قراءة نور الدين قلالة
كتاب “انتقام الجغرافيا” لصاحبه الأمريكي روبرت كابلان لا يتحدث فقط عن جدلية التاريخ والجغرافيا، وكيف أن هذه الأخيرة لم تأخذ حقها في تحليل العلاقات الدولية، بل يتطرق إلى كيفية تشكل الخرائط السياسية عالميا. فهو يدخل في إطار الدراسات الاستراتيجية العميقة التي تحاول الغوص في “الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر”، وتبحث في تأثير الجغرافيا في تشكيل جيوسياسة العالم من الصين إلى الهند ثم إلى إيران و الولايات المتحدة مرورا بالشرق الأوسط.
المثير في كتاب كابلان أنه من بين الفصول الـ 18 لا يخصص أي فصل مباشر يحمل إسم العالم العربي أو الشرق الأوسط، بل يضع هذه المنطقة في إطار التكهن بما يسميه “المحور الإيراني” ثم “الامبراطورية العثمانية السابقة”. وهذا التقسيم في الواقع ليس جديدا بل يلتقي مع العديد من الدراسات الأخرى التي تمنح للعالم العربي مركزا ثانويا مستقبلا وتدمجه ضمن المناطق التي تتأثر بالتطورات العالمية وخاصة القوى القريبة منها بدل أن يكون فاعلا ومؤثرا بشكل مباشر في التطورات المستقبلية.
لا مكان للعرب
وعمليا، لا تنقص الأدلة لتأكيد هذا الطرح، فإسرائيل أثرت ولا تزال تؤثر على العالم العربي، كما أثر التدخل الأمريكي ضد العراق على العالم العربي، بالإضافة إلى أن المنطقة تخضع لتأثيرات التمدد الشيعي الإيراني، الذي يظهر جليا في العديد من المناطق العربية كالعراق واليمن ولبنان وسوريا..وهذا الوضع هو الذي يجعل كابلان يعتقد أن العالم العربي (الضعيف) لا يقوى على أخذ المبادرة للتأثير في المستقبل، وإنما يتأثر بمحيطه الجغرافي (القوي).
يعالج الكتاب المناطق الأكثر أهمية من الناحية الجيوسياسية وهي أوروبا وروسيا والولايات المتحدة والصين والهند وإيران والشرق الأوسط. وعندما يتحدث كابلان عن الشرق الأوسط ، فهو يدير ظهره تماما للمنطقة العربية التي لا تحتل- في نظره- الريادة في صنع الخريطة الجيوسياسية المستقبلية.
الجغرافيا تعاقب الصين وتكافئ روسيا
ويبين كابلان كيف أن الجغرافيا مثلا ساعدت روسيا في مساعيها لتحقيق استراتيجيتها، فيما وجدت الصين صعوبة كبيرة في تخطي عامل الجغرافيا لتنفيذ سياساتها. وهو ينطلق من دراسة تاريخ كل منطقة، ويعتقد في استمرار روسيا على منوال روسيا القيصرية قديما بمعنى بسط نفوذها حيث تسمح لها الجغرافيا بذلك وحيث ينتهي التعاطف أو تأثيرها الثقافي ومنها مثلا امتداد الطابع الروسي إلى أوكرانيا والقرم.
ويقف الكتاب كثيرا عند الصين ليبرز المفارقة الهائلة في حالة هذا البلد بشأن العلاقة بالتاريخ والجغرافيا والسياسة. و يؤكد أن الصين التي بقيت منعزلة نسبيا عن العالم وتتعامل معه بحذر تام، وتجد الآن نفسها مجبرة على الانفتاح، وهي الدولة التي تتحول إلى قوة عظمى ولكن دون أن تساعدها الجغرافيا الطبيعية من حيث وفرة الأراضي الصالحة للزراعة أو الموارد الطبيعية مثل الطاقة، وبالتالي تقوم برسم خطوط تجارية تمتد من الصين إلى وسط القارة الافريقية ببرغماتية مطلقة دون تبشير بقيم أو مبادئ عكس الولايات المتحدة. ويؤكد كابلان أن هذا ما يجعل الصين لوحدها منافسة للغرب برمته.
الشرق الأوسط سكين مهترئ
لاينكر كابلان توفر منطقة الشرق الأوسط على 70٪ من احتياط العالم من طاقة النفط والغاز، لكنه بسبب التقاء آسيا وأوروبا وأفريقيا عنده، وتقاطع طرق تجارية تاريخية وتنافس الديانات والإيديولوجيات، يصفه بمثل قيام سكين مهترئ بالقطع ليعطي حدودا متداخلة بشكل متفجر.
ويحمل الفصل الذي يعالج الشرق الأوسط عنوان “المحور الإيراني” حيث منح التاريخ والجغرافيا إيران ميزة خاصة بوصفها حلقة ربط بين الجهة المطلة على البحر المتوسط بامتداداتها نحو أوروبا وأفريقيا والجهة المطلة على عالم آخر مكون من الهند والصين ونسبيا روسيا. ويقول أن الجغرافيا ساهمت في رفع مكانة إيران التاريخية، ويستمر أنه في حالة حدوث تغيير سلمي نحو مؤسسات ليبرالية منفتحة بعيدا عن مفاهيم الثورة وقتها ستستعيد إيران دورها التاريخي الحقيقي كحلقة وصل حضاري. وتزداد منطقة الشرق الأوسط أهمية لأن المناطق المتاخمة لها ومنها البحر الأبيض المتوسط ستستعيد دورها التاريخي وكذلك جنوب آسيا لتصبح حلقة أكثر وأكثر.
يتوقف الكتاب عند دولة تكتسب قوتها من موقعها الديني في الإسلام وهي السعودية التي تعتبر قلب الجغرافيا الدينية، ليشير إلى أن الخطر الحقيقي على هذا البلد هو اليمن.
ويأتي استنتاج الكاتب ثلاث سنوات قبل التدخل السعودي العسكري في “عاصفة الحزم” في اليمن حاليا لكي لا تزداد خطورته إذا سقط في يد إيران عبر الحوثيين.
سوريا والعراق أراض طاردة للحياة البشرية
في سياق حديثه عن الشرق الأوسط، تنبأ الاستراتيجي روبرت كابلان، بأن منطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد سوريا والعراق، ستتحوّل إلى أرض طاردة للحياة البشرية، وستتفكك الدولة في هذا الحيز الجغرافي، وتتحوّل السلطة فيها إلى العشائر والإثنيات، وسيتم إلحاق هذه المناطق بدول الجوار، حيث ستتغير الخريطة، وتزول دول بكاملها، وتظهر كيانات جديدة، كما أن بعض الدول ستكسب صفة “الكبير”، مثل الأردن ولبنان!
لكن كابلان لم يلمّح من قريب أو بعيد للصراع المذهبي، رغم أن مؤشراته كانت موجودة في حينه، عبر الصراع الأهلي في العراق، كما لم يتطرق للمشاريع الجيوسياسية باهتمام، رغم بدايات تبلور مشروع إيران “الهلال الشيعي”، إنما استند في تحليله على التغيرات المناخية، وبالتحديد انحباس الأمطار وجفاف الأنهار، بما يعني استحالة وجود نشاطات اقتصادية، وبالتالي حياة بشرية في هذه المنطقة.
لا شك أن كابلان لم يأتي بنظرية جديدة، وخاصة في جزئية توقعه لندرة المياه القادمة للمنطقة، فهو لم يفعل أكثر من قراءة المعطيات التي تحدثت عنها العديد من الدراسات التي تنبأت حتى بوقوع حروب تقودها إسرائيل بسبب نقص المياه في المنطقة. وتحدث عن سنوات الجفاف المديدة التي ضربت المنطقة، وانخفاض مناسيب المياه في الأنهار العابرة لسوريا والعراق وكذلك إيران ومصر،ومن الطبيعي في حالة مناطق يعتمد اقتصادها على الزراعة والرعي، حصول اختلالات نتيجة نقص المياه فيها.
وبالفعل، شهد عام 2009 حالة نزوح ضخمة لسوريين من منطقة الجزيرة صوب دمشق وحلب، بعد أن دمر الجفاف مناطق شاسعة. أما في العراق، فقد اختلطت الكارثة بالحرب المذهبية فلم ينتبه أحد لها. وفي ايران تبين أن إحدى مراكز الدراسات الإيرانية، أن أغلبية المظاهرات والاحتجاجات التي عرفتها البلاد حصلت في مناطق كانت تصنف بأنها مؤيدة للنظام، وهي مناطق ريفية يعتمد سكانها على الزراعة، حيث ضربت إيران 14 سنة جفاف متواليةن كانت نتيجتها هجرة خمسة ملايين، منذ عام 2011، من الأرياف إلى أحياء الصفيح في ضواحي المدن الكبرى. ويُتوقع أن تبدأ إيران بتصدير الملايين من أبنائها إلى الخارج، على شكل هجرات هاربة من كارثة الجفاف.
أما في شمال إفريقيا وكذا الشرق الأوسط فقد تبين أن ظاهرة موت النحل البري ،الذي يقوم بتلقيح الخضر والفواكه، بسبب الاستخدام المكثًف للمواد الكيماوية في تسميد المزروعات،سينتج عنه موت أسباب الحياة في هذه المناطق، الأمر الذي سيدفع بعشرات الملايين إلى البحث عن مناطق أخرى (أوروبا وأمريكا) للحصول على الغذاء.
المكسيك تهدد القرار الأمريكي
وعندما يتحدث كابلان عن مستقبل الولايات المتحدة، يركز على نقطة هامة للغاية وهي دور المكسيك مستقبلا في التأثير في قرارات واشنطن. ويتساءل بنوع من التعجب عن قرار واشنطن التدخل في صراعات بعيدة مثل أفغانستان والعراق في وقت بدأت تتحول فيه المكسيك، الدولة الكبيرة جغرافيا وبشريا، إلى دولة شبه فاشلة بسبب الفساد وسيطرة عصابات المخدرات على مفاصل مؤسسات البلاد.
ويستعيد أطروحة هنغتنتون التي تحذر من قوة الهجرة المكسيكية إلى الولايات المتحدة، خاصة وأن المكسيكيين يعتبرون الجنوب الأمريكي أرضا اغتصبتها واشنطن منهم خلال القرن التاسع عشر. ويؤكد الكاتب أن معطيات الجغرافيا والمعطيات السياسية تفرض الآن اتحادا بين الولايات المتحدة والمكسيك لامتصاص المخاطر مستقبلا. ويتكهن الكاتب تحول بوصلة الولايات المتحدة فبدل أن تستمر من الشرق الأمريكي نحو الغرب الأمريكي ستصبح من الشمال الكندي نحو الجنوب المكسيكي مع دور محوري لواشنطن.
تركيا والحتمية الجغرافية
ويبدو أن فرضية روبرت كابلان في عمله الضخم “انتقام الجغرافيا: ما الذي تخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضد المصير” ساعدت العديد من الباحثين خاصة الاتراك منهم لفهم أزمة الهوية الجيوبوليتيكة التركية. ومن ثم محاولة الإجابة عن السؤال :هل الأتراك أتراك (بالمعنى العرقي)، أم أوروبيين أم أوراسيانيين (بالمعنى الجغرافي)؟
فموروثات الجغرافيا والتاريخ والثقافة، حسب كابلان، هي التي تفرض بالفعل حدوداً لما يمكن تحقيقه في أي مكان بعينه والخرائط نفسها تدحض المفاهيم المتعلقة بمساواة ووحدة الجنس البشري. وبذلك فإن التوظيف السياسي والفكري للمفاهيم الجيوبوليتيكية في تركيا ساهم بصورة كبيرة في رسم حدود الهوية الداخلية، الإقليمية والدولية لتركيا.
وقد حاولت الباحثة أمينة مصطفي دلة في دراسة بعنوان: “الجيوبوليتيكية التركية: الحتمية الجغرافية وسؤال الهوية” الإجابة على سؤال تركيا الكبير وفقا لنظرية كابلان ومن خلال الافتراض بأن-التوظيف السياسي والفكري للمفاهيم الجيوبوليتيكية في تركيا ساهم بصورة كبيرة في رسم حدود الهوية الداخلية، الإقليمية والدولية لتركيا-أكدت الباحثة في دراستها على الدور الكبير للمفاهيم الجيوبوليتيكة خاصة الحتمية الجغرافية في تحديد السياسات المحلية والخارجية التركية. وشددت على أهمية التأكيد على أن العنصر الفاصل لأي عملية تعريفية للهوية التركية على غرار الجغرافيا، هو الطريقة التي يمكن أن يؤثر بها توظيف صنّاع القرار للجغرافيا. فالجغرافيا، نعم يمكنها أن تبني لنا تصورا عن مستقبل الصراعات ولكنها في نفس الوقت وبإضافة البعد الإنساني اليها يمكن ان تكون عاملا دافعا لخيارات غير صراعية.
(المصدر: إسلام أونلاين)