اليقظة الفلسطينية والصدمة العبرية
أوضحت الأيام الماضية من المواجهة مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة معضلة حقيقة بدأت الدولة العبرية تستشعرها على صعيد صانع القرار وكذلك الوعي الجمعي بالإضافة إلى الحلفاء على الصعيد الدولي والإقليمي، فحينما أقدم عناصر من شرطة الاحتلال على قمع المحتجين الفلسطينيين على التهويد في حي الشيخ جراح، وأعلنت كتائب القسام في قطاع غزة إستعدادها لقصف “تل أبيب” في حال لم تتوقف الإعتداءات الإسرائيلية على المقدسيين، كان ذلك معادلة جديدة فرضتها المقاومة في غزة على الدولة العبرية وهي أن تكون القدس المحتلة حاضرة في أي مفاوضات متعلقة بوقف إطلاق النار في قطاع غزة.
ما جرى سيكون له تبعات على السلطة الفلسطينية والوصاية الاردنية على المقدسات في القدس المحتلة، لكن ذلك لم يكن الملف الأكثر تعقيداً في قائمة المهددات الوجودية التي ظهرت لدولة الاحتلال الإسرائيلي في المواجهة الأخيرة، فقد تورطت دولة الاحتلال في صراعات على عدة جبهات، أولها المواجهة مع المقاومة في غزة والتي حققت تطوراً نوعياً سواء على صعيد إستهداف “تل أبيب” بوابل كثيف من الصواريخ على مدار أيام دون أن تنجح الغارات الإسرائيلية المكثفة على قطاع غزة بوقفها وكذلك تمكن تلك الصواريخ من إظهار فشل القبة الحديدية في التصدي لها. أما المواجهة الأكثر تعقيداً والتي أرعبت صانع القرار العسكري والسياسي الإسرائيلي تتعلق بالتضامن الكبير مع قطاع غزة والقدس المحتلة في المدن المحتلة عام 1948، وهذه الظاهرة كشفت عن لحمة فلسطينية عميقة تحولت إلى مواجهات واشتباكات في اللد وحيفا ويافا وعكا والرملة مع قطعان المستوطنين وتوسع دائرة تلك المواجهات إلى الضفة المحتلة، فرغم محاولة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تنفيذ الكثير من عمليات غسيل الدماغ الممنهجة للفلسطينيين في مدن48،إلا أن لحظات المواجهة التي شهدتها الأيام الأخيرة نسفت كل أمل لدى الدولة العبرية بــ”تمدين” الفلسطينيين وإدماجهم ضمن المجتمع الإسرائيلي، وربطهم بهوية وطنية إسرائيلية زائفة، فقد حذر معهد “بيغن_السادات” من أن تتحول التحركات في الأوساط الفلسطينية إلى صعود قومي وإسلامي يزيد من إرباك المجتمع الإسرائيلي، ويعيد اليهود للقتال من أجل وجودهم مثلما كان عليه الوضع في عام 1947. ويضيف المعهد “إن ما يجري ليس مجرد تظاهرات شعبية بل إذلال للأمن القومي الإسرائيلي والسيادة التي نتفاخر بها”.
المهدد الآخر من مهددات وجود الدولة العبرية هو نجاح حالة التضامن الإعلامي مع معاناة الشعب الفلسطيني والتي بدورها ساهمت في إخراج الكثير من التظاهرات على المستوى العالمي للتضامن مع غزة والتنديد بجرائم المحتل الإسرائيلي، ونسفت الرواية الإسرائيلية التي لطالما تبنتها الصحافة الغربية، وهذا الأمر أثر فيه كثيراً الناشطين عبر وسائل التواصل الإجتماعي الذين استهدفوا بالدرجة الأولى العالم الغربي، ليدفع ذلك العديد من السياسيين والإعلاميين وحتى الرياضيين لإظهار تضامنهم مع غزة، فمحاصرة الرواية الإسرائيلية عن طبيعة الصراع ساهم في إجبار النمسا على إنزال العلم الإسرائيلي عن المؤسسات الحكومية بعد يومين فقط من رفعه تضامناً مع الدولة العبرية، وكذلك لأول مرة أُجبر الرئيس الأمريكي، جو بايدن، على الاتصال برئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، ثلاث مرات خلال أيام الحرب والضغط عليه لوقف الهجمات، وإرسال وفد خاص لمتابعة الأزمة، بل والتواصل مع العديد من الدول العربية والإسلامية للضغط على المقاومة في غزة وإجبارها على القبول بتهدئة تناسب الشروط الإسرائيلية. ووفقاً لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي فقد أجرت الولايات المتحدة أكثر من 60 إتصالاً دبلوماسياً مع مسؤولين في المنطقة بهدف إغلاق هذا الملف.
وللتدخل الأمريكي عدة أسباب قد يكون أولها الصفعة العسكرية التي تلقتها المنظومة الأمنية الأكثر تطوراً في الشرق الأوسط والقاعدة الغربية المتقدمة في الشرق الأوسط بعد أن أظهرت إنتكاسة كبيرة في مواجهة المقاومة في غزة واشعرت حلفائها في الغرب بالحرج الشديد بعد أن راهنت عليها منظومة التطبيع العربية لضرب إيران، لذلك في مؤتمره الصحفي الأخير قال نتنياهو” إذا تركنا حماس تنتصر فإن ذلك هزيمة للغرب بأكمله”.
أما السبب الآخر، فهو يتعلق بالصوت المرتفع في مجلس النواب الأمريكي للعديد من النواب الديمقراطيين الذين نددوا بالهجمات إستجابة لضغوط الرأي العام الأمريكي الذي تاثر كثيراً بالرواية الفلسطينية للصراع، وأخذ الكثير من النواب يحاولون تشبيه مايجري مع الفلسطيين بما يجري مع السود في الولايات المتحدة. فقد هاجمت النائبة الإشتراكية الكساندريا كورتيز تصريحات بايدن بدعم الدولة العبرية قائلة:” صرح الرئيس أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن النفس، هل للفلسطينيين الحق في الحياة “، الأمر الذي فسره الإعلام الإسرائيلي على أنه تبرير للصواريخ التي تطلقها حماس على المستوطنات اليهودية.
أما النائبة إلهان عمر فقد وصفت دولة الاحتلال بــ”حكومة الفصل العنصري”، أما إيانا بريسلي فقد قارنت بين ما يجري في فلسطين بواقع السود في أمريكا. وقالت النائبة كوري بوش” إن الكفاح من أجل حياة السود والكفاح من أجل تحرير الفلسطينيين أمران مترابطان، نحن نعارض إرسال أموالنا لتمويل الاحتلال”. تلك الأصوات لم تكن يوماً متاحة للدفاع عن فلسطين في الكونغرس الأمريكي، وهذا الأمر سبب صدمة لصانع القرار الإسرائيلي، وبدأ حديث موسع بين أوساط النخب السياسية الإسرائيلية حول فهم تحركات الحزب الديمقراطي المستقبلية وهل سيتحول إلى نسخة عن حزب العمال البريطاني بقيادة جيرمي كوربين.
إذن هناك ثلاث مسارات بدأت تهدد الوجود اليهودي في فلسطين، أولها مرتبط بهبة فلسطينيو 48 وتمسكهم بالتحرر من الاحتلال، والتطور النوعي للمقاومة التي باتت تهدد سيادة واستقرار الدولة العبرية على المدى الطويل، وتدخلها في مرحلة إذلال عسكري تؤثر على سمعتها في المنطقة بعد 4 سنوات من نشوة الإنتصار السياسي الزائف التي حققتها بدعم الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، والأمر الثالث هو تصدع الرواية الإسرائيلية التي تم الترويج لها بفضل الحملات الإعلامية الضخمة التي قام بها المتضامنين مع الشعب الفلسطيني، فقد وصف أحد الصحفيين الإسرائيلين ما جرى بأنه “لسعة للوعي الإسرائيلي”.
الآراء الإسرائيلية في الوقت الحالي لديها إجماع بأن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، يرى ما يجري على أنه حبل نجاة مد إليه بعد فشله في تشكيل حكومة إئتلافية قبل اسابيع قليلة، ورفض الكتل البرلمانية التحالف معه في سياق محاولاته المستمرة للمناورة والهروب للأمام من المحاكمة التي تنتظره بسبب ملفات فساده، لذلك يمكن أن يزيد الوضع السياسي في الدولة العبرية سوء عقب المواجهة الأخيرة ويفرض صعود أكبر لقوى اليمين وزيادة التضييق على الفلسطينيين في الداخل، كذلك فإن ما يجري سيهمش السلطة الفلسطينية ويضعفها عقب هروب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، من إستحقاق الإنتخابات وتأجيلها، وموقفه السلبي إتجاه الحرب على غزة، وإندلاع مواجهات في الضفة المحتلة قد تؤدي إلى صدامات بين المنتفضين والقوى الأمنية الفلسطينية التي يديرها.
لذلك تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى رفض أي شروط تريدها المقاومة في قطاع غزة للقبول بالتهدئة، وأبرزها إدراج ملف القدس في أي إتفاق، فإدراج هذا الملف يعني المساس بأهم مقومات المشروع القومي اليهودي في فلسطين، ويتجاوز الدور الأردني في المدينة المحتلة، كذلك فهو إشراك لحركة حماس في المفاوضات السياسية بين السلطة الفلسطينية والدولة العبرية بصورة غيرة مباشر، لذلك يعد العقبة الأبرز في أي مفاوضات لوقف إطلاق النار، كذلك لا يعتقد أن مصر ستساعد في تسجيل إنجاز كهذا قد يحسب للمقاومة الفلسطينية.
أيضاً فشل الجيش الإسرائيلي كثيراً في تحقيق مستوى من الردع يمنع صواريخ المقاومة، وفشل كذلك في الوصول إلى أهداف كبرى سعى إليها منذ بداية الحرب مثل إغتيال قائد كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، محمد الضيف، والذي اقر بأنه نفذ ثمانية محاولات لتصفيته ولم تنجح. ومنذ اليوم الأول للحرب والطائرات الحربية تسقط قنابل إرتجاجية بالمئات لتدمير ما يصفه الجيش بــ”مترو حماس”، مشيراً بذلك للأنفاق التي يقول بأنها تستخدم لقصف المستوطنات الإسرائيلية، لكن رغم ذلك فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق هذا الهدف.
منذ اليوم الأول دخلت مصر في جهود الوساطة للتوصل لتهدئة، وأعلن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عن تقديم دعم مشروط لغزة بقيمة 500 مليون دولار مقابل قيام شركات مصرية بإعمار البنية التحتية التي تضررت بفعل العدوان الإسرائيلي، لكن مثل هذه المبادرات يتوقع لها الفشل لرفض المقاومة مبادرات سابقة شبيهة، لإعتبارات تتعلق بأسباب أمنية، فقدت أغلقت مصر سفارتها في قطاع غزة قبل عام بذرائع سياسية وتعاملت منذ عقود مع ملف قطاع غزة في سياق أمني بحت يتولاه جهاز المخابرات العامة المصري، لذلك تتعاطى الفصائل الفلسطينية مع الدور المصري بحذر .
لذلك يرى مركز الأمن القومي الإسرائيلي أن أفضل وسيلة لضمان عدم وصول أموال الإعمار إلى المقاومة هو الحد من الوجود القطري في غزة والإكتفاء بما وصفها بالدول العربية ” البراغماتية” وهذا الأمر قد يبرر المبادرة المصرية. وكذلك لتجنيب المقاومة من تحقيق أي مكتسبات يرى صانع القرار الإسرائيلي أهمية تعزيز مكانة الاردن في المسجد الأقصى وإلزامها بمنع أي إحتجاجات أو فعاليات داخل ساحاته، ودعم الرئيس محمود عباس للحد من تصاعد شعبية حركة حماس في الضفة المحتلة، وتقديم إمتيازات إقتصادية وتعزيز الحوار معه، لكن جميع ما سبق لا ينسف المنجزات التي تحدثنا عنها سلفاً وهي أسباب أضحت إستراتيجية للمساس بالصراع الوجودي مع الدولة العبرية وتقليص فرص بقائها.
(المصدر: مجلة البيان)