مقالاتمقالات مختارة

بؤس القراءة الحداثية للوحي العزيز: قراءة في فكر محمد شحرور

بؤس القراءة الحداثية للوحي العزيز: قراءة في فكر محمد شحرور

بقلم أبو نصر بن محمد شخار

مقدمة:

سلط الإعلام العربي في السنوات الأخيرة أضواءه على بعض المفكرين، في سياق حربٍ للأيديولوجيات في العالم الإسلامي، وكان محور رحى كثيرٍ من هذه الحملات الصراعَ على تشكيل هُوِيَّةِ الأمة، وإعادة تشكيل وعي ديني للفرد المسلم، ومن بين أهم هذه الشخصيات المثيرة للجدل الباحث (محمد شحرور)، الذي روَّج له الإعلام ترويجًا بالغًا، وسوَّق لبعض آرائه الشاذة تسويقًا مركَّزًا.

وبعيدًا عن تحليل الخلفيات لمثل هذا التركيز الإعلامي، سأحاول التركيز على التحليل العلمي لبعض جوانب منهجه الفكري من خلال قراءة مركَّزة للأصول المنهجية الكبرى في كتابه الضخم “الكتاب والقرآن”، الذي يُعدُّ اللَّبِنة المنهجية الأساسية لجميع أفكاره اللاحقة؛ لأضع في هذا المقال المتواضع عينة من المفاهيم الواردة في كتابه، مكتفيًا بتحليل المنهج دون النتائج.

خطة معلنة:

خلال الصفحات الخمسين الأوليات من مؤلفه الضخم، يقف القارئ على الخطة التي يسير عليها الكاتب، وهي خطة معلنة لا تحتاج استنطاقًا للمكتوب، فالكاتب يقرر أن المسلمين يعيشون أزمة فقهية حادة، ويبحثون عن بديل جديد، وهذا ما جعله “يخترق” الفقه الإسلامي؛ ليعطيَ ذلك البديل؛ [ص: 32][1]، والأزمة الفقهية المتصوَّرة عنده هي أن الفقه لا يجاري واقعَ الحال، ومهمة الكاتب رفعُ هذه الأزمة بتطويع الفقه والوحي للواقع، مبينًا أن مهمته هي بيان عدم تناقض الوحي مع “الحقيقة” و”العقل”، وهو في هذه العملية يَعتَبِرُ الواقع والعقل هو المعيار الحاكم على الوحي، فصلاحية الوحي لكل زمان ومكان هي بمعنى قدرته على مسايرة اختيارات الناس وسلوكياتهم؛ [ص: 36، 45]، وتمتد هذه الخطة إلى ما هو أبعد من الأحكام الشرعية؛ حيث تمتد إلى التصورات الكونية، فهو يعلن كذلك عن خطته في تطويع آيات الوحي لتتفق مع نظرية دارون، ونظريات تفسيرات بَدء الخلق، ونظريات المعرفة الوضعية …؛ [ص: 32، 106].

ولا يسلَمُ الكاتب من إظهار أيديولوجيته القومية والماركسية المادية في تصوراته وتأويلاته؛ فنَزْعَتُه الأيديولوجية للقومية العربية بارزةٌ في بعض أنحاء كتابه (مثلًا: ص: 39، 62)، كما يكشف عن تصوره الماركسي في المعرفة القائم على مادية العالم وعدم الاعتراف بأيِّ شيء غير ماديٍّ لا تدركه الحواس (مثلًا: ص: 42، 43)، ذلك المنهج الذي صعَّب عليه الإيمان بالخلق من العدم، فبعد كلامه عن المنهج المادي، يظهر إيمانه بنظرية الانفجار العظيم، وأن ذلك الانفجار نفسه نشأ عن مادة أخرى ذات طبيعة خاصة، وأن هذا الكون سينفجر مرة أخرى وينشأ منه كون آخر يسمى “اليوم الآخر”؛ [ص: 43] على منهج قانون “نفي النفي” في الفلسفة الماركسية.

وفي سبيل الالتزام بمنهجه المادي، يقرر أن كلام الله تعالى هو الحقيقة الموضوعية المتجسدة في الكون، وهو ما يعني أن علم الله تعالى هو نفسه الوجود، ثم يصل إلى نتيجة بالتعدية وهي: أن “الوجود الموضوعي خارج الوعي هو الوجود الإلهي”، وهو تصور أقرب إلى عقيدة الحلول ووحدة الوجود؛ [ص: 72)]؛ ولذلك نجده يستشكل أن يُقال: “قال الله: صلوا”؛ لأن ذلك يعني أن الصلاة قول الله تعالى، ومن ثَمَّ هي ناموس كوني قاهر؛ [ص: 78].

واتساقًا مع توجهه المادي، نجده كذلك يعمل على إعطاء الروح معنًى خاصًّا ليتناسب مع تطور الإنسان من حيوان، ويعطي لمصطلح “بشر” معنًى خاصًّا قبل إنساني، رغم أن القرآن الكريم في جميع استعمالاته للمصطلح كان بالمعنى الإنساني العاقل، ويفترض أن نفخة الروح هي التي حوَّلت الإنسان من البشر الحيواني إلى المخلوق الإنساني؛ [ص: 106]، رغم أن آيات نفخ الروح تشير بوضوح إلى أن الروح حوَّلته من الهيئة الطينية الجامدة إلى الحياة، تمامًا كما فعل سيدنا عيسى بإذن ربه لمَّا حوَّل هيئةً طينيةً للطير إلى طائرٍ فيه حياة بالنفخ فيها.

ويمتد هذا التحليل الماركسي المادي إلى النسبية الأخلاقية، فيُعرِّف الذاتي في سياق الأفعال الشرعية بأنها الأشياء التي تذهب مع ذهاب الإنسان، فإن مات ذهبت معه أعماله وذهبت الأحكام الشرعية؛ [ص: 105]؛ ليُلقيَ في وعي القارئ أن الوجود المثالي للفكر والأخلاق مجردُ أوهامٍ ذاتية غير موضوعية، وسنعود لهذه النقطة بمزيد من التفصيل لاحقًا.

فهي خطة معلنة لتشكيل النظرة إلى الوحي وفق رؤية كونية جديدة، تتفق مع أفكار الكاتب ونظرته للكون والحياة والمجتمع، وذلك من خلال انتهاج أسلوب تأويلي يعمل على الانتقاء اللغوي؛ إذ إنه يقرر بوضوح أن مهمة التأويل هو تطويع المحتوى القرآني لِما أدى إليه البرهان العلمي وفق البحث المادي؛ [ص: 43]، وفي سبيل هذه الخطة، سينتهج كل سبيل أعوج من تلفيق وانتقاء وتكلف كما سنبيِّن تباعًا إن شاء الله تعالى، فأين المنهج السليم في هذه السبيل؟ رغم أنه يَنْعَى على الكتاب المسلمين عدم انتهاج المنهج العلمي الموضوعي في دراسة آيات الكتاب الموحى دون عواطف؛ [ص: 30].

منهجه التأويلي:

في سبيل تنفيذ هذه الخطة المعلنة، ينتهج المؤلف منهجًا تأويليًّا يتمحور حول مبدأ “عدم الترادف”؛ ليصل إلى تصنيف موضوعي للآيات تحت مسميات خاصة، ويعطي لكل مسمًى دلالاتٍ معينة، وهذه العملية ستُسهِّل عليه لاحقًا التعامل مع الموضوعات بطريقة كلية، يغلب عليها الاعتباط والتحكم والقفز من غير دليل كما سنبيِّن بإذن الله تعالى.

فـمصطلح “الكتاب” حسب تأويله قسمان: آيات محكمات، وأُخَرُ متشابهات، ويقرر – من غير بينة ولا دليل – أن مجموع الآيات المحكمات هي الأحكام، ثم يستنتج أن صيغة “أُخَر” بالتنكير تدل على أنه ليس كل الآيات غير المحكمة متشابهة، وإنما فيها نوعٌ لا هو محكم ولا هو متشابه، ليختار أن يطلق على هذا الصِّنف الثالث – ومن غير دليل كذلك – اسم “تفصيل الكتاب”، ويفترض أنها مصداق قوله: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [يونس: 37]، ثم يقسم المتشابه – ومن غير دليل أيضًا – إلى السبع المثاني والقرآن العظيم؛ ليكون مصداق قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87]، ثم يأتي لمصطلح “القرآن” ليقرر أنه متعلق بالآيات الكونية والحقائق الموضوعية، وهو جزءان: الجزء الأول: “قرآن مجيد” هكذا بالتنكير ويشمل الحقائق الكونية الثابتة؛ كقانون الانفجار العظيم، وقانون التطور، والجنة والنار، والجزء الآخر: “إمام مبين” ويحتوي بدوره على جزأين: “كتاب مبين” وهو أحداث الطبيعة وظواهرها وهي متغيرة، و”الكتاب المبين” وهو أحداث التاريخ والقَصَصِ القرآنيِّ، نعم، “كتاب مبين” يختلف عن “الكتاب المبين” عنده؛ [ص: 80، 81].

وبعد رسم هذه الخارطة الاعتباطية، يقرر أن الآيات البينات هي آيات “القرآن” وهو الجزء الخاص بغير الأحكام، فحيثما قرأتَ وصفًا بالبينات، فهو وصفٌ لجزءٍ من المصحف وهو الخاص بالآيات الكونية، على ما تقترحه قسمة (شحرور) للآيات وتصنيفه لها، وينتقي لتبرير هذا الحصر بعضَ الآيات ويهمل آياتٍ أخرى صريحة؛ مثل: قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 47 – 49]، فالله يصف “الكتاب” بالتعريف بأنه آيات بينات، فرغم أن القرآن يقرر أن “الكتاب” بالتعريف يضم جميع آيات المصحف، إلا أنه لا يستنكف أن يحصر التبيين في الآيات الكونية فقط، ثم يقفز – من غير بينة – إلى استنتاج عامٍّ وهو أن آيات الأحكام ليس فيها بيانٌ ولا إعجاز؛ [ص: 83، 84].

ويبدأ عملية التقسيم هذه من تحليله اللغوي لمادة “كتب”، على أنها بمعنى: تجميع فروعِ موضوعٍ معين، ليصل من ذلك إلى أن كتاب الوحي عبارة عن تجميع جملة من الكتب؛ مستدلًّا بقوله تعالى: ﴿ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾ [البينة: 2، 3]؛ بمعنى: موضوعات مختلفة، ويقرر أن جميع الظواهر الكونية والإنسانية هي كتب، ويستنتج من ذلك أن قوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾ [هود: 1] لا يعني جميع آيات المصحف، وإنما مجموع الآيات المحكمات، وقوله تعالى: ﴿ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ﴾ [الزمر: 23] يعني مجموع الآيات المتشابهات، والنتيجة أن كلمة “كتاب” في الوحي لا تعني جميع آياته، وإذا أتت كلمة “الكتاب” معرفة فهي تعني مجموع كتب الوحي (مواضيعه)، وهي على نوعين: كتاب نبوة: تُعنى بذكر الآيات الكونية والوجود الموضوعي، وكتاب رسالة: يشتمل على أحكام السلوك الإنساني؛ [ص: 51 – 54].

واعتبار ورود “كتاب” منكَّرًا بمعنى جزء من الوحي أو موضوع من مواضيعه – فيه تكلفٌ بالغ لا تتحمله صيغ وروده في الوحي، فلما يقول الله تعالى مثلًا: ﴿ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 2]، أو يقول: ﴿ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1] – فبأيٍّ منطق نفهم من هذه الآيات أنه يتكلم عن جزءٍ خاصٍّ من الآيات المنزلة، وليس عن الوحي كله؟

ويقوده هذا المنهج إلى التكلف البالغ في تعامله مع المادة اللغوية “كتب”، فالكتابة عنده لا تعني الخطَّ بالقلم، وإنما مجرد الجمع الشفوي لأجزاء موضوع معين، فهي تعني – مثلًا – الجمع الشفوي لتفاصيل العقد في آية الدين؛ [ص: 142، 143]، واستحضِرْ أيها القارئ النبيه أن فعل “كتب” في آية الدين تعني مجرد المشافهة بجزئيات الاتفاق بفَهمِ الكاتب، وحاول أن تفهم معنى الإملاء، ومعنى كاتب العدل، ومعنى استثناء التجارة الحاضرة عن الكتابة، وكذا استثناء مَن كان على سَفَرٍ ولم يجد كاتبًا بأن يكتفي بِرِهانٍ مقبوضة … إلخ.

واستعماله لمبدأ “عدم الترادف” فيه مغالطة خفية، فعدم ترادف الصفات لا يعني بالضرورة اختلاف ذوات الموصوف؛ فالله تعالى عليم خبير حكيم، فلكل صفة معنًى خاصٌّ، ولكن لا يعني اختلاف ذات الموصوف وتعدده بالضرورة، و(ابن فارس) نفسه الذي يستلهم منه الكاتب هذا المبدأ ينفي التلازم الضروري بين اختلاف الصفة واختلاف الذات؛ فيقول في معرِض الرد على الاحتجاج عليه بأن انعدام الترادف يعني عدم جواز أن يعبر عن الشيء بالشيء: “إنما عبر عنه من طريق المشاكلة، ولسنا نقول: إن اللفظتين مختلفتان، فيلزمنا ما قالوه، وإنما نقول: إن في كل واحدة منهما معنًى ليس في الأخرى”[2]، وهذا الأمر جليٌّ في عدة آيات؛ كقوله تعالى: ﴿ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ﴾ [غافر: 3]، فحَمْلُ الأوصاف لمعانٍ مختلفة لا يعني بالضرورة الكلام عن ذاتين مختلفتين، كما أن العطف لا يقتضي المغايرة بالضرورة في الذات، فمغايرة الصفات كافية للعطف، فالله تعالى يقول: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِن ﴾ [الحديد: 3] فعَطَفَ بين متحدِ الذات مختلف الصفات، وفي سياق تفسير قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 3، 4] يقول إمام اللغة الزمخشري: “فإن قلت: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُون ﴾ أهم غير الأولين أم هم الأولون؟ وإنما وسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك: هو الشجاع والجواد، وفي قوله:

إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهمامِ *** وليثِ الكتيبة في المزدحمِ

وقوله:

يا لَهْفَ زيَّابةَ للحارثِ *** الصابحِ فالغانمِ فالآيبِ”[3].

فهذا الأمر معهود في لغة العرب، ولا يغير من هذا دعوى وقوع الترادف أو عدمه، بل إن الكاتب نفسه يفهم أن العطف بين الذكر والقرآن في قوله تعالى: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 69] بأنه على تغاير الصفات وليس بالضرورة تغاير الذات، فيرى بأن “الذكر” يدل على صفة العبادة، و”القرآن” يدل على العلم والاستقراء والمقارنة مع اتحاد الذات؛ [ص: 64]، ولكنه يأبى أن يعترف بهذا المعنى البلاغي في العطف بين الكتاب والقرآن وغيره.

وفي هذه التقسيمات جميعها لا نجده يحرص على بيان المناسبة الدلالية بين الاسم والمسمى، بين المحكمات وأم الكتاب وآيات الأحكام والقرآن وآيات الكون، ولا بين دلالة “قرآن مجيد” والحقائق الكونية الثابتة والجنة والنار، ولا بين “إمام مبين” و”كتاب مبين” وأحداث الطبيعة، ولا بين “الكتاب المبين” وأحداث التاريخ والقصص القرآني، ولا نجد بيانًا للدلالة الفارقة بين تنكير “كتاب مبين” وتعريفه ليدل على حقائق وماصدقات مختلفة؛ فهي مجرد قسمة اعتباطية لا يسندها بيان ولا منطق مقبول.

ويتضح للمتابع بجلاء أن الغرض من هذه التقسيمات الاعتباطية هو محاولةُ سلبِ كلِّ قدسية وثبات وإعجاز من آيات الأحكام؛ حيث انطلق من عزلها عن غيرها من الآيات، ثم سَلَبَ عنها صفة الثبات والتبيين والإعجاز؛ ليتفرد بها لاحقًا بالتفكيك، وجميع ذلك بمنهج انتقائيٍّ تحكميٍّ مليءٍ بالثغرات والقفزات ولَيِّ أعناق الآيات؛ لتنسجم مع النموذج الجاهز لخطته المعلنة ابتداءً.

الانتقائية والتحكم:

وطريقة التحكم والقفز إلى النتائج من غير مقدمات سليمة ولا أدلة مقنعة – تملأ كتابه، حتى إن القارئ لكتابه لَيُصابُ بالإنهاك والتعب، لا لصعوبة تركيبه وعمق معانيه؛ وإنما للفوضى المنهجية والقفز المستمر دون بينة؛ فقد دأب على استعمال نتائجَ مُشكِلةٍ مقدماتٍ لإشكالات أخرى، ليصل إلى نتائج مُشكِلة أخرى تكون مقدمات لغيرها وهكذا، ومثاله: أن يستعمل المقدمة غير المثبتة وهي أن “آيات القرآن فقط وقع عليها الإنزال جملة واحدة”؛ ليستدل بها على أن القرآن جزءٌ من المصحف وليس كله، وبما أن آيات الأحكام اقترن إنزالها بتنزيلها في قوله تعالى: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ﴾ [محمد: 20]، وبما أنه قال: ﴿ أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ﴾، فهذا يتناقض مع إنزال القرآن جملة واحدة (المقدمة المشكلة)، فقيَّد الإنزال بالإحكام، والإحكام لا يتعلق بالقرآن وإنما بآيات الأحكام (المقدمة المشكلة الأخرى)، فدلَّ ذلك أن القرآن غير المصحف (النتيجة المفترضة)؛ [ص: 163]، فهو دور دائري لا تكاد نتيجة منها تنتج من مقدمات سليمة حتى تجدها مقدمة لنتائج أخرى، حتى يُصاب القارئ المنتبه بالإنهاك، فإما أن يقع في وَهْمِ أن الأمر دقيق ومرتب وأعلى من مستواه، فيقبل بالنتائج دون تمحيص، وإما أن يترك الكتاب ويمضي، وعملية الاعتباط هذه ليست أمرًا استثنائيًّا، وإنما هو أمر غالب في جَنَباتِ هذا الكتاب، وعليه أسَّس أغلب استنتاجاته.

وإضافة لِما مرَّ معنا من أمثلة، يمكن ضربُ مزيدٍ من الأمثلة على هذه المنهجية غير السوية، فنجده – مثلًا – يفرِّق – من غير دليل – بين مصطلح “القرآن” معرفًا و”قرآن” منكَّرًا، فيقول إن الثاني جزء من الأول، ثم يذكر الكثير من الآيات من غير دلالة على محل البحث؛ [ص: 74]، ليفترض من غير دليل أن مصطلح “قرآن مجيد” يعني الحقائق الكونية التي لا تتبدل مثل: الانفجار العظيم، وهو جزء من “القرآن” بالتعريف، بمعنى أن قوله تعالى: ﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾ [ق: 1] يشير إلى جزء من المصحف، أما قوله: ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ﴾ [البروج: 21] فيعني جزءًا من ذلك الجزء، هكذا تحكُّمًا ومن غير حُجَّةٍ وتبريرٍ محترم.

أما القسم الآخر من القرآن فهو “الإمام المبين” وضمنه “الكتاب المبين”، وليس “الكتاب” مطلقًا، فإن تَلَوْتَ مثلًا قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [الشعراء: 2]، فالمقصود: القصص فقط، وأما إن قرأت: ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ﴾ [الحجر: 1]، ففيه عطفُ عامٍّ على خاصِّ الخاص؛ فـ”الكتاب” هو كل الوحي، و”قرآن مبين” هو جزء من “القرآن” الذي هو جزء من “الكتاب”، وإذا قرأت قوله تعالى: ﴿ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [النمل: 1]، ففيه عطف عام على خاص؛ فـ”كتاب مبين” هو جزء من القرآن، والذي هو جزء من الكتاب، ولا تَسَلْ حينها عن “تلك”، وإلى أي معهود عند المنزل عليهم تشير، ولما تقرأ قوله تعالى: ﴿ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 1 – 3]، فالمقصود إنزال جزء القصص والنواميس الجزئية في تلك الليلة المباركة، ولكن لما تقرأ قوله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، فهو يتكلم عن القصص مضافًا إليها النواميس الكونية الثابتة، ولما تقرأ قوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16]، فالمقصود هو جزء من القرآن الذي هو جزء من “الكتاب”؛ يعني: يخرجهم الله تعالى من الظلمات إلى النور بالآيات التي تتكلم عن أحداث وقوانين الطبيعة الجزئية أو عن القصص، وصدق الله تعالى في وصف مثل هذا التعدي على القرآن الكريم بقوله: ﴿ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الحجر: 91 – 93].

ومن أمثلة هذا المنهج غير السوي أن يقفز من حقيقة كون الخبر حقيقةً موضوعية، وأن الأمر والنهي معرفة معيارية قابلة لعدم الالتزام من المخاطب – ليستنتج أن الأوامر والنواهي ليست من كلمات الله تعالى؛ لأن كلمات الله تعالى لا مبدل لها؛ [ص: 78]، مفترضًا أن عدم الالتزام من المتلقي هو من التبديل، ولكنه لا يُظهِرُ هذه المقدمة غير المسلَّمِ بها، كما أن قوله تعالى: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ [الكهف: 27] يقتضي حسب تحليله أن “كتاب ربك” – رغم أنه مُعرَّف – لا يعني نفس مصداق “الكتاب”، الذي يعني عنده جميع آيات المصحف!

وبالرغم من استنكاره استعمال عبارة “قال الله” في الأحكام؛ [ص: 78]، يعود في الصفحة التي تليها ليقترف ما أنكره، لـمَّـا اضطُر إلى التعامل مع آيات فيها مادة “القول” في الأحكام؛ وهي قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [البقرة: 58، 59]، فيفترض أولًا أنَّ “قلنا” تنطبق على الأمر بالدخول والأكل فقط؛ لأنه تحقق واقعًا، فلم تتبدل كلمات الله تعالى، أما الأمر بالسجود والقول “حطة” فليست قولًا، ولكن الآية التي بعدها تصف عصيانهم بمخالفة قول الله تعالى، ليقرر أن ذلك القول ليس من كلمات الله تعالى، ولكن لماذا يا أستاذ؟ يجيبنا: لأنه تم تبديله، فيكون لقول الله تعالى استعمالان: أحيانًا بمعنى الكلمات، وأحيانا بمعنى آخر، أما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [النحل: 51]، فيقفز بصورة فَجَّةٍ على منطوق الآية، ويعتبر أن قول الله تعالى إخبار موضوعيٌّ بأنه لا يوجد إلا إله واحد، وليس في الآية أمر بعدم اتخاذ إله مع الله؛ [ص: 79]، وهذا اللَّيُّ للآيات لتنسجم مع مفهوم مقترح من عنده مبنيٌّ على مقدمات غير مثبتة، وهو كذلك تحليل يتسم بالانتقائية؛ فلم يتتبع جميع الآيات التي يلتقي فيها “القول” مع الأمر التكليفي، مع ثبوت مخالفة بعض المأمورين للقول؛ ومن ذلك: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ﴾ [البقرة: 34]، وقوله تعالى: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ [البقرة: 35]، وقوله: ﴿ وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ﴾ [النساء: 154]، وغيرها، ويبدو أن التكلف قد أرهق الكاتب كما القارئ!

وهذه الانتقائية أمر منتشر في كتابه، فهو مثلًا يقرر من غير استقراء للآيات أن وصْفَ “البصائر” هو فقط للآيات الكونية والنواميس الموضوعية، ويستدل لذلك بكون الوحي وَصَفَ آياتِ موسى بالبصائر، فيستنتج بسرعة من ذلك أن البصائر تنطبق فقط على جزء من الكتاب، فيكون على تفسيره للبصائر وللقرآن أن مقصود قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 203، 204] هو جزء من المصحف فقط، وهو الآيات المتعلقة بالكون والنواميس، أما آيات الأحكام فغير داخلة في هذا؛ [ص: 84، 85]، ولكن هذه الآية نفسها ليست من “القرآن”؛ لأنها أمر تكليفي، كما يهمل كليًّا آياتٍ أخرى تنقُضُ استدلاله الأول؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون ﴾ [القصص: 43] التي تصف بوضوح الكتاب المنزل على موسى كله بالبصائر، وبعد هذا التحليل الناقص المتعجل يقفز إلى الأسفِ على التفسيرات الكونية الخاطئة التي أُلحقت بالقرآن، وكأن تلك التأويلات ما كانت لتحصلَ لو عرف المفسرون الأوائل تقسيمه الاعتباطي هذا.

ويجد نفسه بمنهجه الانتقائي المضطرب حائرًا أمام قوله تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران: 48] في شأن النبي عيسى عليه السلام، فيضطره منهجه القاضي بالتغاير في الذات بين المعطوفات إلى القول أن الكتاب هو تشريعات موسى وعيسى عليهما السلام، أما التوراة والإنجيل فخاصة بالنبوة وليس فيها تشريع، وهذا مخالف لما عرَّف به “الكتاب” الموحي إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فيضطر إلى القول – تحكمًا واعتباطًا – أن “الكتاب” بالنسبة لمحمدٍ يعني: التشريعات + النبوات، وأما بالنسبة لموسى وعيسى فهو التشريع فقط؛ [ص: 136]، ويتجاهل آيات كثيرة تناقض هذا التوجه كليًّا، وتنص على احتواء التوراة والإنجيل على الأحكام؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 43]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة: 44]، وقوله: ﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 47]، وقوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 66]، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 111]، وغيرها، ولكن يبدو أن الكاتب ليس معنيًّا بمراد الله تعالى، بقدر ما هو معنيٌّ بتأكيد نظريته بأقل قدر ممكن من القرائن والأمثلة القرآنية – أو بالأحرى الكتابية – ولو خالفتها البينات القرآنية الكثيرة.

من أمثلة التعميمات الانتقائية أنه يرى أن كلمة “الجعل” مختصة بالقرآن فقط، والقرآن – حسب فهمه – لا أحكام فيه، رغم أننا نجد قوله تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48] يناقض تلك النتيجة، ثم يستعمل تخصيص “الجعل” للقرآن ليصل به إلى نتيجة متكلفة أخرى وهي أن تخصيص “الجعل” بالقرآن دون آيات الأحكام يجعل آيات الأحكام نزلت وأُنزلت على مدار مدة الوحي؛ هذا كله لكي يعطيَ معنًى خاصًّا لإنزال القرآن وهو التحويل الكوني من القانون إلى المدركات الواقعية، ويسلب هذا المعنى من آيات الأحكام؛ فيجعل إنزالها وتنزيلها واحدًا، وبطريقة لا تَمُتُّ إلى المنهجية المحترمة.

ولما يترك المتدبر هذه المماحكات الانتقائية، سيجد أن آيات القرآن الكثيرة ناصَّةٌ على سقم نظرية أن الأحكام ليست جزءًا من “القرآن”، وهي النظرية التي يمهد بها لنيله من أحكام الله تعالى كما سنبين لاحقًا إن شاء الله تعالى؛ فالله تعالى مثلًا يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ * مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون ﴾ [المائدة: 101 – 103]، وقوله تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا * وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا * وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 80 – 83]، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]، وقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98]، فهل لا يُستعاذ بالله إلا في آيات الكون والقصص؟ وقوله: ﴿ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 105، 106]، فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ الآيات التي ليس فيها أحكام؟ وقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴾ [طه: 113]، فتصريف الوعيد يأتي في سياق العقوبة على التعدي على الأحكام، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 29، 30]، فإلى ماذا كان يسمع الجن؟ وهل هناك تصنيف أو تأليف قرآني خاصٌّ راعى تقسيمات الكاتب فاستمع له الجن أم استمعوا لنفسِ ما يتلوه المسلمون الآن وتواتر عبر الأجيال في نَظْمٍ مركب، لا يُفرَّق فيه بين حكم شرعي وآية كونية وناموس طبيعي؟ ويقول تعالى كذلك: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 19]، فهل كان القرآن فصلًا خاصًّا في المصحف مفصولًا عن غيره ليشار إليه بـ”هذا”؟ …؛ إلخ، والأمر نفسه بالنسبة لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [يونس: 37]، وغير ذلك.

ولو تواضع (شحرور) لمن يعتبره من أئمة اللغة، لوجد بيانًا فخمًا لمعنى لفظة “القرآن” عند ابن فارس لمَّا يقول: “(قري) القاف والراء والحرف المعتل أصل صحيح يدل على جمع واجتماع؛ من ذلك القرية: سميت قريةً؛ لاجتماع الناس فيها” فهو يشير إلى العلاقة الدلالية بين ذلك الجذر واسم “القرآن”؛ إذ يقول: “سُمِّيَ بذلك؛ لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص وغير ذلك”[4]، فترى أن المعنى في أصله اللغوي يدل على الجمع والتركيب، ولكن (شحرور) يستخدمه للتفكيك والتقسيم والتشتيت والتفتيت، فمَن هو الحُجَّةُ الذي يمكن الوثوق بفهمه البياني؛ ابن فارس الذي ألَّف روائع في اللغة والبيان، أم شحرور؟

منهجيته في تهميش آيات الأحكام الشرعية:

لقد كان واضحًا منذ البداية أن خطة الكاتب هي عزل آيات الأحكام عن غيرها من الآيات، وإحاطتها بأوصاف وتصورات خاصة؛ بغرض الالتفاف على قدسيتها وتعاليها على الزمان والمكان؛ ليصل إلى حلِّ ما يسميه “الأزمة الفقهية” عند المسلمين.

ففي مخططه التجزيئيِّ لآيات الوحي، يفصل بين الآيات الكونية وآيات الأحكام، ويعتبر أن مصطلح “القرآن” في الوحي ينطبق فقط على الآيات الكونية؛ ليصل بهذه القسمة إلى إبعاد آيات الأحكام عن أي صفة أُطلقت في الوحي على “القرآن”، وهي خطوة كبيرة تجاه تجريد آيات الأحكام عن قدسيتها، وكان منهجه انتقائيًّا في تثبيت هذه التجزئة المفترضة، ومن ذلك قوله بأن “القرآن” هدًى للناس وليس للمتقين، ومن ثَمَّ فهو خاصٌّ بغير آيات الأحكام، وجليٌّ أن هذه النتيجة لا تستقيم؛ أولًا لأن الله تعالى لا يقتصر على مخاطبة المتقين فحسب في سياق الأحكام الشرعية؛ فيقول تعالى مثلًا بعد بيان بعض أحكام الصوم والاعتكاف: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187]، ويقول: ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 221]، ويقول: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ﴾ [المائدة: 97]، ومثل ذلك افتتاح سورة النساء بالنداء للناس وأَمْرِهم بعدة أحكام شرعية، كما أن مصطلح “القرآن” يأتي أحيانًا في السياق الخاص بالمؤمنين والمتقين؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 44]، وقوله تعالى: ﴿ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 28]، وقوله: ﴿ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النمل: 1، 2]، وغير ذلك، فهي قسمة انتقائية لا يسندها استقراء الآيات.

ويسلك الكاتب كلَّ مسلك لأجل تبرير هذه التجزئة الاعتباطية، ونفي انتماء الأحكام لـ”القرآن”؛ ومن أمثلة ذلك تفسيره لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ﴾ [فصلت: 44] بمعنى: ألَّوْ جعل الله تعالى الآيات الكونية بلغة أعجمية، لقالوا لولا فُصلت آيات الوحي بعضها عن بعض ليكون “القرآن” وحده وآيات الأحكام وحدها، وللوصول إلى هذا الفَهمِ كان عليه أن يتخير بطريقة تحكمية عوائدَ الضمائر في الآية، فيرى أن الضمير في “جعلناه” يعود لمتأخر عنه وليس لمتقدم، ويختار أن يعود الضمير في “آياته” لاسم أبعد من “القرآن” وهو “الذكر” المذكور قبل ثلاث آيات في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴾ [فصلت: 41]، وبعد هذا التحكم غير المنسجم يتكلم عن “الوهم الكبير الذي وقع فيه المفسرون”؛ [ص: 119].

ومن أمثلة هذه المنهجية المضطربة في نفي انتماء آيات الأحكام إلى ما يسميه “قرآنًا”: قوله بأن سورة التوبة سورة محكمة؛ لأنها سورة للأحكام فقط، وهي لا تبدأ بالبسملة، لأن البسملة فيها اسم “الرحمن”، والله يقول: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرحمن: 1، 2]، وفعل “علَّم” هنا لا يعني التعليم وإنما العلامة؛ أي: جعل الله تعالى اسم “الرحمن” علامة لوجود “القرآن” في السورة، وبما أن التوبة كلها أحكام ومن ثَمَّ لم ترِدْ فيها البسملة، وأنت ترى هذه الجرأة والأريحية في التلفيق اللغوي والربط التحكمي غير القائم على أي دليل إلا بعض التشابهات والتكلف البعيد، كما أنه تلفيق يفتقد لأية منهجية مطردة؛ فسورة التوبة مثلًا وردت فيها آيات وعيد، وورد فيها مثلًا قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [التوبة: 116]، وغير ذلك، وهي – حسب تصنيفه – من آيات “القرآن”، وقد يُقال: إنها الاستثناء، وإن الغالب هي آيات الأحكام، فنقول: لماذا إذًا وردت البسملة في سورة الأنفال مثلًا وغالب آياتها أحكام؟

وليجيب عن إشكالية تداخل آيات الأحكام والوعد والوعيد والآيات الكونية، بحيث لا يمكن التفرقة بين أجزاء متمايزة للمصحف – يذهب إلى فَهمِ لفظة “التفصيل” بمعنى تمييز الشيء عن غيره وإبانته، ولكنه يختار التمييز المكاني وليس البيان وتمييز المعاني؛ فيفسر قوله تعالى: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1] بأن معنى “كتاب” هنا: هو مجموع آيات الأحكام، فقد أُحكمت ثم وُزِّعت في أنحاء المصحف، وتم الفصل بينها بالآيات الكونية التي يسميها “قرآنًا”، فلما تقرأ قوله تعالى: ﴿ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [فصلت: 2، 3]، فإن (شحرور) يقول لك بأن عبارة ﴿ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾ هي حال لفعل ﴿ فُصِّلَتْ ﴾، والمعنى حسبه هو أن آيات الأحكام فُصلت مكانيًّا في المصحف بطريقة وُضع بينها آيات القرآن، وهو تأويل عجيب، فحتى لو سلَّمنا جدلًا أن كلمة “كتاب” تعني هنا آيات الأحكام فقط، وأن كلمة “قرآن” تعني آيات كونية فقط وأنها أتت في محل حال لفعل “فصلت” – وجميعها مقدمات لم يقُمْ عليها برهانٌ سليم مقبول – فإن المعنى سيكون كما يقول علامة اللسان العربي الزمخشري: “فصلت آياته في حال كونه قرآنًا عربيًّا لقوم يعلمون؛ أى: لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي المبين، لا يلتبس عليهم شيء منه”[5]، وهو معنى معقول مقبول للحالية، على أنه تقدير إعرابي لم يرجحه الزمخشري وإنما رجح الوصفية، أما ما فهمه (شحرور) من الحالية فأمر غامض لا يتحمله تركيب الآية، وإنما هو فهم أتى لتطويع معنى الآية ليتماشى مع نموذجه الذي يتصوره في تجزئة المصحف إلى كتب، ثم يقترح حكمةً لهذا التداخل بأنه يمنع تزوير آيات الأحكام كما فعل أهل الكتاب، وهذا بعيد كذلك؛ لأن أهل الكتاب زوَّروا جميع أنواع الآيات من الأحكام إلى الآيات الكونية إلى آيات اليوم الآخر، كما أن هذه الحكمة المفترضة لا تبرر التفسير المتعسف الذي اقترحه.

ومن نتائج هذه التفرقة أنه يرى أن آيات الأحكام لا توصف بالحق، وإنما “القرآن” فقط يوصف بذلك؛ [ص: 105]، ويتكلف في سبيل هذا تكلفًا بالغًا، ولا أدري كيف يفهم مثلًا قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105]، فهي وصف للكتاب كله، ووصف أتى في سياق الحكم بين الناس.

ولم يكتفِ بمحاولة سلب وصف “الحق” من آيات الأحكام، بل حاول أن ينزع منها أيَّ إعجاز وجمال بيان، فيصفها بأنها آيات “سهلة الفهم” بخلاف آيات “القرآن”، وأن “أي إنسان يفهم آية الإرث وآية الوضوء، وأي إنسان يفهم أحكام الصوم …”؛ [ص: 159]، ويقارن ذلك مع تعقيد آيات الكون، وهنا نجد عدم انسجام في معيار المقارنة، فإن كان المقصود من السهولة يُسْرَ الفَهمِ اللغوي، فلا تختلف آيات الأحكام عن آيات الكون، وإن كان الغرض إدراك الأبعاد الكونية والاجتماعية ومقاصدها، فلا تختلف كذلك آيات الأحكام عن غيرها في تعقيد فهم المصالح والحكم الاجتماعية والقانونية لتلك الأحكام، بل قد تكون الظاهرة الإنسانية أكثر تعقيدًا من الظاهرة الطبيعية.

ولمَّا يحاول أن يضفيَ على آيات الأحكام مزيدًا من النسبية، يقضي بأن آيات الأحكام تخضع في فهمها لأسباب النزول الظرفية، مع نفي علاقة “القرآن” بأسباب النزول؛ [ص: 159]، رغم أن آية سورة الفرقان المتعلقة بأسباب النزول استعملت لفظة “القرآن”، ويذهب أبعد من ذلك لما يقرر وجود المنسوخ في آيات الأحكام، ويرى أن ترك الآيات المنسوخة في المصحف إشارة لنا إلى أن آيات الأحكام يمكن أن تنسخ؛ [ص: 160، 161]، فهل يعني ذلك أنه يمكن لشحرور مثلًا أن ينسخ ما شاء من آيات الأحكام متى رأى حكمةً في ذلك؟!

ودومًا في سبيل إعطاء قيمة هامشية لآيات الأحكام نجده يصفها بالذاتية؛ إذ إن الموضوعي هو ما كان حقيقةً خارج الوعي البشري عرفه الناس أم لم يعرفوه، ويُقال له: حق وباطل، أما الأحكام الشرعية فهي “ذاتية” يُقال لها: حلال وحرام، واعتبر الأحكام ذاتية؛ لأنها راجعة لاختيار الإنسان إن شاء عمِل بها أو تركها، وهذا المعيار الفارق لا يستقيم، كما أن في هذه المقارنة مغالطة تغيير المعيار، فالأحكام باعتبار صدورها من خالقٍ عليمٍ حكيمٍ تدل على أقصى درجات الموضوعية في تحقيقها للمصلحة والحكمة، وتلك المصلحة متحققة في موضوع الحكم بغض النظر عن التزام الإنسان بها أو تركها، على غير تفسيره الغريب للذاتي بأنها الأشياء التي تذهب مع ذهاب الإنسان، فإن مات الإنسان ذهبت معه أعماله، فكانت الأحكام الشرعية ذاتية؛ [ص: 105]، ولعل هذا التحليل هو نتاج أيديولوجية مادية يصدر منها الكاتب، ترى نسبية الأخلاق وأن الوجود المثالي للفكر والأخلاق مجرد أوهام ذاتية، وإن كنا نتفق بوجود الفارق الموضوعي بين آيات الأخبار والأحكام من حيث حتمية الأولى ووقوع الثانية في دائرة الاختيار – فإننا لا نرى أثرًا لهذا التفريق على وصف الأحكام بالذاتية من حيث صدورها مجردة من مشكاة الحكمة الربانية المطلقة.

ومن عجيب تطويعه للآيات لتتفق مع هذه القسمة المفترضة أنه أراد أن يعطيَ للفساد معنًى كونيًّا في سياق الأوامر التشريعية في قصة شعيب: ﴿ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 85]، فهو يرى أن الأمر بوفاء الكيل هو أمر تشريعي، أما النهي عن الإفساد فهو نهيٌ عن الخروج عن تعليمات رب العالمين؛ [ص: 137]، وإذا أخذنا بمعياره في التفريق بين التشريعات والآيات الكونية الذي هو الحتمية والاختيار، فكيف نسمي النهيَ عن الإفساد ومخالفةَ القانون الطبيعي قانونًا موضوعيًّا مع قدرة الإنسان على انتهاك ذلك؟ أما إن كان تفريقه قائمًا على طبيعة ما تمَّتْ مخالفته، بحيث إن الإفساد مخالفة لناموس طبيعيٍّ والفسوق مخالفة لناموس أخلاقي، فهذا كذلك لا يخرجها من دائرة التشريعات ما دامت أمرًا قابلًا للامتثال والانتهاك، ولا فرق بين قانون في الكون وقانون في الأنفس أو في المجتمع.

وبعد هذه التحكمات الاعتباطية، يذيِّلُ كلامه بكلام عاطفي لا تسنده الحقيقة التاريخية، معتبرًا سبب تراجع المسلمين المعاصر هو عدم تفرقتهم بين القانون الكوني والأخلاقي، تُرى ما سبب التقدم المادي لدول إسلامية سابقة وتفوقهم على الأمم الأخرى، وبفهمٍ للوحي يخالف فهم الكاتب هذا؟ وهل سيتقدم هذا العالم المتخلف بمجرد تفريقه بين “أم الكتاب” و”القرآن”؟ فهو يسقط في مغالطة “رجل القش” بافتراضه أن المسلمين يعتبرون الأحكام من القوانين الكونية؛ لأنهم لم يفرقوا بين “القرآن” و”أم الكتاب”، وأنهم يعتقدون أن الناس مجبرون على اتباعها، فيفترض هذه النتيجة ويسخر منها، ولا قائل لهذه النتيجة من المسلمين، ثم يسوق إشكالية مسائل القدر ويربط بها سبب التخلف، دون بيان رأيه في هذه المسألة القدرية الدقيقة؛ [ص: 157].

وفي سبيل بيان انسجام مسألة “ذاتية الأحكام” ضمن منظوره، وقع في تكلفات لغوية بالغة، فمثلًا عند بيانه للفرق بين الإنزال والتنزيل، وأن الإنزال: هو التحويل إلى دائرة المدركات – يفسر قوله تعالى: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3] بأن معنى “الشهر” هنا من الإشهار مثل الشهر العقاري، وكلمة “ألف” من التأليف؛ أي: إن إشهار القرآن خير من كل الإشهارات مؤلَّفة بعضها مع بعض، رغم أن الخيرية نسبة لليلة القدر وليس للإنزال أصلًا؛ [ص: 153]، كما تكلف تكلفًا بالغًا في بيانه أن كلمة الحديث في قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ﴾ [يوسف: 111] من الحدث: وهي أحداث كونية وإنسانية، فأُنزل القرآن ليجمع الحدث الكوني (الآيات الكونية) والحدث الإنساني (القصص)؛ [ص: 93]، ولا أدري كيف سيفهم مثلًا قول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87] باستعمال تلك الدلالة؟

وفي سبيل مزيدِ تهميشٍ لآيات الأحكام، ركَّز على الفارق بين النبوة والرسالة، فالنبوة من “النبأ” بمعنى: الخبر، أما الرسالة: فهي مجموع الأحكام والأخلاق؛ [ص: 54]، ولكنه لم يقدم دليلًا مقبولًا على عدم إمكان ورود لفظ “النبي” بمعنى الإنباء والإخبار عن الأحكام الشرعية، ولكنه بمجرد تخيُّلِ هذا الفهم الظني الذي يعدم دليلًا، يستسهل تجاوز عشرات الأحكام الواردة في سورة الأحزاب والطلاق والتحريم وغيرها؛ لأنها أمر للنبي وليس للرسول.

كما نجده يعطي لمصطلح “الحنيفية” معنى التغير والتبدل والتطور؛ [ص: 449]؛ ليصل إلى كون أحكام الشريعة متغيرة متطورة، وفي سبيل هذا البيان ينتهج منهج التشويش والإغراق بحشر مفاهيم لا تزيد المفهوم إلا التباسًا، فمثلًا لكي يتكلم عن الثابت والمتغير في القانون الإسلامي – وهو معنًى متفق عليه بين الفقهاء لكن بضبط منهجي دقيق يحفظ للأصول القرآنية ثباتها – أولًا يتكلف معانيَ بعيدة للحنيفية، ثم بعد ذلك يحشر مصطلحات هندسية لا علاقة مفهومة لها بالموضوع إلا ليشرح الثبات والتغير بوجه عام، وكذا الحد الأعلى والأدنى؛ [ص: 451]، ويخيَّل للقارئ غير الخبير بذلك الفن أن في الأمر علمًا دقيقًا بطريقة ما، ولكن الواقع أن تلك المقدمات مجرد عمومات ظنية لا علاقة مباشرة لها بالنقطة المبحوثة، ثم تأتي الوسائط الرياضية لتعمل عليها، والنتيجة لن تكون إلا الظنون طبعًا.

وبعد هذه التحكمات يسوق لنا بدعة أخرى، وهي أن الأوامر الشرعية لا تدل على أوامرَ دقيقةٍ وإنما تدل على حدود عليا ودنيا، فيرى مثلًا أن آيات الميراث بيَّنت الحد الأدنى والأعلى، فَأَخْذُ الابن لضعف البنت هو أعلى حدٍّ للتفاوت بينهما، ولا يجوز تعدي هذا الحد تجاه التفاوت ولكن يجوز الاتجاه نحو التساوي؛ لأن الفطرة الحنيفية تتفق مع الاتجاه نحو التساوي، فعلمنا بأنه حد أعلى وليس أدنى؛ [ص: 459]، هكذا في استنتاجات من دون حجة ولا بينة محترمة، فما أدراه أن الحنيفية تتجه نحو التساوي وليس العدل؟ وهل العدل يقتضي التساوي بالضرورة؟ وما مقياس العدل في التفاوت المذكور في الآية إن كان مقبولًا من الكاتب؟ والغريب أنه عاد فأعطى تفسيرًا آخرَ لآية الميراث بأنها تأمر بالمساواة تحديدًا، وليس في الأمر حدود عليا ولا دنيا[6]، ولستُ أدري كيف لا ترهبه آيات الوعيد التي تَلَتْ آيات الميراث: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 13، 14].

وبهذه المنهجية التحكمية يعطي الكاتب لنفسه حرية تصنيف الأوامر وإعطاء الشروط والقيود بطريقة اعتباطية دون منهجية اجتهادية محترمة، فنجده مثلًا يقرر أن آيات نهاية سورة البقرة التي تُحرِّم الربا وتأمر بأخذ رأس المال فقط موجهة إلى حالة كون المقترض ممن لا يقوى على إرجاع أكثر من رأس المال، أما قوله: ﴿ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ﴾ [آل عمران: 130]، فهي خاصة بالتجار ورجال المال؛ حيث لا يجوز لهم الإقراض بأكثر من الضعف؛ [ص: 471]، ومثل ذلك أقواله في الزنا والصوم وغيرها.

ونلحظ في هذه التخريجات وغيرها أريحية التقييد والتصنيف والاشتراط والانتقاء تحكمًا، ومن دون حرج التقول على الله تعالى، ولا يجد حرجًا في تجاوز المعاني العملية التي أجمعت الأمة عبر أجيالها على فهمها وتطبيقها نقلًا متواترًا من عهد النبي الأسوة صلى الله عليه وسلم، بل إنه غير معنيٍّ بذلك كله ولا بحدود اللغة المسموعة المنقولة إجماعًا وتواترًا، وإنما كل ما في الأمر أن يختار من المعاجم أيَّ معنًى يتسق مع نموذجه ولو كان شاذًّا، ثم يضع للآيات معانيَ وقيودًا تحكمية، ويرجِّح من غير مرجح، ولا يتجرأ أحد من رواد هذه القراءات البائسة فِعْلَ ذلك مع منظومات القانون الوضعي البشري.

وجليٌّ أن الغرض النهائي هو إنتاج نظرة للوحي تُفرِّغه من سلطته على الواقع، فيغدو مجردَ نصٍّ هلاميٍّ ذليلٍ أمام سلطة الواقع يُشكِّله حسب تغيراته وأهوائه، حتى إنك لتعجب من آيات الوعيد الكثيرة التي تملأ هذا الوحي، ماذا يبقي لها من مفعول وحكمة إن كان مفهوم مخالفة الوحي نفسه أصبح مفهومًا غير قائم؟ فكل التطبيقات الممكنة يمكن تطويع النص الذليل لها وفق هذه المنهجية، فيمكن أن نحكم بعدم مشروعية الصلاة المعهودة؛ لأن المقصود بالصلاة هو الدعاء، وأن نقضيَ بعدم وجود فريضة الزكاة؛ لأن الزكاة بمعنى الطهارة فكل ما يمكن أن يكون طهارة للنفس اعتُبر زكاة، سواء أكان بالإنفاق أم باليوجا! ويمكننا بهذه المنهجية أن نقول أقوالًا في جميع أركان الدين، بل حتى في التوحيد والشرك، ولكن وعيد الاستهزاء بالآيات يحجزنا عن ذلك حتى من باب الإلزام بالحجة، وصدق الله تعالى في وصف مثل هذا التلبيس بلفظة اللَّيِّ: ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 78].

ختامًا:

أتوقف عند هذا الحد تفاديًا للتطويل، وهذه عينة بسيطة من كمية الاضطراب المنهجي التي يقف عليها القارئ الواعي لهذا المؤلف، وهي عينة حاولتُ الاقتصار فيها على ما يتعلق بالمنهج دون تطبيقاته، ولو تتبعنا مزالق الكتاب جميعها، لاحتجنا لمؤلَّف بطولِ كتابه أو يزيد، وليس الغرض من هذا المقال إلا بيان نماذج من الاضطراب المنهجي الكلي وليس التتبع الاستقصائي، وإن القراءة لكتاب شحرور (الكتاب والقرآن) مرهقة، ليس لصعوبة مفاهيمه وعمقها؛ وإنما لعدم منطقيتها وانسجام منهجها، فهو في غالبه تجميع اعتباطي للمفاهيم، واقتراحات تحكمية، وتفسيرات ذاتية لا يضبطها مسار منهجي صُلْبٌ يمكن أن تحاكمه إليه، فالقارئ يجد نفسه أمام هلامية مائعة تُغرِق ناقدها، فهي أقرب لقراءة ذاتية للمؤلف، لا تصلح أن تكون منهجًا لرؤية كونية موضوعية أو لقانون اجتماعي محكم يتشارك عليه العقلاء.

وجهد الكاتب واضحٌ، ولكنه للأسف لم يكن جهدًا متجردًا يقف فيه أمام الوحي متعلمًا باحثًا عن مراد الله تعالى الحق، وإنما كان جهدًا منحازًا لخطة مسبقة، فكان إقحام الوحي في قالب تلك الخطة الجاهزة مرهِقًا ومضطربًا، ولكننا نأسف من تذرُّعِه بهذا النقد ليأتيَ على أصول وأركان كبرى للإسلام والوحي تواتر رسوخُها لدى علماء الأمة قاطبة، وربما يكون هذا التفكيك مجردَ ردَّةِ فعلٍ غير مدروسة تجاه واقع المسلمين، ومن الطبيعي أن تدفعه ردة الفعل هذه إلى محاولة تطويع الوحي لواقع الحضارة الغالبة ماديًّا.

ولكن هذا الغلو مع الأسف لن يُولِّدَ إلا ردة فعل أشد قتامة وإيغالًا في الحرفية والشكلانية واللاعقلانية؛ لأن مثل هذا التصور يعمل على ترسيخ اغتراب الوحي ومضامينه لصالح رؤية غريبة مستوردة، وخاصة مع الترويج الإعلامي الذي يحظى به الكاتب في السنوات الأخيرة لأسباب سياسية شبه معلومة، فبخلاف المنتفعين بآراء (شحرور) أو من كانت له شِقوةُ هوًى تجاه أحد أركان الشريعة وجد لها متنفسًا في آرائه – فإن غالبية المسلمين ستقاوم هذه التصورات المستفزة، فتكون الخسارة الكبرى للتيارات النقدية المتوازنة التي تعمل على الحفاظ على نصاعة أصول الشريعة، مع نقد ما يعكر صفوها من تراث إنساني ظرفي.

إن القارئ النبيه المنتبه ستتجلى أمامه الخلفيات الفلسفية التي ينطلق منها الكاتب في تحليلاته، وهي في غالبها تستند إلى رؤية فلسفية مادية للوجود والمجتمع، ومن سوء تقدير الكاتب أن يعتقد أن التحليل المادي هو نهاية التاريخ والعلم، وأن يدمن استعمال عبارة “القراءة المعاصرة”، وهي في الحقيقة قراءة تجاوزها الزمن، فالعلم المعاصر بدأ يتوب ويؤوب إلى خالقه، ويتخفف من ماديته، ويعد الرؤية المادية “نظرة قديمة” في مقابل “النظرة المعاصرة” التي يتسع أفقها للتحليل اللامادي، ويمتد رحابها إلى الروح والوعي العقلي الرحيب، وهذا ما نجده مثلًا في كتاب The New Story of Science لروﺑﺮت م.أﻏﺮوس، وﺟﻮرج ن.ﺳﺘﺎﻧﺴﻴﻮ، أحدهما فيزيائي والآخر فيلسوف، وهو كتاب صغير الحجم عظيم الفائدة، مكتوب بلغة علمية واضحة وضوح الحقيقة وجلاءها، وقد أفرد المؤلفان فصلًا تحت عنوان “God” ينقل القارئ إلى آفاق من الروح بلغة العلم المعاصر، وهكذا ينبغي أن تكون القراءة، قراءة يلتقي فيها جمال الكتاب المنظور مع الكتاب المقروء، لا قراءة تخنق روح الوحي وتنزل به إلى دركات المادية الموحشة، منتهكة منظامه وأصوله وحتى بيانه وجماله.

وإن مرجعية هذه القراءات الحداثية نابعة من فلسفة تؤمن بالسيولة والنسبية الأخلاقية، ولا تعترف – غالبًا – بالمتجاوز اللاهوتي، وتستخدم أدوات اللسانيات الوضعية للتعامل مع النص بوصفه وثيقة لغوية مصمتة، مقطوعة عن أي زَخَمٍ تاريخي أو روحي، فمن التزييف والخَطَلِ المنهجي انتهاج ذلك المنهج مع ادعاء الإيمان بقدسية النص وربانيته، فالقراءة التفكيكية تسعى لتحويل النص القرآني الذي يصف نفسه: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾ [فصلت: 41، 42] إلى نص يفسره القارئ حسب أهوائه وأيديولوجياته عبر الانتقاء والتحكم وتتبع الشاذ من اللغة، مهملًا المنهج المعياري التاريخي الذي يستحضر أصول التعاقد اللغوي في عصر التنزيل، مع التوسل المغرض بأداة التفسير الموضوعي لتهميش المركزي وتفخيم الهامشي؛ لتنتج لنا قراءة تلفيقية بائسة تفتقر لأي روح وحياة، ويصبح تصور الصواب والخطأ والحق والباطل نسبيًّا لا يتعين، ويصبح المعنى نفسه ضائعًا مؤجلًا كما يقول أرباب التفكيكية، على عكس الوصف الإلهي لبيان القرآن الكريم وحجيته ورسوخه في صدور الذين أوتوا العلم والبيان، الذين أُنزل عليهم بلسانهم الذي يفهمون، ونقلوا لنا بيانه متواترًا جيلًا عن جيل، وحافظوا – على اختلاف مذاهبهم – على أصوله الكبرى أو ما يسمى “المعلوم من الدين بالضرورة”، وتلك هي الروح الدافئة والسكينة العميقة التي يجدها القارئ المتدبر سليم القلب لمَّا يتلو القرآن العظيم الميسر للذكر.

إن ظاهرة (شحرور) ليست الأولى ولن تكون الأخيرة؛ فهي جزء من فلسفة الابتلاء في هذه الحياة الدنيا، فالله تعالى يقول: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20]، فليس ادعاؤنا للإيمان بألسنتنا بالضرورة صادقًا، فلا بد من تمحيص واختبار: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2]، وفتنة الاتباع لمجرد تبرير هوًى اختبارٌ قد يخفق فيه الكثير، وقد حكى الله تعالى وقائع تنازع يوم التغابن بسبب اتباع الهوى؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ﴾ [البقرة: 166، 167]، كما أن الإضلال قد يكون بآيات الله تعالى نفسها، وهو أمر واقع حكى عنه القرآن: ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 78]، فالله يهدي بالقرآن مَن كان صادقًا في بحثه عن مراد الله تعالى، كما يُضلُّ به مَن كان في قلبه زيغ يبحث عن مراده في كتاب الله تعالى: ﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26]، فالجميع في اختبار، وكل فرد حرٌّ في خياراته الفكرية، كما أنه مسؤول وحدَهُ عن مصيره، إنه منطق الحرية المسؤولة القائم على حقيقة الحساب الأخروي الذي يعرضه الله تعالى بكلامه المعجز: ﴿ أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [فصلت: 40].

نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق


[1] اعتمدت في إحالات هذا المقال لكتاب محمد شحرور “الكتاب والقرآن”، على طبعة دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، وسأحيل لاحقًا خلال النص بالصفحة فقط بين قوسين.

[2] ابن فارس، الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، نشر: محمد علي بيضون، ط: 1، 1418 ه/ 1997 م، ص: 60.

[3] الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، دار الكتاب العربي، ط: 3، بيروت 1407 هـ، ج: 1، ص: 41.

[4] ابن فارس، مقاييس اللغة، ج: 5، ص: 78 – 79.

[5] الزمخشري، الكشاف، ج: 4، ص: 184.

[6] الإحالة السابقة.

(المصدر: شببكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى