بسام ناصر – عربي21.
سلك جماعة من أئمة العلم وفقهاء الأمة الكبار ـ قديما وحديثا ـ سبيل الرد إلى مقاصد الشريعة عند الفتن والاختلاف والتنازع، كما فعل الإمام الشافعي في رسالته الشهيرة “عندما جمع الأمة من فرقتها وتنازعها المذهبي بين أهل الرأي والحديث نحو الكليات الاستدلالية”، “وكما فعل الشاطبي في موافقاته الشهيرة عندما أصّل منهج العمل بالمقاصد واعتباره الحجة القاطعة في الأصول والفروع”.
على النهج ذاته، اجتهد الدكتور مسفر بن علي القحطاني، الأكاديمي السعودي المتخصص في الفقه الإسلامي وأصوله، في معالجة جملة من القضايا والمسائل المعاصرة على ضوء معطيات علم مقاصد الشريعة، خاصة “ما كان منها له علاقة برسم المنهجيات والفكر الإصلاحي والعمل الإسلامي المتنوع”، وقد سماه “الوعي المقاصدي.. قراءة معاصرة للعمل بمقاصد الشريعة في مناحي الحياة”.
في بحثه لتعريفات مقاصد الشريعة، أوضح القحطاني أنه لم يجد تعريفا دقيقا له عند الأصوليين، وغيرهم من العلماء المتقدمين، معرجا في بحثه على تعريفات بعض المعاصرين كالطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي.. وغيرهما، ليخلص إلى صياغة التعريف الذي ارتضاه بقوله “مقاصد الشريعة هي: المعاني والحِكم التي راعاها الشارع عموما وخصوصا من أجل تحقيق مصالح العباد في الدارين”.
وأشار القحطاني إلى أنه من المتوافق عليه عند العلماء أن الشرائع إنما وضعت لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل معا، “ومن استقراء علل الأحكام المعروفة، أو أدلة الأحكام المشتركة في العلة يتبين أن العلة تلك بمعناها العام هي مقصد الشارع ومدار أحكامه، كما في قوله تعالى بعد آية الوضوء (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج)”.
وشرح القحطاني أن كل حكم من الأحكام الشرعية يوجد فيه ثلاثة أمور: الوصف الظاهر المنضبط وهو العلة، وما في الفعل من نفع وضرر، يعبر عنه بالمصالح والمفاسد أو حكمة التشريع، وما يترتب على التشريع من جلب منفعة أو دفع مضرة ويسمى مقصد التشريع. وهذه سمة ملازمة لكل أحكام الشرع، فما من حكم إلا وقد قُرَّر لرعاية مصلحة أو درء مفسدة، وإخلاء العالم من الشرور والآثام، ما يدل على أن الشريعة تستهدف تحقيق مقصد عام، ألا وهو إسعاد الفرد والجماعة، وحفظ النظام وتعمير الدنيا..” وأن “الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، لإقامة مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسدهما”.
وتأكيدا على أهمية علم المقاصد في استنباط الأحكام واستخراجها، قال القحطاني: “فإذا كانت مقاصد الشريعة بهذا الشمول والعموم من الهيمنة على أحكام الشريعة وارتباط التشريع بها في كل جزئياته، كانت معرفتها بالتالي أمرا ضروريا على الدوام ولجميع الناس”، موضحا أن “العامي يلحظ بها حكمة التشريع وأسرار الأمر والنهي ما يزيده يقينا وإيمانا وعلما وعملا، ويراعي الفقيه مقاصد الشرع عند الاستنباط وفهم النصوص والنظر في أحكام الشرع..”.
وأشار القحطاني إلى أن العلماء اهتموا بعلم مقاصد الشريعة اهتماما كبيرا، لكن الإمام الشاطبي اعتنى به عناية خاصة، فـ”أظهر هذا العلم وأبرز قواعده وأسهم في تأصيله وبيان أحكامه حتى أصبح كتابه (الموافقات) مرجع هذا العلم ومقصد العلماء فيه، بالإضافة إلى تخصيصه للمقاصد جزءا من كتابه الموافقات لم يسبق إليه أحد..”.
الوعي المقاصدي في عملية البناء ومعالجة الأزمات
أفرد القحطاني فصلا كاملا لبيان أهمية الوعي المقاصدي بفقه العمران الحضاري، لفت فيه إلى أن “فقه العمران لم يحظ منذ زمن باهتمام معرفي وتأصيلي لمفاهيمه وأدواته التنفيذية سواء كان هذا الاهتمام من خلال التدريس أم التصنيف أم التنزيل على واقعنا المعاش، وأهم منحى لرفع مستوى الفقه الحضاري لدى مسلم اليوم وتأهيل ثقته بدينه كعلاج لكل أزمات المجتمع والحياة، هو بالعودة إلى مقاصد التشريع الإسلامي، وإعادة قراءة الأحكام الفقهية من خلال هذه المقاصد، واستخراج جوانب فقه التحضر منها..”.
وخلص القحطاني إلى أن مقصوده “من استخدام كلمة (الوعي) في سياق المفهوم الحضاري الشامل للمدنية، يمكن تحديده بأنه “إدراك الفرد ومؤسسات المجتمع المختلفة لمسؤولياتهم الكبرى في بناء الشخصية الإنسانية المتكاملة والسعي في دفع عملية النهضة والتقدم المعنوي والمادي من خلال إصلاح الفكر والسلوك والواقع”.
وانتقد القحطاني بشدة غفلة المسلمين في عصورهم المتأخرة عن الاهتمام والاشتغال بـ”فقه العمران” بحسب ما أصله وقعد له المؤرخ الشهير عبد الرحمن بن خلدون، ذاكرا أنه “من أنواع الفقه الغائب لعقود من الزمن، اندثرت كل محاولات التنظير والترشيد لفقه المسلم إلى عمارة الأرض وبنائها، وتأسيس نهضة مدنية لمجتمعاتها”.
وأبدى القحطاني أسفه من أن الغفلة عن هذا الفقه ليس في بيانه والتعريف به فحسب؛ بل تجاوز إلى إلغائه وإنكاره أحيانا من فقه شريعتنا الغراء، واعتباره من مشاغل الدنيا الفانية على حساب الآخرة الباقية، وهذا ما جعل الهوة كبيرة بين تاريخ مضى برزت فيه أنواع العلوم والمعارف المختلفة وازدهرت فيه مناحي العمران والبناء، وتاريخ تفنن في تحقير الدنيا نظريا، واقتات على فتات الأمم الأخرى واقعيا وعمليا..”.
ونظرا لاستفحال أزمة التطرف الديني في المجتمعات المعاصرة، فقد أفرد المؤلف لمعالجتها فصلا كاملا على ضوء الوعي المقاصدي، مؤكدا أن “أمن المجتمعات من أعظم مقاصد الشريعة ومن أهم واجبات إمام المسلمين؛ إذ الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ولولا الولاة لكان الناس فوضى مهملين، وهمجا مضيعين”.
ونقل عن العلامة الطاهر بن عاشور في بيان الترابط بين الأمن في المجتمع وكونه مقصدا من مقاصد الشرع الحكيم: “إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقرأة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان”.
وأبرز القحطاني وجوه وتجليات “مكامن الانغلاق الفقهي” عند أصحاب أعمال العنف والتفجيرات الذين يزعزون استقرار البلاد وأمن العباد، من تلك الوجوه والتجليات ما ذكره حول نظرهم الجزئي إلى نصوص الشريعة بعيدا عن مقاصدها الكلية، أو الاستدلال الناقص لبعض الأدلة الأصولية من دون مراعاة التوابع والعوارض المؤثرة في تنزيل الحكم على الوقائع، والذي يثمر شططا ولا يوصل للحكم الصحيح، والظفر بالحق المطلوب..”.
ووفقا للقحطاني، فإن “المتأمل لحال من جعل السيف منهجه في التغيير، وألزم الأمة بهذا الاتجاه، قد لا يختلف حاله عن حال كثير من أهل البدع الذين خالفوا أهل السنة في كثير من أبواب الاعتقاد بناء على قصورهم الفقهي والاجتهادي في جمع أطراف المسألة وإحكام جوانبها الأخرى”. ونقل عن الشاطبي ما يكشف عن حال أولئك في قوله: “فكثيرا ما نرى جهالا يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيحة اقتصارا بالنظر على دليل ما واطراحا للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفرعية العاضدة لنظره أو المعارضة له، وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكا”.
وتناول القحطاني قضيتين معاصرتين كشاهد على أهمية الوعي المقاصدي في علاج تلك الأزمات المعاصرة، بحث الأولى تحت عنوان “مقاصد المقاومة المشروعة في العمل الجهادي الحاضر”، والثانية: “مقاصدية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبعض تطبيقاته المعاصرة”.
في الفصل الرابع تحدث المؤلف عن “الوعي المقاصدي وأثره في بنية العقل المسلم”، قدم فيه تشخيصا للعقل المسلم الذي تفتق عن دور نهضوي وتغييري واضح في بنية المجتمع العربي، ها هو يعود لمشرط النقد والفحص العلمي للعلات التي ألمَّت به من تداخل الوحي الغيبي بالاجتهاد البشري، والشرعي بالعرفي، والعقلي بالذوقي، وتداخلت أدوات البيان السمعي من القرآن والسنة بالعرفان الصوفي، والبرهان الفلسفي بالغيبي، ما أدى إلى حالة من المراوحة الميدانية كبّلها عن الإنجاز الحقيقي ذلك الجدل العقيم في المقولات الكلامية والآراء الفقهية، وتعصب ذميم للمذاهب والفر والجماعات الدينية..”.
بعد تشخيصه لتلك العلل والآفات التي كبلت العقل المسلم، ركز القحطاني على “دور المنهج المقاصدي في إحياء العقل”، فمشروع نقد العقل المسلم وبنية التخلف التي أصابته، تحتاج إلى مزيد نظر وكشف عن مواضيع الصحة والضعف ومحاولة فهم العلل التي أصابت منهج النظر والاستدلال، وتحليل الخطاب الإسلامي ومدى مواءمته للمتغيرات الراهنة، من حيث كونه تجسيدا لتنزيل النصوص والقيم الدينية في واقع الحياة، ومدى قدرتها في المعالجة والتبيين والإصلاح والتغيير”.
مظاهر أزمة الوعي المقاصدي في العمل المجتمعي
تناول المؤلف في سياق بيانه لمظاهر أزمة الوعي المقاصدي ومدى تأثيرها على العمل المجتمعي جملة من “المظاهر الواقعية في مجتماتنا”، والتي تمثل بعدا أو تهميشا لمقاصد الشريعة، وبالتالي الوقوع في بعض صور التشدد أو التهاون، أو حصول مفاسد طغت على منافع الأمر المراد تحصيله، وهذه المظاهر كثيرة في مجتمعاتنا.
أدرج الكتاب تلك المظاهر تحت العناوين التالية: “فقه الترفيه بين جموع الواقع وجنوح المخالف”، “فقه النهضة كعلاج للغلو الديني”، “مقاصدية الانتماء الوطني”، “مقاصدية إشاعة الحب والألفة بين المسلمين”، “مقاصدية الجمال”، “مقاصدية دور المرأة المسلمة في المجتمع”، “منهجية التغيير الواعي”.
وقد أظهر المؤلف في بحثه لتلك العناوين والموضوعات كيف أن غياب الوعي المقاصدي أوقع المسلمين في كثير من الأخطاء والتجاوزات والانحرافات، وقدم صورا مشوهة للدين وواقع المتدينين، وفرض على العقل المسلم أن يبقى أسيرا وحبيسا لقوالب فكرية جامدة، ربما لا تمت لواقعه بأدنى صلة، مع غيابه عن حركة الإنتاج المثمرة بما ينفع المسلمين في واقعهم وينهض بهم من تخلفهم وضعفهم وغفلتهم.
الاستناد إلى فقه مقاصد الشريعة في تشخيص واقع الأمة، وتقديم حلول ومعالجات لكثير من أزماتها وعللها الشائعة، يمثل توجها واعيا يحرر اتجاهات عريضة من المسلمين والإسلاميين من ضيق القراءات الحرفية للنصوص الشرعية، إلى سعة مقاصد الشريعة وأصولها الكلية، للخروج بالأمة من أزماتها وأمراضها المتفشية، وتحريضها على الاشتغال النظري والعملي بفقه العمران الذي يضعها على مصاف الأمم الحية كما كانت في سابق تاريخها المشرق.