مقالاتمقالات مختارة

انتصار طالبان

انتصار طالبان

بقلم د. عبدالله بن فيصل الأهدل

إنَّ نصر الله عزَّ وجلَّ متحقق لمن يستحقونه؛ وهم المؤمنون الذين يثبتون على الحق ثقةً بنصر الله تعالى وعونه ووعده الحق لمن جاهد في سبيله وصبر وصابر، ومن فقد هذه الثقة بالله عزَّ وجلَّ وضعف ولم يصبر فقد خسر خسرانًا مبينًا؛ قال سبحانه وتعالى:

﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾.

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “من كان يظن أن لن ينصر الله محمدًا فليربط حبلًا في سقف ثم ليختنق به حتى يموت”. [رواه الطبري (18/581) بسند حسن].

وليس ذلك للنبي صـلى الله عليه وسلم وحده؛ بل لكل المرسلين والمؤمنين، قال الله تعالى:

﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.

ومن كان يشك في نصر الله عزَّ وجلَّ للمؤمنين الثابتين على إيمانهم فليقرأ قوله سبحانه وتعالى:

﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

والآيات في ذلك كثيرة ولله الحمد والمنة..

وممن ثبت في زماننا هذا:

 الشعب الأفغاني المسلم، وعلى رأسه جماعة طالبان أعزهم الله تعالى؛ فقد أبهروا العالم كله بقهر النظام العالمي الجديد بقيادة أمريكا، وإعلاء راية التوحيد التي طال اشتياق عموم المسلمين لها؛ فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..

وقد أخبرنا الله عزَّ وجلَّ عن الأموال التي ينفقها الكفار على حروبهم لدين الله عزَّ وجلَّ، ثم مآل ذلك من حسرة وخزي وخسران؛ قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ 36 لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-:

“أخبر تعالى أنَّ الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق، فسيفعلون ذلك، ثم تذهب أموالهم، ﴿ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾ أي: ندامة؛ حيث لم تُجْدِ شيئًا؛ لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق، والله متم نوره ولو كره الكافرون، وناصر دينه، ومُعْلِن كلمته، ومظهر دينه على كل دين.

فهذا الخزي لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار، فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوؤه، ومن قُتِل منهم أو مات فإلى الخِزْي الأبدي والعذاب السَّرْمَدِيّ؛ ولهذا قال: ﴿فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾”. [تفسير القرآن العظيم (4/53)].

وأي خزي أعظم من خزي أمريكا وحلفائها اليوم؟!!

 أفغانستان الدولة الصغيرة التي تعيش بمعزل عن التكنولوجيا الحديثة والتقدم التسليحي العالمي الكبير تقهر هؤلاء الطواغيت المتكبرين، وترجعهم على أعقابهم خائبين بعد أكثر من عشرين سنة من التخطيط والإعداد للسيطرة على هذه البلاد العزيزة الأبية، وبعد أعداد كبيرة من القتلى والجرحى والمرضى النفسيين، وبعد نفقات باهظة لا يعرف مقدارها إلا الله عزَّ وجلَّ..

ومن غير المستغرب أن يطعن طاعنون -من المسلمين وغيرهم- في هذا النصر المبين؛ بأنه حدث باتفاق وتدبير أمريكي عالمي لسبب أو لآخر؛ فما زال الــكــثــيرون يـــجهـــلـــون طبــيــعــة أفغانستان وأوضاعها -وخاصة طالبان-، وقد يسيطر على البعض استبعاد نصر هؤلاء الضعفاء على أمريكا وقوتها..

فنقول وبالله التوفيق:

أمَّا عن أفغانستان وشعبها فهم قوم محبون للإسلام، وحب الجهاد والشجاعة والأنفة من تحكم الكفار صفات قديمة مركوزة في هذا الشعب، ومن كانت هذه صفاته فلن يستسلم لحكم الكفر أبدًا -وإن علا حكم الكفار زمنًا-، والتاريخ خير شاهد؛ فقد قهر هذا الشعب دولة بريطانيا العظمى التي كانت كما يقال عنها: الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.

 كما قهروا الاتحاد السوفيتي الذي ضم إليه -قهرًا- العشرات من الدول والممالك الإسلامية القوية؛ بل صارت أفغانستان السبب الأول لتفكك الاتحاد السوفيتي إلى غير رجعة..

أما عن طالبان؛ فهم طلبة العلم وحفظة القرآن في عامة ربوع أفغانستان، وأصل نشأتهم كقوة حاكمة في أفغانستان كان غضبًا لله وللحرمات كما هو معلوم مشهور؛ فقد لجأ أحد الأفغان المنكوبين لمدرسة الملا عمر -رحمه الله تعالى- طلبًا للنصرة ضد متقطعين خطفوا امرأته؛ فقام الملا عمر ومن معه من الطلبة بالواجب الذي فرضه الله تعالى على كل مسلم فأغاثوا الملهوف ونصروا المظلوم وأرهبوا قطاع الطريق وقطعوا دابرهم..

وهذا وعد الله لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر -بحسب طاقته-، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾.

 واشتهر أمر الملا عمر وإخوانه فلجأ إليهم كثير من أصحاب الحقوق المنتهكة -بعد أن يأس الناس من أمراء الحرب الذين اختلفوا واقتتلوا وأدخلوا أفغانستان في دوامة-، واتسعت رقعة النصرة شيئًا فشيئًا، وانضم الطلبة والعلماء إليهم من كافة أنحاء أفغانستان؛ حتى صارت جماعة طالبان أملًا للأفغان جميعًا، ونشأت الإمارة الإسلامية..

ولن تنس طالبان أصل نشأتها وتعاليم دينها العظيم -التي تدرسه ليل نهار- مهما كثرت وتعددت الفتن والمغريات..

وأما أمريكا فهي وإن كانت قوة جبارة فهي حمقاء غاشمة؛ والمصالح الذاتية هي التي تقودها، ومصلحتها في أفغانستان ضعيفة، والخسائر المادية تتضخم وتتوالى على كاهل الأمريكان -الذين أُرهق اقتصادهم لأسباب عديدة ليس هذا موضع ذكرها-.

ولا ننسى الفشل الأمريكي الضخم في تأسيس قوات أفغانية عميلة قوامها نحو 300 ألف مقاتل؛ دربتها أمريكا وسلحتها على أعلى المستويات، وأنفقت عليها الأموال الطائلة على مدار عشرين سنة، ثم إذا هي تستسلم دون مواجهة تذكر أمام جماعة طالبان التي لا تملك إلا الأسلحة الخفيفة والعتاد المحدود..

وأمريكا -كعادتها-؛ غاية ما تملك من مكر ودهاء هو استخدام الأفغان لمواجهة عدو لها كالصين أو الروس أو غيرهما، أو الوقيعة بين الفصائل الأفغانية نفسها..

ولذلك فأهمية المرحلة القادمة للأفغان هي تقدير الأولويات، وعدم الاندفاع في معارك لا تملك أهبتها، ومراعاة مصلحة الشعب الأفغاني دينيًّا ودنيويًّا..

ولا شك أن حركة طالبان قد صار لها رصيد كبير من التجربة والمعرفة، كما أنَّ الأمة لن تخلو من العلماء الناصحين الذين يوجهون الأمة الإسلامية عمومًا، وفي أفغانستان خصوصًا..

وإنَّه لدرس عظيم للأمة الإسلامية -سبق به التوجيه النبوي-؛ قال صـلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم». [رواه أبو داود (3462)، وصححه الألباني].

فمتى ما تركت الأمة الربا، وتركت حب الدنيا وكراهية الموت، وأخذت بأسباب النصر والجهاد في سبيل الله، ورجعت إلى دين الله، فإنَّ النصر حتمًا حليفها، قال تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾.

لكن المعركة لم تنته بعد؛ بل يمكن القول بأنَّ المعركة بدأت الآن، وعُدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر..

ونحن اليوم نتعلم من حركة طالبان، لكن هذا لا يمنع أن نذكرهم -فإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين- بما يلي:

1- إنَّ انتصارهم ليس انتصارًا للشعب الأفغاني فحسب، بل هو انتصار للأمة الإسلامية ولِدينها، ولذا فإنَّ الأمة تتطلع إلى أن تُطبق الشريعة الإسلامية في أفغانستان، وعلى طالبان أن تسعى إلى تطبيقها في كل صغيرة وكبيرة مع مراعاة سُنَّة التدرج.

2- إنَّ قوة طالبان هو في دينها ووحدتها، وربنا يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 45 وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ 46 وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾، وليحذروا من التنافس على الدنيا أو على المناصب..

3- عليهم أن يولُّوا مفاصل الدولة للأكفاء من حركة طالبان، ويستوعبوا كل مخلص لدينه وبلده من الشعب الأفغاني في المناصب الأخرى، أمَّا العملاء للنظام السابق فهؤلاء -وإن صدر فيهم عفو عام- فلا يُمكَّنون من أي منصب، ولا يُستجاب في هذا الأمر لأي ضغط خارجي أو داخلي.

4- ليعلموا أنَّ الغرب -والشرق- بقيادة أمريكا لن يسمح لهم بقيام دولة إسلامية في أفغانستان -ولا في غيرها-، فهزيمتهم عسكريًّا في أفغانستان لا يعني تخلي العدو عن المعركة، بل سيحيكون لكم المؤامرات، ويعملون ليل نهار لإفشالكم.. فعليكم الاستعانة بالله والاعتصام به، وخذوا حذركم منهم، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾.

5- إنَّ أعظم نجاح لكم بعد هذا النصر، وأعظم سبب للمحافظة عليه -بعد طاعة الله- هو حسن إدارة البلاد في الداخل، واستيعاب الجميع، وقطع دابر أسباب الاستياء والحرب الأهلية، وحسن إدارة الصراع مع العدو في الداخل والخارج.

وحسن إدارة الصراع لا يعني التساهل في غير موضعه، كما لا يعني التشدد في غير موضعه، بل كما قال النبي صـلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد» [رواه ابن حبان (935)، وصححه الألباني في الصحيحة (3228)].

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.

نصر الله عزَّ وجلَّ عباده المؤمنين في أفغانستان -وفي كل مكان- وكفاهم شرَّ الأشرار وكيد الفجار..

المصدر: رابطة علماء المسلمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى