انهيار محاولة فصل الدين عن الدولة
يقول الإمام الغزالي: “إن نظام الدين لا يحصل عليه إلا بنظام الدنيا”، ويقول الإمام الرازي في تفسير الآية العشرين من سورة “الحديد”: “اعلم أن الحياة حكمة وصواب”، ويبرهن على ذلك بأدلة كثيرة، منها: استخلاف الله فيها للنوع الإنساني؛ (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، وأن الحياة خَلْقُه سبحانه وتعالى؛ (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) (الملك: 2)، ولأنه لا يفعل العبث على ما قال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً) (المؤمنون: 115)، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً) (ص: 27)، ولأن الحياة نعمة، بل هي أصل لجميع النعم؛ وعظم الله المنة بخلق الحياة.. إلى آخر ما قاله الإمام، وختمه بقوله: “بل المراد أن من صرف هذه الحياة، لا إلى طاعة الله؛ بل طاعة الشيطان ومتابعة الهوى، فذاك هو المذموم” (د. محمد ضياء الدين الريس، النظريات السياسية، 154).. لقد انهارت دعوى علي عبدالرازق في محاولة فصل الدين عن الدنيا؛ وبالتالي عن السياسة، وانهار كل ما بنى عليه أيضاً.
المبادئ السياسية في القرآن والسُّنة والإجماع:
حين ينفي علي عبدالرازق عن القرآن الكريم وجود أثر فيه ظاهر أو خفي لصفة سياسية للدين الإسلامي؛ فإن القرآن الكريم اشتمل على جملة من أسمى المبادئ السياسية، منها: العدل في الحكم، والشورى، والوحدة والأخوّة، والتضامن، والتعاون في كل أعمال الخير، وولاية الأمر، والطاعة، والقضاء، والدفاع ، والجهاد.. إلخ.
فقد احتوى على قانون تنظيم شؤون الحياة الاجتماعية من كل وجوهها، واحتوى أيضاً على قوانين الحرب والسلام، وهذه من أخص أمور السياسة، وخوطبت به أمة متحدة تؤمن به ذات كيان خاص، قال سبحانه وتعالى بشأنها: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران: 110)، فعيّنها بالخطاب، أمة متميزة دون سائر الناس، ووصفها بأوصافها، وقال أيضاً: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143)، والأمة بهذا التعيين ما هي إلا مجتمع سياسي.
لقد وردت التشريعات الاجتماعية في الحديث الشريف أيضاً، ثم في السُّنة العملية بوجه أخص التي تكوّن منها المجتمع الإسلامي.
ثم لماذا يعترض على الإجماع، وهو اتفاق الصحابة الأُول الذين كانوا أول من لبَّى الدعوة، وكانوا معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم، ووثيقي الصلة به، ألا يجعل ذلك للإجماع قيمته، وأهميته التشريعية؟ وإذا كان أبوبكر، وعمر، وعلي، رضوان الله عليهم، وأمثالهم لم يفهموا الإسلام كما ينبغي، فمن الذي فهمه إذاً؟ أو يمكن أن يفهمه؟ أليس ما أقروه من أعمال هو ماضي الأمة وتاريخها وتقاليدها، فلماذا لا نجلّه؟ ولماذا لا تكون هذه الأعمال مثلاً سابقات دستورية أو قضائية نسير على منهجها؟
حتى لو لم يكن إجماعاً، بل كان “كثرة”، فله أيضاً قيمته البالغة وأهميته، وهذا هو مبدأ الأغلبية، كما يعبرون عنه الآن، وهو أساس التشريع عند الأمم الديمقراطية اليوم! (النظريات السياسية، ص 156).
انتهاء الرسالة
يدّعي علي عبدالرازق انتهاء الرسالة فيقول: “انتهت الرسالة بموت الرسول صلى الله عليه وسلم”.
هل يقصد انتهى تبليغ الرسالة؟ هذا ما لا يخالفه فيه أحد، ولا داعي لأن ينبه عليه، أما إن كان يريد “انتهى موضوع التبليغ”، انتهى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون معناه أن القانون قد انتهى، وأن الشريعة كان ينبغي ألا يُعمل بها، وأن الأمة صارت في غير حاجة إلى تنظيم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وهذا ما لا يقول به أحد، بل إن القول يخرج الإنسان من دائرة الإيمان نفسه؛ إذ مؤداه أن الإسلام كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقط!
فإن كان لا يريد هذا -لأنه يقر أنه مسلم- فهذا هو القانون الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى من ينفذه ويصونه، ويكفل له أن تحترمه الجماهير وتطيعه، وهذا التنظيم ألا يحتاج إلى من يشرف عليه ويحتفظ به؟ وهذه المبادئ الإصلاحية أليست تتطلب من يسعى إلى تحقيقها، ويضمن تثبيتها، وبقاءها ونشرها؟ وهذا الإسلام نفسه أليس من الواجب أن يوجد من يحميه، ويدافع عن أوطانه، ويرد عنه الأعداء؟ وهل كان يرضيه أن ينقلب المسلمون عقب وفاة نبيهم أفراداً متقطعين، يعيش كل منهم في أي أرض، ويخضع لأي سلطان؟ وهل يمكن أن يبقى الإسلام بعد ذلك؟ (راجع: النظريات السياسية الإسلامية، ص 156-157).
أراد المسلمون أن يتقوا المخاطر التي تحيط بالإسلام، فاجتمعوا وانتخبوا أبا بكر رضي الله عنه، خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ للمحافظة على دينه وخلافته في رعاية الأمة بعده، لتبقى حياة الإسلام، ويستمر قوياً عزيزاً آمناً، ويتمكن من أداء رسالته التي جاء يدعو العالم إليها.
وهكذا ينهار الأساس الثاني الذي بنى عليه علي عبدالرازق دعواه، وينهار كل ما رأيناه عليه أيضاً.
العقد السياسي
أجمع مجتهدو الفرق الإسلامية كلها -عدا الشيعة- على أن طريق ثبوت الإمامة هو الاختيار والاتفاق؛ أي لا النص ولا التعيين، وصاغ علماء الفقه ذلك، فقالوا: “الإمامة عقد”.
قال د. السنهوري عن طبيعة عقد الإمامة، كما عرضه علماء الشريعة الإسلامية: “إنه عقد حقيقي”؛ أي أنه عقد مستوف للشرائط من وجهة النظر القانونية، ووصفه بأنه مبني على الرضا، وأن الغاية منه أن يكون هو الذي يستمد معه الإمام سلطته، وهو تعاقد بين الأخير والأمة، ثم أشار إلى أن مفكري الإسلام قد أدركوا جوهر نظرية “روسو” التي تقول: “إن الحاكم أو رئيس الدولة يتولى سلطانه من الأمة نائباً عنها، نتيجة لتعاقد حر بينهما”، وأنهم عرفوا نظرية “السيادة” كما عبر عنها “روسو” فيما بعد، وإن كانت نظرياتهم احتوت على عنصر زائد خاص بها.
وإذا كان “روسو” يعد أبا الديمقراطية الحديثة في نظر الغرب، وأن كتابه “Le contrant Sodiel” بمثابة إنجيل زعماء الثورة الفرنسية، أدركنا إلى أي حد من الدقة والسمو والأصالة الفكرية؛ وصل الفكر الإسلامي في أبحاثه القانونية قبل مجيء “روسو” وأتباعه بقرون عديدة.
نظرية العقد الإسلامي تستند إلى ماض تاريخي ثابت هو تجربة الأمة في العصر الذهبي للإسلام؛ وهو عصر الخلفاء الراشدين، يوم كان الأمر كما وصفه شوقي:
الدين يسر والخلافة بيعة
والأمر شورى والحقوق قضاء
أما العقد الذي تكلم عنه “روسو” فكان مجرد افتراض؛ لأنه بناه على حالة تخيلها في عصور ماضية سحيقة ولا يوجد عليها برهان تاريخي.
إن العقود في الإسلام لها حرمة وقدسية مصونة، أوجب الله الوفاء بها، وتعاقبت الآيات والأحاديث مؤكدة ذلك؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1)، (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 34)، (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل: 91)، ومن الأحاديث: “أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر” (رواه الشيخان)، “إن الغادر يرفع له لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان ابن فلا” (ورد في الصحيحين).
الأمة الطرف الأول
وقد اهتم الفقهاء بالعقود، واعتنوا أشد العناية ببحث الصيغ المختلفة، وتحديد مدلولات الألفاظ الواردة بها، كما حرصوا على وضع الشروط للوثوق أن التعاقدات وقت إمضاء العقد مظهر لإرادة حرة تامة الحرية وكاملة الشعور بنفسها.
إن الموجب لعقد الإمامة الذي يتم بإيجاب وقبول، هو الأمة؛ فهي الطرف الأول بوصفها وحدة متضامنة ذات ذاتية مستقلة، ويعبرون عنها أحياناً بقولهم: “المسلمون”، وقد فصلوا في موقف الأمة، وطبيعة الإمام وشروط الإمامة، والأمة هي مصدر السلطات؛ لأنها الموجب الأول لعقد الإمامة، التي هي نيابة عن المسلمين، وهي حق الله، ويعهد إليها أداء حقوق الله ورعايتها، والأمة من الوجهة التنفيذية تتخذ العدة، وتوجد الوسائل لأداء تلك الحقوق؛ لذا فهي بالمفهوم المعاصر مصدر السلطات، وما يصدر عن الإمام مرجعه الأول إرادة الأمة، وهذا العقد حجر الأساس في بناء الدولة. (انظر: النظريات السياسة الإسلامية، ص 173-178).
ولأن الإمامة فرض كفاية أو فرضٌ عام أو اجتماعي؛ لا يمكن أن يقوم به كل أفراد الأمة في وقت واحد، فقد جاءت فكرة الاكتفاء أو التمثيل أو “الإنابة”، وظهر ما يعرف باسم “أهل الحَل والعقد”، وسماهم الماوردي وغيره “أهل الاختيار”، وهم الذين تتوافر فيهم شروط معتبرة:
1- العدالة الجامعة لشروطها (الاستقامة والأمانة والورع).
2- العلم الذي يتوصل به إلى معرفة مستحق الإمامة.
3- الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو أصلح، وتدبير المصالح أقوى وأعرف.
ويمكن التعبير عن هذه الشروط بلغة العصر الحديث: “الأخلاق الدينية الفاضلة، العلم بأحكام هذا المنصب في الدين، الثقافة والخبرة السياسيتين، فرأيُ غير المثقف -ومن باب أولى الأمّي- لا يعتد به لأنه غير قادر على الاختيار” (راجع: النظريات السياسية، 179-181).
(المصدر: مجلة المجتمع)