مقالاتمقالات مختارة

الوقف الخيري الإسلامي.. كيف يصبح سلاحا بوجه الحاكم؟!

الوقف الخيري الإسلامي.. كيف يصبح سلاحا بوجه الحاكم؟!

بقلم وسام الكبيسي

قامت منظومة الاقتصاد في الإسلام على ثلاثة أوعية هي؛ القطاع الحكومي والقطاع الخاص والقطاع الخيري متمثلا بالمؤسسات الخيرية والوقفية، فأما القطاع الخاص فيقوم على مبدأي المنافسة والبحث عن أعلى ربح وبالتالي فهو ليس معنيا بحاجات المجتمع إلا بما يتناسب مع مبادئه ومعاييره، وأما القطاعان الآخران فيقومان على تأمين حاجات المجتمع من منتجات وخدمات لا يغطيها القطاع الخاص عادة لأنها لا تنزع إلى الربح ولا تحفز رؤوس الأموال لولوج ميدانها، ويأتي ذلك من الحكومة على سبيل الوجوب، ومن الجهات الخيرية على سبيل التطوع والشعور بالمسؤولية.

لقد أحدث القطاع الخيري توازنا واستقرارا في المجتمعات المسلمة، لأن تلك الهيئات الخيرية والوقفية شاركت منظومة الحكم في تحمل الكثير من الأعباء في قطاعات مهمة جدا كالتعليم والصحة وإطعام الفقراء والمساكين، والانفاق على من لا يجد احتياجاته من المال، وهي إذ خففت عن الحكومة الكثير من الأعباء الواجبة عليها، فإنها خففت في ذات الوقت من سطوة الدولة وسلطتها على الأمة عبر استغلال حاجات الناس واحتكارها للوسائل والأدوات المحققة لتلك الحاجات التي يعتبر بعضها ضروريا لاستمرار الحياة ومواكبة تطوراتها. فهو إذن توازن بين سلطة الحكومة وسلطة الأمة.

ذلك أحدث أيضا، استقرارا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، حيث ساعد على الألفة بين أبناء المجتمع وتقليل التفاوت الطبقي، كما ساعد على تنشيط الدورة الاقتصادية عبر ضخ المال باستمرار من المتبرعين مما يوفر فرص عمل جديدة ويحد من البطالة ومستويات التضخم ويوفر دخولا جديدة تنشط دورة الانتاج والاقتصاد ويساهم في إنعاش السوق، كما ساهمت في بناء مؤسسات الحكم والدولة وشاركتها في حمل الأعباء، مما ولد استقرارا سياسيا ظهرت آثاره بوضوح في أوقات الأزمات والتقلبات السياسية، حيث لم يظهر تأثير ذلك كبيرا بوجود المنظومات الخيرية ودورها الحيوي.

لم يعرف العالم الغربي في عصوره القديمة والوسطى نظام الوقف، ولا نظم التبرع الخيري الأخرى، بل كان اعتمادهم على المداخيل عن طريق الجبايات والإقطاع، وقد أفاد الغرب من القطاع الوقفي والخيري من خلال احتكاكه بالمسلمين في الأندلس غربا ومع الدولة السلجوقية ثم الدولة العثمانية ودول البلقان شرقا، فتغير عنده مفهوم الدولة الذي كان مقتصرا على الحاكم، وأعطى للوقف قيمة كبيرة وحيزا واسعا في إقامة دولته وحضارته الحديثة، وباتت مؤسسات الوقف والمنظمات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني هي التي تؤسس لتوازن العلاقة بين الدولة والأمة عبر ثنائية تحمل الأعباء، وتخفيف حدة سلطة الحاكم.

يكفي أن نعرف بأن أموال الجهات الخيرية في أمريكا – مثلا – لوحدها تصل إلى نصف ترليون دولار، وبعض هذه الجهات الخيرية يصل رأس مال الواحدة منها إلى عشرين مليار دولار، مثل هيئة بيل جيتس الخيرية، وبعض هذه الوقفيات عبارة عن مؤسسات عالمية عالية الجودة، فجامعة هارفارد التي تصنف كإحدى أفضل ثلاث جامعات في العالم هي مؤسسة وقفية! وقد اعتنى الغرب بهذه الوقفيات وشجع على قيامها عبر سلسلة إجراءات من بينها الاعفاءات الضريبية عن المتبرعين، وشرع لها القوانين التي أعطتها استقلالية كبيرة ومنعت من تأميمها أو الضغط عليها، وضبطت إدارتها لتحوز ثقة المتبرعين واتخذتها شريكا في قيام دولتها.

على العكس من ذلك ساهم الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي خلال القرنين الأخيرين في إضعاف دور الوقف، وضغط لإصدار تشريعات تعطل دوره وتحد من نشاطاته، ثم زادت الدول العربية والمسلمة الطين بلة بعد ما سمي بمرحلة التحرر، عندما تم إلحاق مؤسسات الوقف بالحكومة عبر استحداث وزارات أو هيئات الوقف الرسمية، لتطالها يد العبث وقلة الخبرة والفساد الإداري والمالي، الأمر الذي أضعف الثقة بالمؤسسات الوقفية والقائمين عليها، وهو ما أدى إلى عزوف الموسرين والمحسنين عن التبرع في هذا المجال الحيوي، وبالتالي حرمان الأمة من هذا الشريان العظيم، وتكريس سطوة الدولة والحاكم الفرد في الوقت الذي بات فيه الناس بأمس الحاجة إلى إحياء دور الوقف والثقافة الوقفية في ظل تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وتعدد وتنوع وتوسع الحاجات الإنسانية وتعمق تعقيدات الحياة البشرية، حيث لم يعد التعويل على القطاع الحكومي ممكنا ولا مطلوبا في إيجاد حل لهذه المشكلات.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى