انقلاب 1909 العسكري الذي أضاع الدولة العثمانية
بقلم د. محمد الجوادي
حكم السلطان عبد الحميد الثاني الدولة العثمانية ما بين 1876 و1909 أي ثلاثا وثلاثين سنة، ولم يكن هذا أمر غريبا في عصره فقد حكمت الملكة فكتوريا التي عاصرته 64 عاما ما بين 1837 و1901 تمثل ضعف مدته، وقد عاصر حكمه حكمها طيلة ربع قرن من الزمان، كذلك فإن الحكام الروس الذين عاصرهم السلطان عبد الحميد تميزوا بطول مُددهم فقد حكم نقولا الأول 30 عاما وألكسندر الثاني 26 عاما حتى اغتيل، وألكسندر الثالث 13 عاما، ونقولا الثاني آخر الأباطرة الفعليين 23 عاما (1894 ـ 1917) حتى أُعدم.
مع أن الظروف الدولية المحيطة بالدولة العثمانية كانت من أصعب ما يُمكن في عهد السلطان عبد الحميد فإنه استطاع بدأب وذكاء أن يقود سفينة الدولة باقتدار في خضمٌ مُحيط مائج وهائج، من دون أن تفقد بوصة واحدة من أرضها، وكانت دعوات القومية والراديكالية تجتاح العالم وليس الإمبراطورية العثمانية وحدها فقد صادف عهد السلطان عبد الحميد موجات وموجات مرتدة من الحركيات الاجتماعية والسياسية التي جاءت كنتيجة متوقعة لظواهر مفْصلية في التاريخ الإنساني، وكان هذا السلطان واعيا وقادرا إلى حد كبير على الاستيعاب والفهم وحُسن التصرف.
ومما لا شك فيه أن النزعات الجديدة المستندة إلى دعوات براقة من قبيل التتريك والقومية الطورانية والدعوات الانفصالية كانت تُلاقي استحقاقات كثيرة كفيلة بإنعاشها ثم انتعاشها وانتقاشها على جسد إمبراطورية مترامية الأطراف قابلة للتعددية، وهكذا أخذت دعوة جماعة الاتحاد والترقي تتنقٌل من سرية مُحكمة إلى سرٌية قابلة للتسريب ثم إلى علانية حذرة ثم إلى علانية مُغامرة ثم إلى المغامرة الخاسئة.
وقد كان من سوء حظ الأتراك أن دعوة الاتحاد والترقي وجدت إطارها الفاعل في شباب العسكر الذين كان بعضهم يتوق إلى الإسراع في تحقيق الذات، وقد ظن هؤلاء كما يظُنٌ العسكر في كل مكان أن جلوسهم على كراسي الحكم كفيل بأن يُنجز لهم الأحلام والتطلعات والمثاليات التي اعتنقوها في فترة من فترات شبابهم.
ولما كانت الدولة العثمانية بحُكم تكوينها وبحكم استهدائها لروح الإنسانية في الإسلام دولة متعدٌدة الأعراق والأديان والمعتقدات فقد كان العسكريون ينظرون بقلق بالغ إلى التعددية التي لا تتناسب مع طبيعة العسكر، وفي مثل هذه الحالة فإن الحل التاريخي الأسهل عند العسكريين ومن على شاكلتهم هو الانحياز إلى طائفة ما (أيٌا ما كانت) وإلقاء كل الأمور بين أيديها، وفي أيديها وحدها، مع تبرير اختيار هذه الطائفة بالذات، والذين عاشوا العسكرية المصرية المعاصرة يعرفون أنها في فترة من الفترات انحازت إلى فكرة علو كفاءة أبناء إقليم المنوفية ومن ثم أضْفت على أبنائه كل الصفات المطلوبة للعسكرية وقلٌلت من احتمالية ونسبة وجود هذه الصفات في أبناء الأقاليم الأخرى.. ومع هذا العنت في التفسير والحكم على الأمور فإن مثل هذا التقليد لا يجد ممانعة في التطبيق المرحلي بحكم أنه يظل قابلا يوما ما للتغيير.
وقد حدثت أوضاع شبيهة بهذا حتى في مؤسسات تعليمية كالأزهر الشريف بل في شركات مؤممة، ومصانع مُنتجة، ومؤسسات قطاع خاص.. وليس هذا بالطبع مجالا للاستطراد في هذا الموضوع، لكنه تقريب لما حدث على أيدي ضباط تركيا الفتاة حين قاموا بانقلابهم العسكري تحت مظلة الدعوة إلى سيطرة الأتراك، وتفضيلهم بل تمادوا إلى القول بضرورة تتريك الأجناس الأخرى التي كانت (تبعا للمصطلحات الحديثة) تُشاركهم حقوق المواطنة في الدولة العثمانية، وهكذا جاء الانقلاب العسكري ليفرض استراتيجية مضادة لنهج العثمانيين على مدى خمسة قرون (وإن كان العرب الانقلابيون قد زوروا التاريخ كما شرحنا في مدونة سابقة) وكان من الطبيعي أن يُحس العرب والأكراد والشركس والأرمن بالقلق والتوجس والنفور من هذا التوجه الذي حمل ضباط الانقلاب العسكري العثماني رايته، ووزره بوضوح كامل منذ 1909 حين تمكٌنوا من إزاحة السلطان عبد الحميد وتولية السلطان محمد الخامس (الشهير برشاد) مكانه 1909 ـ 1918 ليكون بمثابة حاكم صوري من طراز الرؤساء الشكليين الذين نعرفهم وتفرضهم الانقلابات العسكرية ريثما تُتمٌ ما تعتبره في نظرها تمثيلية الانتخابات.
من طرائف القدر أن القيادة في عصر الانقلاب العسكري التركي لم تكن في يد قائد واحد وإنما كانت قيادة ثلاثية بين ثلاثة من الباشوات الذين تولوا الرياسة والوزارات العسكرية الثلاث: الداخلية والبحرية والحربية، ومن الطريف أن أكبرهم مقاما كان طلعت باشا وأن الآخريْن كانا جمال وأنور (هكذا كانت أسماؤهم التركية المُختصرة التي سمي بها خلفاؤهم المصريون الذين ولدوا 1918) أما أسماؤهم الرسمية الكبيرة فكانت تضم أسماء عربية إسلامية: محمد طلعت باشا (1874-1921) وإسماعيل أنور باشا (1881- 1922) وأحمد جمال باشا (1872- 1922).
من المستحيل أن نستطيع تصوير المآسي التي ارتكبها هؤلاء القادة العسكريون الذين حكموا الدولة العثمانية حكما شموليا منذ 1909 فالأمر يتطلب مُجلٌدات كبيرة لتكشف مدى اندفاعهم الدائب والمتكرر للخطأ كأنهم خُلقوا ليُخطئوا، لا لأي شيء آخر، ومع هذا فإني سأكتفي بذكر أمثلة دالة على مدى الجرائم التي ارتكبوها والنتائج الكارثية التي تحققت على أيديهم.
– ففي أول أعوام حكمهم استطاعت إمبراطورية النمسا أن تستحوذ من ذوي الخلفية العسكرية على البوسنة والهرسك دون أي جهد يُذكر.
– وفي ثالث الأعوام هاجمت إيطاليا ليبيا فتصدٌى لها الشعب الليبي وهرع إلى عونه المتطوعون المسلمون لكن القيادة الانقلابية كانت بعيدة عن أن تُحقق أي نصر مُتذرعة بطول المسافة وضُعف الاتصال.
– وجاءت الضربة الثالثة حين تحالفت صربيا والجبل الأسود واليونان مع بلغاريا (وهي ممالك صغيرة أو أصغر من الصغيرة) فاستطاعت ان تُخرج الدولة العثمانية من البلقان ولا تترك لها في البلقان إلا مدينة أدرنة، بل إن هذه الحرب التي لم يكُن لها أن تمضي على هذا النحو لولا تخاذل قادة العسكر وحُبٌهم للانهزام قد أدت إلى أكبر موجة هجرة جماعية حتى ذلك الحين حيث هاجر أربعمائة ألف مسلم إلى داخل تركيا خوفا من المذابح العسكرية التي كانت شائعة في أوروبا في ذلك العصر.
-ومن ناحية رابعة فقد اندلعت على يد هؤلاء الانقلابين المواجهات أو المعارك التي سُمٌيت فيما بعد ذلك بمذبحة الأرمن، وعلى الرغم من أن الأرمن عاشوا في الدولة العثمانية بسلام طيلة قرون فإنهم على يد العسكر الانقلابين دخلوا في هذه المحنة التي لا يزال الغربيون يستغلونها ضد الدولة العثمانية بينما كانت في البداية والنهاية قرارا عسكريا انقلابيا وليس سرا أن ملف هذه المذابح يُهدٌدُ به كل تقدٌم اقتصادي تُحقٌقُه تركيا، ويطوى الملف ويُخفى حين تكون تركيا فاشلة تحت حكم عسكري، وليس سرا أيضا أن أحد أسباب علاقة الساسة الأتراك بإسرائيل هو أنها توظف تأثيرها الدولي المعروف في تبريد ملف مذبحة الأرمن بما يُتيح الراحة للساسة الأتراك وبخاصة أن الابتزاز يتجدٌدُ، ولا يذكر العالم سماحة الإسلام وسماحة الدولة العثمانية طيلة 5 قرون لكنه يُشهر في وجهها مسئوليتها الأدبية عن الضباط العسكريين الانقلابين الذين آذوا تركيا نفسها بأكثر مما آذوا الأرمن.
– وخامسا فإنه على يد هؤلاء العسكر الانقلابين اندفعت الدولة العثمانية دون أي مُبرر لدخول الحرب العالمية الأولى لا لشيء إلا لتنتحر بصوت مدوٍ على نحو ما فعل الرئيس عبد الناصر في 5 يونيو 1967..
(المصدر: مدونات الجزيرة)