادي”، كما يرى أحمد بن يغزر أستاذ التاريخ في جامعات جزائرية، في حديث مع TRT عربي.
واستشهد بن يغزر بمقولة لشارل ديغول الرئيس الفرنسي الذي شهد عهده انسحاب فرنسا من معظم مستعمراتها، وردت في مذكراته عندما كتب قائلاً: “وهل يعني ذلك أننا إذا تركناهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم التخلي عنهم بعيدين عن عيوننا وقلوبنا؟ حتما لا”.
وأضاف بن يغزر: “اعتمدت فرنسا في استمرار نفوذها في شمال إفريقيا على طرفين أساسيين: نخبة متشبعة بالثقافة الفرنسية وليست على استعداد للتفريط فيها بخاصة نفوذ اللغة الفرنسية في برامج التعليم وفي الإدارة.. وأنظمة سياسية لا تملك شرعية شعبية حقيقية، وبالتالي فإن استمرارها مرهون بدرجة اقترابها وتماهيها في السياسة الاستعمارية”.
ورأى أن “قربان الولاء الذي يقدم لفرنسا هو عدم التمكين للغة العربية ومحاصرة للثقافة الإسلامية بمختلف تجلياتها، فضلاً عن إعطاء امتيازات واسعة لفرنسا”. ففي تونس وكمثال على ذلك، كان الرئيس بورقيبة وبدعم من فرنسا يحاول الحد من كل ما يرمز إلى الإسلام على مستوى المنظومة التربوية والتشريعية والاجتماعية، وهو المعروف ببعض تصريحاته ومواقفه المستفزة، وكذلك في الجزائر جرى توظيف المد الشيوعي في مواجهة الصحوة الإسلامية على مستوى الجامعات، حسب الأكاديمي المتخصص في التاريخ.
وحول الأسباب المحتملة لما تكنّه فرنسا من “حقد على الإسلام”، أشار بن يغزر إلى أن “سبب فقدانها لنفوذها الاستعماري في كل إفريقيا هو الإسلام نفسه الذي حافظ على قدرة الشعوب الإفريقية على تثبيت هويتها ومقاومة الاحتلال”.
(المصدر: تي آر تي TRT العربية)