انسحاب نهائي من أفغانستان.. هل سأم الأمريكيون من رائحة البارود؟
بعد ما يقرب من 20 عامًا، ومقتل أكثر من 2300 جندي أمريكي، وإصابة أكثر من 20 ألفًا أخرين، وإنفاق أكثر من تريليوني دولار، ناهيك عن مقتل وإصابة مئات الآلاف من الأفغان والدمار الذي لحق ببلدهم؛ قرر الرئيس الأمريكي جو بايدن أن بلاده قد شهدت ما يكفي من ويلات الحرب في أفغانستان، وأنه قد حان الوقت للانسحاب النهائي منها، منهيًا بذلك أطول حرب خاضتها أمريكا في تاريخها، والتي بدأت مع الغزو الانتقامي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. فهل سأم الأمريكيون من رائحة البارود؟، وما تداعيات هذا الانسحاب؟، وهل نجحت الولايات المتحدة في إنهاء مهمتها في أفغانستان والتي ذهبت قبل عقدين من الزمان إلى هناك لتحقيقها؟
انسحاب نهائي
“القوات الأمريكية وكذلك القوات التي ينشرها حلفاؤنا في حلف شمال الأطلسي (ناتو) وشركاؤنا في مختلف العمليات، ستكون خارج أفغانستان قبل أن نحيي الذكرى العشرين لهجوم 11 سبتمبر”؛ بهذه الكلمات أعلن جو بايدن عن بدء الانسحاب النهائي للقوات الأمريكية من أفغانستان، والذي سيبدأ اعتبارًا من الأول من مايو المقبل، على أن يكتمل بحلول 11 سبتمبر. بايدن الذي يعدّ رابع رئيس للولايات المتحدة يترأسها في ظل وجود قواته في أفغانستان، قال إنه لن ينقل هذه المسؤولية إلى رئيس خامس، حيث يخطط بايدن للانسحاب دون شروط مسبقة، مما يترك الحكومة الأفغانية المتحالفة معه في كابول وحيدة في الدفاع عن نفسها عسكريًا ضد حركة طالبان، وهو ما يُعقد الموقف خاصةً وأن الحركة المسلحة قد باتت تسيطر على المزيد من الأراضي في البلاد الآن، أكثر من أي وقت مضى، منذ أن أطاحت الولايات المتحدة بالحركة من السلطة في عام 2001.
لطالما كان بايدن متشككًا بشأن الوجود الأمريكي في أفغانستان، بصفته نائب الرئيس السابق باراك أوباما، كان بايدن صوتًا وحيدًا في الإدارة ونصح أوباما كثيرًا بالميل نحو دور أصغر في مكافحة الإرهاب في تلك البلاد القاحلة، بينما كان المستشارون العسكريون يحثون أوباما على زيادة القوات لمواجهة مكاسب طالبان، بعد 4 سنوات من انتهاء حكم أوباما، كان الانسحاب من أفغانستان أحد وعود بايدن الانتخابية، كما قطع سلفه دونالد ترامب مثل هذا الوعد، لكنه لم يستطع الوفاء به، حيث أن كبار مسؤولي البنتاجون والمخابرات حثوه على الحفاظ على وجود مستمر لمكافحة الإرهاب، كانت حكومة ترامب قد اتفقت مع طالبان على انسحاب القوات بحلول الأول من مايو المقبل، لكن في النهاية كان الفشل هو مصير الاتفاق بينهما، الآن يخطط بايدن للبدء في هذا التاريخ في الانسحاب النهائي. لكن بأيّ حال فإن هذا الانسحاب يمثل نهاية لحرب سيئة الإدارة بشكل مزمن والتي تداعت دون أن يلاحظها جزء كبير من الأمريكيين، وعندما خاضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الحرب في أفغانستان في عام 2001 بهدف إزالة الملاذ الآمن الذي وفرته طالبان للقاعدة، كان من المأمول أن تنتهي من مهمتها في أسرع وقت ممكن، وعندما يتم إنهاء الدور العسكري الأمريكي في أفغانستان، فإن إدارة بايدن تقبل ببساطة حقيقة أن الحرب الدائمة لا تضمن المصالح الأمريكية.
تداعيات الانسحاب
سترحل القوات الأمريكية لكنها في نفس الوقت ستترك أفغانستان تتأرجح على حافة سكين، فالحكومة تعاني من الفساد وانعدام الثقة الشعبية فيها، أما قوات الأمن الأفغانية، وبالرغم من قيام الولايات المتحدة بتمويلها وتدريبها لسنوات طويلة، إلا أنها لا تزال محاصرة بقدرات محدودة وموارد شحيحة، ولا تزال غير قادرة على مواجهة حركة طالبان. يخشى منتقدو خطة بايدن من أن انسحاب القوات الدولية قد يكون كارثيًا بالنسبة للأفغان الذين تعاونوا بشكل وثيق مع الولايات المتحدة لعقود مضت، وكذلك بالنسبة لسكان البلاد، الذي وقع بعضهم كضحايا بشكل منهجي في ظل حكم طالبان، كما أن منتقدي خطة بايدن للانسحاب قلقون من أن الهدف الرئيسي للغزو الأمريكي عام 2001، وهو اجتثاث القاعدة وتفكيكها، قد يتقوض لأن طالبان سمحت لبقية عناصرها بمواصلة التآمر داخل البلاد.
“لم يكن القصد من الحرب في أفغانستان أن تكون مشروعًا متعدد الأجيال”، هكذا أراد بايدن ألا يطيل أمد هذه الحرب أكثر من ذلك، فبشكل رسمي هناك الآن 2500 جندي أمريكي يتمركزون في أفغانستان، إلى جانب أكثر من 7000 جندي معظمهم من حلف الناتو، حيث قاتل الحلف إلى جانب الولايات المتحدة منذ بدء الغزو، وخلال الأشهر الخمسة المقبلة، يتوجب على الحكومة الأفغانية مواجهة التحدي اللوجستي الهائل المتمثل في سحب جميع القوات والمعدات والأسلحة الثقيلة من بلد تم احتلاله لجيل بأكمله، لكن لا تزال أفغانستان غير مستقرة بشكل مزمن، حيث يموت الآلاف كل عام بسبب الحرب المستمرة والفقر المدقع والفساد المستشري، ويجب أن يستمر الدعم الاقتصادي والسياسي من المجتمع الدولي للحفاظ على تقدم هذا البلد الممزق، لكن بالرغم من ذلك.. إذا استمر هذا الدعم الدولي مع مغادرة القوات الدولية، فمن غير المرجح أن تعود أفغانستان إلى الملاذ الذي تحكمه طالبان.
لا يزال الوضع الأمني الحالي في أفغانستان معقدا وقاتما ومشكلة الإرهاب ما زالت بعيدة عن الحل، وينبغي للقوات المتمركزة في أفغانستان أن تنسحب بطريقة مسؤولة ومنظمة لضمان انتقال سلس في أفغانستان وتجنب استيلاء الحركات المتطرفة على السلطة هناك، وقد قدم تقرير استخباراتي جديد أصدره مكتب مدير المخابرات الوطنية الأمريكية، خلال الأسبوع الماضي، تقييمًا قاتمًا لأفغانستان وآفاق السلام فيها، حيث أشار التقرير بوضوح إلى أن الحكومة الأفغانية الحالية سوف تكافح من أجل كبح جماح طالبان إذا سحب التحالف قواته، لكن في كل الأحوال لن تبقى الدول الأعضاء في التحالف في أفغانستان إلى الأبد، فعندما ينظرون إلى السنوات العشرين الماضية، يجدون أن أفغانستان مليئة بالدماء والدموع فقط، وما من مكاسب حقيقية مرجوة من البقاء لفترة أطول، لكن في سياق آخر.. إذا كانت مهمة أفغانستان لا تحظى بشعبية في الولايات المتحدة، فإنها لا تحظى أيضا بشعبية في دول الناتو التي تشارك قواتها في هذه الحرب، يتساءل الأوروبيون عن سبب بقاء جيوشهم على الأرض في أفغانستان، النخبة السياسية في تلك البلدان لا تريد إفساد حملاتها الانتخابية بقضية أفغانستان.
سلام مأمول
أدى تصعيد حركة طالبان للعنف ضد الحكومة الأفغانية في الأشهر الأخيرة إلى توقف محادثات السلام بين المسلحين والحكومة الأفغانية، حيث ركزت القوات الأمريكية المتبقية في أفغانستان بشكل أكبر على ما تصفه بمكافحة الإرهاب، وبدرجة أقل على تقديم المشورة المباشرة والدعم اللوجستي والجوي للقوات الأفغانية الحكومية، تلك التي تتعرض لضربات من طالبان بشكل متزايد، فوفقًا لبيانات الأمم المتحدة؛ قد قُتِلَ 8 أفغان وأصيب 15 آخرين في المتوسط كل يوم في عام 2020 بسبب القتال المستمر، الذي تصاعد بعد بدء مفاوضات السلام في سبتمبر، وتزداد الخشية من أن انسحاب الجنود الأمريكيين من على الأرض خلال الأشهر المقبلة، فإن هذه الأرقام قد ترتفع أكثر.
ويشك مراقبو الملف الأفغاني منذ فترة طويلة في أن تفي حركة طالبان بتعهد قدمته كجزء من محادثات السلام المتوقفة للانفصال عن القاعدة، فيما تدرك إدارة بايدن بالتأكيد أن المحادثات الجارية في العاصمة القطرية الدوحة بين الحكومة الأفغانية وطالبان تشكل أفضل فرصة منذ عقود لتحقيق الاستقرار في البلاد وإنهاء 40 عامًا من الحرب، حيث يجب أن تدعم جميع أشكال المشاركة الأمريكية ـ العسكرية والسياسية والاقتصادية – هذه المفاوضات، وقد اتخذت إدارة بايدن خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح بدعوتها طالبان لدعم عملية الدوحة بمجموعة قوية من الإجراءات الدبلوماسية، وإذا تراجعت الولايات المتحدة عن الموعد النهائي للمغادرة في سبتمبر، فمن المرجح أن تفسد مفاوضات الدوحة، ليس من المنطقي تعريض أفضل فرصة لمستقبل أفغانستان للخطر من خلال الحفاظ على الوجود العسكري الأمريكي لمواجهة تهديد إرهابي محايد إلى حد كبير.
غزو أفغانستان المتسرع في 2001 لم يأخذ في الحسبان الحرب الأهلية الأفغانية التي بدأت في عام 1978 وما زالت دون حل حقيقي حتى يومنا هذا، ولم يأخذ التدخل على الأقل في الاعتبار الجراح الغائرة التي خلّفتها الحرب الباردة والاحتلال السوفيتي لأفغانستان، بعد 20 عامًا من الغزو.. كان أمام بايدن خيارين لا ثالث لهما، إما الانسحاب الكامل، كما تم الاتفاق عليه في اتفاق الدوحة، أو تمديد التدخل الذي تقوده الولايات المتحدة والذي بدأ منذ ما يقرب من 20 عامًا، في كل الأحوال لن ينتصر الجنود في هذه الحرب طويلة الأمد، كما أنهم لن يجلبوا السلام أيضا، إذن فإن الانسحاب يعدّ ورقة المساومة الوحيدة والتي لا غنى عنها في مفاوضات السلام الصعبة الجارية في الدوحة، على أن أمل أن تحدث جديدًا في الملف الأفغاني الذي طال انتظار حدوث إنفراجة حقيقية فيه.
(المصدر: مجلة البيان)