مقالاتمقالات مختارة

انحراف التدين لب أزمة البشرية

انحراف التدين لب أزمة البشرية

بقلم أ. أسامة شحادة

للأسف، إنّ قضايا فلسفة التاريخ وفِقه العِمران أو عِلم الاجتماع من القضايا المحدودة التداول من منظور إسلاميّ، برغم عشرات الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة التي تتعلّق بها بشكل مباشر أو غير مباشر، ومِن هذه القضايا مركزيّة الدين في وجود البشريّة، وهو ما سنحاول استعراضه بشكل مكثّف في النقاط التالية:

  1. التدين والعبادة هما الغاية من خلق البشرية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56].
  2. أول البشر آدم -عليه الصلاة والسلام- كان نبيًّا معلمًا مكلمًا كما في الحديث الصحيح.
  3. كلّ أمم البشر أرسل لهم الله عزّ وجلّ لها الأنبياء والمنذرين: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36].
  4. الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله -عزّ وجلّ- لكلّ البشرية عقيدة وتوحيدًا: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران:19]، مع اختلاف كيفيات الشرائع: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[المائدة:48].
  5. لا توجد جماعة بشريّة بدون دين صحيح أو باطل: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون:6]، وهذا ما توصّل له علماء التاريخ بعد دراسات طويلة، وعبّر عن ذلك “هنري برجسون” بقوله: “لقد وُجِدَت وتُوجد جماعات إنسانيّة من غير علوم وفنون وفلسفات، ولكنّه لم تُوجد قطّ جماعةٌ بلا ديانة“، ولذلك رأينا تنوّع الأديان الوضعيّة حتى عبدوا الشيطان! بلْ حتى الأفكار التي تعدّ معادية للدّين كفلسفة نيتشة وماركس مثلًا هي في حقيقتها دين استبدلت عبادة الله عزّ وجلّ بعبادة العِلم!
  6. وسوسة الشيطان بعصيان الله -عزّ وجل- كانت السبب في خروج آدم من الجنة: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف:20]، {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}[البقرة:36]، وبوسوسة الشيطان وقع تحريف الدين وعبادة الصالحين في قوم نوح عليه السلام، وكانت بداية الشرك والكفر في تاريخ البشريّة كما ورد عن ابن عباس في صحيح البخاري.
  7. انحراف التدين يكون على أشكال متعددة، منها:
  • الكفر برب العالمين، كقول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص:38]، وقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ}[النازعات:24].
  • أو يكون بالشرك مع الله عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ}[الرعد:33].
  • أو يكون بتحريف المعنى أو الأمر الرباني، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21]، يقوم محمد أركون بتحريف معناها من مطلق مخاطبة البشرية ليحصرها في الناس المحيطين بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكأنّ البشريّة من بعد وفاته -صلّى الله عليه وسلّم- غير مخاطبين بعبادة الله عزّ وجلّ!
  • أو يكون بالزيادة في الدين مما ليس منه، والتي هي البدعة في المفهوم الشرعيّ والمنهيّ عنها بقوله صلّى الله عليه وسلّم: (مَنْ أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) متفق عليه.
  1. إذا وقع الانحراف في التدين يقع الخلل في العلاقات بين الناس -أفرادًا وشعوب- ويظهر الظلم والطغيان والفساد والفواحش {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63]، وتقع الكوارث الطبيعية بسبب أعمالهم الشائنة التي تستحق العقوبة الربانيّة، أو بسبب تجاوزهم واعتدائهم على نظام الله في الكون، ويكون لذلك عواقب وخيمة: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}[الجن:16].

وما نعيشه اليوم من انحراف غالبيّة البشريّة عن دين الإسلام، نرى نتائجه في الأزمات العالميّة والمصائب والمشاكل الدوليّة والإقليميّة والمحليّة، التي لو حُكّم فيها شرع الله عزّ وجلّ لانتهت ومضت، ونرى في واقعنا ما يعانيه المسلمون من تشتّت وضَعف وتحديّات بسبب الانحراف عن أحكام الدّين والشريعة، فهل الفساد الذي نتوجّع منه إلّا بسبب قِلّة تقوى الله -جلّ جلاله- لدى السّارقين من المال العام والمتواطئين من الساسة بعدم إتقان الرّقابة والحسم، والمقصّرين في شؤون الأمن بعدم المتابعة والضبط؟ وهل ما نعيشه من صراعات وحروب إلّا بسبب طُغيان بعض القادة الذين لا يكترثون بحُرمة الحياة وعِصمة الدم والمال؟

ولبيان خَطر انحراف التدّين ونتائجه الوخيمة على المسلمين والبشريّة، نستعرض تحريف التديّن في يوم عاشوراء كنموذج لذلك، فيومُ عَاشوراء هو يوم معظّم عند الله عزّ وجل، ولذلك كان صيامه في مكّة واجبًا في بداية الإسلام قبل تشريع صيام رمضان في السنة الثانية للهجرة.

وكان يوم عاشوراء معظّمًا لدى قُريش في الجاهليّة، وكانت تصومه، واخُتلف في سبب ذلك على أقوال منها:

أنّه تأثرٌ منهم باليهود أو بالحنفاء.

ومنها: أنّ قريشًا أذنبت ذنبًا عظيمًا فنصحوهم بصيام هذا اليوم.

ومنها: أنّ ذلك من بقايا دين إبراهيم وإسماعيل، وقد يكون هذا التعظيم ليوم عاشوراء بسبب معرفةٍ قديمةٍ اندرست بنجاة موسى -عليه السلام- فيه من فرعون، فقد ثبت في السنّة أنّ موسى -عليه السلام- قد حجّ إلى الكعبة، وأنّ قبره عند الكثيب الأحمر الذي كان في طريق الإسراء!

ولما هاجر النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى المدينة أصبح صوم عاشوراء مستحبًا، وله أجرٌ عظيم، لأنّه يومٌ معظم عند الله عزّ وجل، ووجد النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- اليهود يصومونه بسبب تنجية الله -عزّ وجلّ- لموسى -عليه السلام- فيه فقال: (نحن أحقّ بموسى منهم) رواه البخاري. واستمرّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- والمسلمون على تعظيم عاشوراء وصيامه وصيام اليوم التاسع قبله، حتى جاءت سنة 61هـ، حيث قُتل الحسين بن علي -رضي الله عنه- على يد الخونة من شيعته من أهل الكوفة الذين خدعوه بطلبهم قدومه لقيادتهم ثم تخلّوا عنه وقتلوه، وهنا بدأَ تحريف التديّن في يوم عاشوراء.

لقد أتاحت وسائل التواصل نشرَ الكثير من المقاطع البشعة لانحراف التدين في عاشوراء، والتي اختلطت فيها مقاطع طقوس عاشوراء بمقاطع (كرامات) بعض الطُرق الصوفيّة التي تغرز الأسياخ الحديديّة في الأجساد، ومؤخرًا أصبحوا يتفاخرون بتقبل إطلاق الرصاص، وطبعًا كلّ ذلك يتمّ في المناطق الرخوة من الجسم والتي تتجنّب الأعضاء الحيويّة، والعجيب أنّ الصحابة الكِرام والأئمة من آل البيت قُتل بعضهم بالسيف، فهل لهؤلاء الباطلين والدجالين كرامة أكثر مِن قتل الصحابة وآل البيت؟

ومِن مظاهر انحراف التدين في يوم عاشوراء أنّه بدلًا من صومه شُكرًا على نجاة موسى -عليه السلام- أصبح الفطر هو المطلوب بحجّة أنّ الحُسين قُتل عطشان!! وأصبحت تقام الموائد والولائم الضخمة والمجانيّة بمناسبة قَتل الحسين!!

ثمّ لاحقًا تمّ استيراد طقوس تعذيب النفس بالضرب بالسيوف والجنازير وإسالة الدماء في مناظر بشعة مقززة، وأصبح التلطّخ بالطين والمشي حافيًا مسافات طويلة وتقبيل أقدام الزوّار من الشعائر التعبديّة! وكلّ هذا مخالفات صريحة لأحكام الشريعة من الطهارة وعدم الإضرار بالنفس وعدم تنفير النّاس من الدّين.

وهذه المناسبة -بدلًا مِن أنْ تكون رسالة لكلّ البشريّة بحقيقة دين الإسلام وعالميته وعولمته واحترامه لكلّ الأنبياء ومنهم نبيّ اليهود موسى عليه السلام، برغم كلّ عدوان اليهود المعاصرين وظُلمهم للمسلمين اليوم- تحوّلت لتكون المجالس الحسينيّة منابر شحن طائفي وتحريض دمويّ!!

إنّ انحراف التدّين في عاشوراء -وهو انحراف جُزئي- ترتّب عليه نتائج سَلبيّة ضَخمة، حيث قدّم صورة الإسلام والمسلمين كمتوحشين، وغَطّى على تَسامح الإسلام وعالميّة دعوته بحبّ جميع الأنبياء، واستبدلَ عبادة الصّوم بالبِدع والخُرافات، فكيف هو الحال حين يكون الانحراف في أصول الدّين أو انحرافًا عنه بالكليّة، من هنا كانت سَلامة التدّين بداية الانفراج وسعادة البشريّة.

(المصدر: موقع على بصيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى