بقلم المصطفى خرشيش
يعتبر علم أصول الفقهِ من أهمِّ العلوم الشرعية في بناءِ المنهج التفكيري قدرًا، وأعظمها شرفًا وفخرًا؛ إذ هو علم يُؤسِّس للفهم والاستنباط والحجاج، وفي مدارسِه تخرَّج علماء بأفواج، وسلكوا في طلبِه مسالك فجاجًا، وبحثوا فيه عن الدليل بأنواعه وتفصيلاته وحجيَّته عبر مراحل سنواته الطويلة النتاج.
والحديث عن الوظائف العامة لعلم أصول الفقه يعدُّ مدخلًا أساسًا في بناء ذلك المنهج التفكيري، والتأسيس لصرحه المتين؛ إذ هو مُعين كثيرًا على الاستيعاب السليم لتبعات هذا العلم وأغراضه ومقاصده الكبرى، ومحقِّقٌ لسبل الرشاد فيه علمًا وعملًا.
وأقصد بالوظائف هنا عمومًا: المهامَّ أو الخدمات التي يقدمها علم أصول الفقه للمجتهد؛ معرفيًّا، ومنهجيًّا، وعمليًّا، فهمًا واستنباطًا وتنزيلًا.
وبناءً على هذا المفهوم، فإني سأقوم في هذا الإطار بحصر وظائف هذا العلم في ثلاث وظائف كبرى؛ الأولى: معرفية، والثانية: منهجية، والثالثة: عملية.
أولًا: الوظيفة المعرفية:
وأقصدُ بها خدمةَ المعرفة الأصولية بحقائقها ومكوِّناتها، وتقسيماتها للتفكير العقلي، سواءٌ في المجال الأصولي نفسه، أو في باقي العلوم الأخرى؛ إذ يُقدِّم هذا العلم للمشتغل على النصوص مجموعةً من المعارف تُعينه على الفهمِ والاستنباط، سواء في باب الأحكام، أو في باب الأدلة، أو في باب مراتب الدلالات، أو في باب الاجتهاد والتقليد.
ذلك أن ضبط المعرفة الأصولية يبني تصورًا عامًّا وشاملًا عن طريقة تفكير الإنسان في الأشياء؛ من حيث الفهم والتنظيم والترتيب والترجيح والاستدلال، “ففي هذا العلم تحدد للنصوص والألفاظ دلالاتها، وطرق دلالاتها عليها، وقواعد ربط جزئيات النصوص بكلياتها، وعامها بخاصها، ومطلقها بمقيدها، ومنطوقها بمفهومها، ومجملها بمبيَّنها، ودلالتها بإشارتها وسياقها، والحق أن علماء أصول الفقه قد حرَّروا ونقحوا مباحث نفيسة في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها، وبخاصة المباحث اللُّغوية منها، وأَتَوْا بما لا نعثر على مثيله حتى عند اللُّغويين أنفسهم”[1]؛ إذ إن هذا العلم عبارة عن قواعد تَهدي المجتهد إلى الفهم الصحيح أثناء تأمله النصوص بصفة عامة.
ومن هنا نستفيد أن هذه المعرفة ينبغي أن تكون خادمة لباقي العلوم الأخرى، وألا تبقى مرتهنة بالفقه فقط؛ “… بحيث لا يكون لقيدِ الإضافة المستفاد من اللفظ المركَّب دلالةٌ على الاختصاص بعد النقل إلى العلَمية؛ وإنما يشير إلى جانب من جوانب فوائده على سبيل التغليب، وهو أهميته للفقه، لا للاختصاص به والاقتصار عليه، فيبقى حكمه عامًّا وشاملًا لكل ما يستند إلى الشرع من العلوم، سواء كان استنادها إليه إثباتًا كما في الفقه، أو اعتدادًا كما في غالب العقائد، أو تفهمًا كما في التفسير، أو توجيهًا وإرشادًا كما في الأحكام السلطانية والسياسات الاجتماعية”[2]، وهذا يعطي لهذا العلم شموليةَ معارفه في خدمتها للعلوم الأخرى.
ثانيًا: الوظيفة المنهجية:
أعظم وظيفةٍ منهجية يكتسبها الأصولي هي طريقةُ تفكيره في عملية الاستنباط، “وهذه الوظيفة هي أبرز وظائف علم أصول الفقه، حتى إن بعض الأصوليين يقتصرون عليها في تعريفهم لعلم أصول الفقه، كما في قولهم: العلم بالقواعد التي يُتوصَّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية”[3]، “فعلم أصول الفقه علم إنتاجي، مِن صلب مهامه توليدُ الأحكام، وعليه؛ فكلُّ ما كان متعلقًا بالعملية الإنتاجية – أصالة أو تبعًا – اكتسب شرعية الوجود الأصولي، ولا التفات لِما وراء ذلك”[4].
واكتسب صفة الإنتاجية من منهجية الاستنباط؛ لأن الاستنباط توليد للمعاني التي ليست ظاهرة في الواجهة، بل لا بد من أن يكشف عنها المجتهد وتبرز لتتولد الأحكام عنها.
“فعلم أصول الفقه يُبيِّن للناس عامة المنهج الذي سلكه الإمام المجتهد، ويرسم لهم معالم الطريق الذي سار عليه في الاستنباط”[5].
وهذه الوظيفة تأتي نتيجةَ مجموعة من المهارات يقدمها لك هذا العلم لتصل إليها:
فهو يُعلِّمك في باب مراتب الدلالة كيف تفهم وتحلل.
ويُعلِّمك في باب الأدلة كيف تستدل.
ويُعلِّمك في باب الاجتهاد كيف تقارن بين النصوص وتجمع بينها، أو ترجح أحدها على الآخر.
ويُعلِّمك في باب الأحكام كيف تستنبط الحكم من النصوص وتصنيفه حسب نوعه.
ثم هو لا يقف عند هذا الحد، بل يعلمك أيضًا كيف تُدرِك العَلاقات التي تربط بين الأشياء، وذلك حين يُقدِّم لك مجموعة من الثنائيات من قبيل النقلي والعقلي، الكلي والجزئي، العام والخاص، المطلق والمقيد، الراجح والمرجوح…، وبالجمع بين هذه المدارك والمراتب يتحقَّق المنهج الفهمي الاستنباطي بامتيازٍ، ويكون علم الأصول في حالة تحقيقِه لوظيفته المنهجية الكبرى.
إذ علم “أصول الفقه يُعبِّر عن المنهج الذي يقوم عليه بناء الفقه، ومن خلاله يحكم على الأقوال الفقهية وتُقوَّم لمعرفة ما يصح اعتبارها وما لا يصح؛ فإنه لا يعتبر القول الفقهي إن كان صادرًا عمَّن ليس أهلًا للاستدلال”[6].
ثالثًا: الوظيفة العملية:
بعد تحقيق الوظيفتين السابقتين لا بد من الانتقال إلى الوظيفة العملية، وهي استثمارٌ لأُخْتَيها السابقتين، فكل ما لا يحقق هذه الوظيفة في هذا العلم، يزاح عنه؛ إذ “كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروعٌ فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عونًا في ذلك – فوضعها في أصول الفقه عارية، والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختصَّ بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدًا له، ومحققًا للاجتهاد فيه”[7]؛ إذ لا بد أن يتحقق شرط العمل، وإلا أزيح عن مباحث العلم؛ حتى لا يضيق بكثرة التفاريع التي لا تفيد الأمةَ في شيء، “وكل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوضٌ فيما لم يدلَّ على استحسانه دليلٌ شرعي”[8].
يقول صادقي: “الفائدة العملية من الأصول هي القدرة على استثمار القواعد الأصولية في إنتاج المعرفة الفقهية”[9]؛ فإذا لم يكن للمجتهدِ قدرةٌ على استثمار القواعد الأصولية في إنتاج المعرفة الأصولية، فليس بأصولي.
يقول مصطفى الصادقي: “العَلاقة بين العِلْمينِ وطيدة جدًّا؛ فأصول الفقه لم تنشَأْ إلا لتكون طريقًا نظريًّا موصلًا إلى استخراج أحكام الفقه، والفقه لا يتصوَّر له وجود إلا إذا وجدتْ أصوله”[10].
فهذا يعني أن الأصولي يضع القاعدة للفقيه؛ ليأتي على إعمالها في الفروع التي تندرج تحتها، ومِن هنا وجب أن يكون الفعل الأصولي منتجًا للفروع الفقهية، بمعنى آخر أن علم الأصول يكون قد حقق وظيفته العملية.
—————————————————
[1] التجديد الأصولي، ص:64 – 65.
[2]مقاصد أصول الفقه ومبانيه؛ للدكتور أحمد حلمي حرب ص: 59، دار النور المبين للنشر والتوزيع، ط:1، 2015م.
[3] التجديد الأصولي ص: 67.
[4] غمرات الأصول: المهام والعلائق في علم أصول الفقه؛ للشثري، ص:23 – 24.
[5] مجلة الواضحة، العدد 1، 2003، ص: 276.
[6]مقاصد أصول الفقه ومبانيه؛ للدكتور أحمد حلمي حرب، ص:56.
[7] الموافقات؛ للشاطبي، (متوفى: 790هـ)، المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، الطبعة: الطبعة الأولى، 1417هـ/ 199.
[8] المصدر نفسه؛ ج:1، ص:43.
[9]منهاج تدريس الفقه؛ للدكتور مصطفى صادقي ص 246.
[10] المصدر السابق؛ ص: 246.
(الألوكة)