مقالاتمقالات مختارة

الوصية وأحكامها في الإسلام

الوصية وأحكامها في الإسلام

بقلم صلاح نجيب الدق

الحمد لله الذي وسع كل شيء رحمةً وعلمـًا، وأسبغ على عباده نعمـًا لا تعد ولا تحصى، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ أما بعد:

فإن للوصية أحكامًا فقهية على طلاب العلم معرفتها، فأقول وبالله تعالى التوفيق:

معنى الوصية:

الوصية في اللغة: مأخوذة من وصيت الشيء بالشيء؛ أي: وصلته.

الوصية في الشرع: هبة الإنسان غيره عينًا، أو دَيْنًا، أو منفعة، على أن يملك الموصى له الهبة بعد موت الموصي.

حكم الوصية:

الوصية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع؛ أما الكتاب فقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106].

ومن السنة: روى الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده))؛ [البخاري حديث (2738)، مسلم حديث (1627)].

وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على جواز الوصية.

ولا تجب الوصية إلا على مَن عليه دَين، أو عنده وديعة، أو عليه واجب يوصي بالخروج منه، فإن الله تعالى فرض أداء الأمانات، وطريقه في هذا الباب الوصية، فتكون مفروضةً عليه، فأما الوصية بجزء من ماله، فليست بواجبة على أحد في قول الجمهور؛ قال ابن عبدالبر: “أجمعوا على أن الوصية غير واجبة، إلا على مَن عليه حقوق بغير بينة، وأمانة بغير إشهاد”؛ [المغني لابن قدامة، ج: 8، ص: 389 – 391].

أركان الوصية:

أركان الوصية أربعة؛ وهي:

أولًا: صيغة الوصية:

تتكون صيغة الوصية من الإيجاب والقبول، ويتم الإيجاب بكل لفظ يدل على التمليك بعد الموت؛ كقول الموصي: وصيت لك بكذا، أو وصيت لفلان بكذا، أو أعطوه من مالي بعد موتى كذا، أو جعلت له كذا بعد موتي، أو نحو ذلك مما يؤدي معنى الوصية.

وتنعقد الوصية بالكتابة كاللفظ تمامًا باتفاق الفقهاء، وتنعقد وصية الأخرس بالإشارة الواضحة المفهومة.

وأما القبول فيتم بكل لفظ يدل على القبول، أو بكل تصرف يدل على الرضا من الموصى له؛ [الموسوعة الفقهية الكويتية، ج: 43، ص: 226 – 230].

ثانيًا: الموصي:

يشترط فيمن صدرت منه الوصية ما يلي:

1- أن يكون بالغًا، عاقلًا، رشيدًا، وأهلًا للتبرع.

2- أن يكون حرًّا، فلا تصح وصية العبد؛ لأن الوصية تبرع، والعبد ليس من أهل التبرع، لأنه لا يملك شيئًا حتى يملِّكَه لغيره.

3- أن يكون الموصي راضيًا مختارًا، لأن الوصية إيجاب ملك، فلا بد من الرضا؛ [الموسوعة الفقهية الكويتية، ج: 43، ص: 234 – 236].

فائدة مهمة:

لا يشترط أن يكون الموصي مسلمًا وذلك باتفاق الفقهاء فتجوز وصية غير المسلم للمسلم؛ [الموسوعة الفقهية الكويتية، ج: 43، ص: 236 – 237].

ثالثًا: الموصى له:

يشترط في الموصى له ما يلي:

1- أن يكون الموصى له موجودًا وقت الوصية، فتجوز الوصية للجنين في بطن أمه.

2- أن يكون الموصى له أهلًا للتملك.

3- أن يكون الموصى له معلومًا.

4- ألَّا يكون الموصى له قاتلًا للموصي.

5- ألَّا يكون الموصى له وارثًا عند موت الموصي.

روى الترمذي عن أبي إمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: ((إن الله تبارك وتعالى قد أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث))؛ [حديث صحيح، صحيح الترمذي للألباني حديث (1721)].

وذلك لما في إيثار بعض الورثة من غير رضا الآخرين من ضرر يؤدي إلى الشقاق والنزاع، وقطع الرحم، وإثارة البغضاء والحسد بين الورثة؛ [الموسوعة الفقهية الكويتية، ج: 43، ص: 238 -246].

رابعًا: الموصى به:

الموصى به: هو ما أوصى به الموصي من مال أو منفعة، ويشترط للشيء الموصى به شروط؛ هي:

1- أن يكون الموصى به مالًا؛ لأن الوصية تمليك، ولا يُملَكُ غير المال، والمال الموصى به يشمل الأموال النقدية والعينية، والديون التي في ذمة الغير، والمنافع كسكنى الدار وزراعة الأراضي ومحصول البستان في المستقبل، ونحو ذلك مما يصح بيعه وهبته وإجازته.

2- أن يكون الموصى به متقومًا في عرف الشرع، فلا تصح الوصية من مسلم ولا لمسلم بمال غير متقوم؛ أي: لا يجوز شرعًا الانتفاع به؛ كالخمر، والخنزير، والكلب العقور، والسباع التي لا تصلح للصيد لعدم نفعها وتقومها، ولأنها لا تُملَك أصلًا بالنسبة للمسلم.

3- أن يكون الموصى به قابلًا للتمليك؛ كالوصية بثمار حديقة، أو حمل في بطن شاة.

4- أن يكون الموصى به مملوكًا للموصي وقت الوصية.

5- ألَّا يكون الموصى به معصية أو محرمًا شرعًا؛ [الموسوعة الفقهية الكويتية، ج: 43، ص: 254 – 258].

طرق إثبات الوصية:

تثبت الوصية بطرق الإثبات الشرعية كشهادة عدلين وكالكتابة؛ [الموسوعة الفقهية الكويتية، ج: 43، ص: 281 – 283].

مقدار المال الذي تستحب الوصية فيه:

يستحب أن يكون المال الموصى به أقل من ثلث التركة ولا تزيد عن الثلث؛ روى الشيخان عن سعد رضي الله عنه قال: ((عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجعٍ أشفيتُ منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغني ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا، الثلث، والثلث كثير؛ إنك أن تَذَرَ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس))؛ [البخاري حديث (2742)، مسلم حديث (1628)].

استحقاق الوصية:

لا يستحق الموصى له الوصية إلا بعد موت الموصي، وبعد سداد ديونه كلها؛ وذلك لأن سداد الدَّين واجب، والوصية تبرع، والواجب مقدم على التطوع.

روى ابن ماجه عن علي بن أبي طالب قال: ((قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدَّين قبل الوصية، وأنتم تقرؤونها؛ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]))؛ [حديث حسن، صحيح ابن ماجه للألباني حديث (2195)].

كتابة الوصية والشهادة عليها:

يستحب للمسلم أن يكتب وصيته ويُشهِدَ عليها؛ لأجل حفظها ولضمان تنفيذها، ومنعًا من احتمال جحودها وإنكارها؛ [المغني لابن قدامة، ج: 8، ص: 472 – 473].

روى الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده))؛ [البخاري حديث (2738)، مسلم حديث (1627)].

ما يُكتَب في أول الوصية:

روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: ((كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: هذا ما أوصى فلان بن فلان، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَن في القبور، وأوصى مَن ترك بعده من أهله أن يتقوا الله حق تقاته، وأن يصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]))؛ [حديث صحيح، إرواء الغليل للألباني حديث (1647)].

مبطلات الوصية:

مبطلات الوصية:

تبطل الوصية بعدم استيفائها الشروط المعتبرة في أركانها، لكن أظهر ما يبطلها ستة أمور:

1- موت الموصى له؛ وذلك لأن الوصية إنما يملكها الموصى له بعد موت الموصي، فإن مات قبل الموصي بطلت الوصية؛ لأنه لم يملكها بعد.

2- قتل الموصي من قِبَلِ الموصى له؛ لأن القتل يمنع الوصية فلو قلنا بعدم بطلان الوصية بالقتل لفتحنا بابَ شرٍّ عظيمٍ.

3- تلف الموصى به؛ فمتى تلف الموصى به بطلت الوصية، فلو أوصى الميت لزيد بمال أو سيارة مثلًا فتلفت باحتراق أو غيره، فإن الوصية تبطل.

4- وزاد بعضهم أمرًا رابعًا، وهو إذا جُنَّ الموصي جنونًا مطبقًا واتصل الجنون بالموت، والجنون المطبق هو الجنون الذي يستمر سنة عند محمد بن الحسن، وقال أبو يوسف: هو الذي يستمر شهرًا، وعليه الفتوى.

5- إنكار الموصي للوصية وجحودها، فمتى أنكر الموصي أنه أوصى لزيد بكذا فإنها تبطل؛ لكونه لا يريد إيصالها له.

6- رِدَّة الموصي أو الموصى له، فإذا ارتد أحدهما بطلت الوصية؛ [لمحات مهمة في الوصية، سليمان الجاسر].

أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

(المصدر: مجلة المجتمع / نقلاً عن شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى